دراسات

الكموميّة.. العالمُ الاحتماليّ.. وإشكاليّة الوعي

الحديث عن النظرية الكمومية، بعد أكثر من مئة عام على انتشارها، وبالتحديد في عام 1900 يشبه الحديث – إلى حدٍّ ما- عن الأمور الخارجة عن العقل، عن الجنّ والأرواح الشيطانية مثلاً، عن أمورٍ ميتافيزقية أو ما وراء الطبيعة، فهي تصفع قوانين المنطق بشكل مباشر، وتتعارض مع الفيزياء الكلاسيكية التي نعيشها كلّ يوم.
هو عالم احتماليّ، بعيد عن الواقع الذي نعيشه، مدهشٌ لدرجة الشكّ في الوعيّ الإنساني، هل هذا الوعي هو نتيجة الكمّ، أم الكمّ نتيجة له؟! هذه التناقضات والتخمينات التي أثارتها النظرية الكمومية دفعت أحد أهمّ رواد هذه النظرية، وهو نيلس بور أن يقول: إنّ أي شخص لم تصدمه النظرية الكمّية فهو لم يفهمها بعدُ.!
إذن فهي نظرية تصدمك، لأنها تجعلك تعيش حالة الاحتمالات، بحيث يفصل بينك وبين عالمها سِتار، لا تستطيع أن تتكهّن بما يجري وراءه إلا إذا رفعته!
ولكي نبدأ بوضع فكرة النظرية الكمومية، يجب أن نشرحها فيزيائيا أولا، ثم ننعطف إلى علاقتها بالفلسفة وقوانين المنطق الأرسطي، وفي كلّ ذلك ستجد العجب العجاب، والمتعة الفكريّة في ذات الوقت.

الفيزياء الكلاسيكيّة والفيزياء الحديثة
الفيزياء تنقسم باختصار إلى قسمين أساسيين، وهما الفيزياء الكلاسيكية؛ والفيزياء الحديثة، وتنقسم الفيزياء الحديثة بدورها وبشكل خاص إلى فيزياء الكمّ؛ كما تشمل النظرية النسبية، ويمكن اعتبار أنّ الفيزياء الحديثة هي فيزياء القرن العشرين والواحد والعشرين.
وتقوم الفيزياء الكلاسيكيّة التي وضعها العالم المعروف نيوتن وعلماء آخرين كـ ماكسويل، بدراسة وتفسير حركة وتصرّفات الأجسام الكبيرة (Macro particles) مثل: الجزيئات المادية والأحجار وأجسامنا والسيارات والسفن وأيضاً الكواكب والنجوم والمجرات …. إلخ. يعني جميع الأجسام التي حجمها أكبر من حجم الذرة.
ولكن علماء الفيزياء وجدو أنّ قوانين الفيزياء هذه لا تنطبق على الجسيمات دون ذرية، مثل البروتونات والنيوترونات والإلكترونات وغيرها .. ووجدوا أنّ تلك القوانين عاجزة عن تفسير مختلف الظواهر الطبيعية التي تحدث في هذا العالم دون ذري أو (Micro particles)، فبدأ العلماء بطرح مجموعة من الفرضيات، واختبارها على الجسيمات التحت ذرية، إلى أن توصوا إلى نظرية شاملة تدرس وتفسر تلك الظواهر، اعتماداً على قوانين مختلفة تماماً لقوانين الفيزياء الكلاسيكية بل ومخالفة للمنطق والمبادئ العقلية أحياناً وأسموها النظرية الكمّية أو ميكانيكا الكمّ، ومن هنا جاءت فيزياء جديدة مختلفة تماماً عن الفيزياء الكلاسيكية وهي فيزياء الكم (Quantum Physics).
إذن فيزياء الكمّ هي التي تدرس وتفسّر حركة وتصرفات الجسيمات الدقيقة مثل: البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والكواركات؛ يعني جميع الأجسام التي حجمها أصغر من حجم الذرة.
وقبل أن نبدأ بشرح مبدأ هذه النظرية يجب أن نؤكد أنّ النظرية الكمومية هي مجرد نظرية علميّة، لأنّه ولحدّ الآن لم تستطع نظرية الكمّ تفسير كلّ الظواهر التي حدثت وتحدث في العالم تحت الذريّ، فهي لحدّ الآن تفشل في تفسير بعض الظواهر، لذلك فهي مجرّد نظرية، ولم ترتق بعد الى أن تكون حقيقة علميّة، ولكنّها طبعاً نظرية قوية، وتفسّر أشياء كثيرة جداً وبطرق أغرب من الخيال كما سنرى.
ونستطيع القول إنّ النظرية الكموميّة بدأت مع تفسير سلوك الضوء، فبعد اكتشاف المصباح الكهربائي من قبل العالم أديسون، لاحظ العلماء أنّه كلما زادت سخونة فتيل المصباح يتغير لون الضوء من الأحمر إلى البرتقالي ثم الأصفر، حتى يصل إلى اللون الأبيض، وهذا الأمر كان مجهولاً وقتها، وقد تولّى العالم ماكس بلانك (الذي طرح النظرية الكمومية عام 1900) تفسير هذه الظاهرة، وقد كان السؤال، لماذا لا يتحوّل الضوء إلى اللون الأزرق، وما بعد الأزرق كالأشعّة فوق البنفسجية، طالما أنّ الفتيل يتم تسخينه على مراحل؟
وظهرت هنا مشكلة الجسم المشعّ للحرارة، فعندما قام العلماء بتسخين جسم، فإنّ أقصى ما يصل إليه لون الجسم هو الأبيض، وقد وجدوا نفس السلوك في الشمس أيضاً، رغم أن حرارتها عالية جداً (إلا القليل من الأشعة فوق البنفسجية)، هذه المسالة أربكت علماء القرن التاسع عشر لدرجة أنهم أسموها بكارثة الأشعة فوق البنفسجية.
في تجربة أخرى، تُسمى المِكشاف الكهربي ذي الورقات الذهبية، فعندما يتمّ شحن الورقتين بالإلكترونات؛ تتباعدان، وعند تركيز ضوء أصفر أو أبيض على المِكشاف لا يحدث أي تغيير، لكن عند تسليط ضوء أزرق خاص غني بالأشعة فوق بنفسجية على المِكشاف، تنطبق الورقات، وكأنّ الضوء قام بتفريغ الإلكترونات الموجودة في الورقتين، هذه الظاهرة سميت فيما بعد بظاهرة التأثير الكهروضوئي.
حتى ذلك الوقت؛ أي في عام 1905 كان العلم يعتبر أنّ الضوء عبارة عن موجات، والموجة إذا زادت طاقتها يصبح لها قدرة أكبر، حيث أنّ طاقة الموجة هي حاصل جداء التردّد بثابت بلانك، لكن مع ذلك لم تستطع هذه الطاقة (والحديث هنا عن الضوء الأبيض) أن تحرّر الإلكترونات من الورقتين الذهبيتين، رغم أنّ له تأثيرا محدود في تجارب أخرى.
وفي نفس العام دخل العالم الألماني آلبرت أينشتاين على الخط، وجاء بفكرة ثورية، حيث اعتبر الضوء عبارة عن جسيمات، وأنّ تسليط هذه الجسيمات على المِكشاف الكهربائي هي التي اصطدمت بالإلكترونات وقامت بتحريرها. هذه الجسيمات عرفت فيما بعد باسم الفوتونات، وقال أينشتاين بأنّ شعاع الضوء هو المسار الذي يسلكه الفوتون. وأنّ فوتونات الضوء الأحمر يحمل كمية قليلة جداً من الطاقة، وذلك لأنّ الضوء الأحمر له تردّد منخفض، لذا حتى الضوء الأحمر الشديد السطوع والذي يحمل الكثير من الفوتونات، لا يستطيع تحرير أيّ إلكترونات من سطح المعدن، أما فوتونات اللون الأزرق الغنيّ بالأشعة فوق البنفسجية، فتحمل طاقة أكبر، لأنّ الأشعة فوق البنفسجية لها تردّد أعلى.
كان هذا الإنجاز الذي قدّمه أينشتاين بتفسيره لظاهرة التأثير الكهروضوئي، هو سبب حصوله على جائزة نوبل للفيزياء، على عكس توقّع البعض أنّه أخذ الجائزة عن وضعه للنظرية النسبية، لأنّ النسبية وقتها كانت مجرد نظريّة، ولم تكن حقيقة علميّة؛ أي بمعنى آخر هي لم تقدّم شيئاً للبشرية!
هذا التفسير قام بحلّ مشكلة كارثة الأشعة فوق البنفسجية أيضاً، حيث أنّ هذه الأشعة تستلزم طاقة أكبر لإنتاجها، لأنّها تحتاج إلى طاقة أكبر بـ 100 مرة من الطاقة اللازمة لإنتاج الضوء الأبيض، وبذلك تكون الأشعة الفوق بنفسجية تحمل طاقة أكبر، بحيث كانت قادرة على تحرير الإلكترونات من الورقتين الذهبيتين.
بهذا التفسير العبقري من أنشتاين، استطاع أن يحلّ كلّ المشاكل المتعلقة بالضوء، لكن ذاك التفسير أنتج معضلات أخرى.
كيف للضوء أن يكون ذو طبيعة موجية وجسيمية في نفس الوقت؟
بعدها جاء العالم لويس دبروي الفرنسي، وقال إن فكرة أن الضوء ذات طبيعة موجية وجسيمية، تنطبق في نفس الوقت على الإلكترونات، بل يجب أن تنطبق على كلّ الجسيمات ما دون ذرية، وقد تم البرهنة على ذلك عن طريق نفس تجربة الشقّ المزدوج التي سنشرحها بعد قليل.
والتطورات والتجارب التي أتت بعد ذلك جعلت العقول في حيرة، خاصة تجربة الشقّ المزدوج، والتي أعطت تعريفاً فلسفياً لميكانيكا الكمّ، وهو أنها تأثير الوعي على عملية الرصد! هو تعريف غريب جداً ولكن هذا ما يحدث.
سنبدأ شرح النظرية مع تجربة علميّة تعتبر من أهم التجارب التي بنيت عليها ميكانيكا الكمّ، وهي تجربة الشقّ المزدوج.

شرح تجربة الشق المزدوج (Double Slit) :
هذه التجربة قام بها العالم كلاود جانسون من أجل معرفة سلوك الإلكترونات والتي هي جسيمات أو (particles) (يعني مثل حبات الرمل) هل هي دائماً تتصرف كجسيمات، أم أنها يمكن أن تتصرّف كموجات (waves)، كأمواج الصوت أو أمواج البحر، ولكي نبسّط هذا المفهوم دعونا نعطي مثالا بسيطا، قبل أن نستكمل شرح التجربة .. تصوّروا معي أنّ لدينا كرات صغيرة نقوم برميها على جدار به فتحتان، بحيث يمكن لكلّ فتحة تمرير كرة واحدة فقط في كل رمية، ومن خلف الفتحتين لدينا جدار حساس؛ بحيث لو دخلت أي كرة من أي فتحة لابدّ أن تضرب في هذا الجدار وتترك اثراً عليه (على شكل نقطة) وبالتالي إذا قمنا برمي الكرات باتجاه الشقين أو الفتحتين، فإنّه سوف يرتسم على الجدار الخلفي خطان عموديان من النقاط من أثر ضربات الكرات، وهذا ما يحدث بالفعل في حالة الكرات (الجسيمات) وهذا القانون سارٍ على كل الجسيمات(particles)  فهو ظاهرة طبيعية جداً، بينما في حالة قيامنا بنفس التجربة على الأمواج (waves) ولتكن مثلاً أمواج الماء فنقوم بدفع الأمواج لكي تخرج من الشقين وتضرب في الجدار، فهنا سوف يظهر لنا على الجدار مجموعة من الخطوط العمودية من أثر ضربات الأمواج؛ لأنّ كلّ موجه كما تعلمون لديها ذروة، وهذه الذروة تمثل قوة الموجة (بحيث لو لمست الجدار تترك أثراً عليه)، ولكن لأنّ هناك شقين، فإنّ الأمواج التي ستخرج من كل شقّ سوف يحدث لها تداخل (تكامل وهدم)، وبالتالي كلّ موجه تدخل من الشقين سوف يتولد عنها عدة موجات بسبب ظاهرة التداخل الموجي وبالتالي سوف تضرب هذه الامواج على الجدار وتترك كلّ موجة أثرها على الجدار في شكل خط عمودي، وبالتالي سوف يظهر لدينا على الجدار مجموعة من الخطوط العمودية المتوازية، وهذا القانون سار على كلّ الامواج، فهو ظاهرة طبيعية جداً بسبب خصائص الأمواج .
والآن نعود لتجربة كلاود جانسون، والتي قام فيها بتطبيق نفس هذه التجربة على الإلكترونات:
بنفس الطريقة، لدينا جدار به شقّ مزدوج ومن خلفه شاشة تسجيل (شاشة تظهر أثر الإلكترون عند سقوطه عليها) ولدينا جهاز يقوم بقذف الالكترونات باتجاه الشقّ المزدوج، وطبعاً كلنا نعلم أنّ الالكترونات هي جسيمات مادية (مثل الكرات) وبالتالي النتيجة المتوقعة في كلّ الأحوال هي أن تسجّل لنا الشاشة خطين عموديين من أثر سقوط الإلكترونات الداخلة من الشقين عليها .. ولكن النتيجة لم تكن كذلك، ففي حالة دخول إلكترون عبر شق مزدوج بدون رصد فسوف يشكل لنا حالة تداخل (دالة موجية) على الشاشة، بينما إذا قمنا برصد هذا الإلكترون الداخل عبر شق مزدوج فإنّه سوف يتجسّد في شكل جسيم، ويترك أثره في شكل نقطة على الشاشة.
إذاً رصد أو مراقبة الإلكترونات جعل دالتها الموجية تنهار؛ أي أنّ عملية رصد الالكترون حوّلت الإلكترون من موجات الى جسيمات!
أو بعبارة أدقّ، فإنّ عملية مراقبة الإلكترون جعلته يتخذ سلوكاً واحداً فقط، من بين كلّ الاحتمالات التي كان يسلكها قبل عملية الرصد (المراقبة)، وبالتالي فالنتيجة أنّ الالكترون إذا لم تتم مراقبته سوف يكون في أي مكان ممكن أن يكون فيه في نفس الوقت!
وبتعبير أبسط، عندما يسلك الإلكترون سلوك الموجة، هذا يعني أنّه يجب أن يتواجد في كلّ مكان في نفس الوقت حتى يشكّل حالة التداخل على الشاشة، وبمعنى أبسط أيضاً أنّ كلّ إلكترون يمر في الشقين بنفس الوقت ويتداخل مع نفسه ليشكل حالة التداخل، وهذا ما ناقض قوانين المنطق الأرسطي تماماً، كما يناقض العقل، فلو قسنا الأمر على الإنسان، لا يمكن لشخص أن يتواجد في مكانين بنفس الوقت، أما في عالم الكمّ فهذا ممكن.
هذه الظاهرة “وجود الإلكترون في كلّ مكان” يسميها علماء ميكانيكا الكم بظاهرة أو حالة Superposition (التراكب الكمّي).
ومن هنا جاءت فكرة نظرية الأكوان المتعددة التي تقول بأنّه يوجد عدد لا نهائي من الأكوان .. وفي كلّ كون هناك أحد الاحتمالات الممكنة لكلّ موجود في كوننا هذا (أو بعبارة أخرى؛ كلّ ما كان ممكنا أن يحدث هنا في كوننا هو يحدث في أحد هذه الأكوان اللانهائية).
إذا الإلكترونات تستطيع أن تغيّر سلوكاتها بحسب الرصد، وتتشكّل في صورة احتمال واحد فقط معيّن، لمجرد رصدنا لها وبحسب نظرية الكم فإنّه لو استطعنا التحكّم في طريقة رصدنا ومراقبتنا للإلكترون، فسوف نستطيع إجباره على اتخاذ سلوك معين أو سوف نستطيع جعل الإلكترون يتجسّد في الاحتمال الذي نريده!
بالنسبة لتجربة الشقّين هناك تفاصيل أخرى لمن يريد أن يتوسّع، حيث تبيّن إنّه يمكن التأثير حتى على ماضي الإلكترون بنفس التجربة؛ مع بعض التطوير في أدواتها.
الوعي والنظرية الكمومية
الوعي الإنساني ما زال حتى الآن لغزاً من ألغاز العلم، فهو بتعريف بسيط الإحساس الداخلي بالوجود، فأنت تشعر بوجودك، تشعر بوجود الأشياء من حولك، لم يفهم العلماء حتى هذه اللحظة جوهر الوعي الإنساني، فمنهم من قال إن الوعي هو الحالة العقليّة التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا.
ومنهم من قال إنّ الوعي كلمة تعبّر عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك، وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجيّ، عن طريق منافذ الوعي التي تتمثّل عادة بحواس الإنسان الخمس.
ومنهم من قال أنّ الوعي مستويات، فقد تكون بعض الحيوانات – حسب تعقيد تطورها – لها وعي محدود بما حولها،
واعتبرت الفلسفة أنّ الوعي هو جوهر الإنسان، وخاصيته التي تميزه عن باقي الكائنات الحية الأخرى، حيث إنّ الوعي يصاحب كلّ أفكار الانسان وسلوكه.
وبالنسبة للنظرية الكمومية فقد تتالت التكهّنات الفلسفية، وارتباطها بالوعي البشري بعد التجارب التي أجرتها العلماء، حيث يقول أحد علماء فيزياء الكمّ في محاضرة؛ معلّقاً على تجربة الشقّ المزدوج: يمكن لنا أن نستخلص من كلّ هذا حقيقة واحدة وهي أنّ “الواقع من صنع وعينا وعقلنا”، وذلك تعليقاً على التجربة: وهو أنّ رصدنا للإلكترون هو ما جعله يتخذ سلوك معين (موجي أو جسيمي).
وبالتالي فإنّ كلّ ما نراه ونسمعه ونحسّه ونتذوّقه ونشعر به في هذا الكون، هو في الحقيقة مجرّد أشياء يصنعها عقلنا ووعينا من بين ملايين أو مليارات أو ما لانهاية من الاحتمالات لوجود أشياء أخرى كانت محتملة الحدوث في واقعنا غير ما حدث بالفعل وأدركناه نحن في هذا الواقع !!
إذا فالكون (وكلّ ما فيه، سواء أنا أو أنت أو أي شيء كان) هو عبارة عن احتمالات كثيرة ولا نهائية غير مادية (أمواج – طاقة) ورصدنا للكون يجعل هذه الاحتمالات تتجسّد في احتمال مادي واحد، وهذا الرصد أو المراقبة أو المشاهدة أو التعاطي يكون بالعقل ويدرك بالوعي، وبالتالي فإنّ عقلنا هو المتحكّم في كل الواقع الذي نعيشه!
قرّب انشتاين تلك الفكرة باحتجاجه على مفهوم النظرية الكمومية بقوله: أنا لا أحبذ أن يكون القمر غير موجود عندما لا ننظر إليه، مشيراً إلى علميّة الرصد في النظرية الكمومية، لكن هذا ما يحدث فعلاً عند إسقاط هذه النظرية على الواقع المعاش.
عند مراقبة مسار الجسيمات حتى لو كانت هذه المراقبة لا تزعج حركة الجسيمات (بمعنى أن نوحي لها أنّنا لا نراقبها)، فإنّنا نغير النتيجة، يقول الفيزيائي باسكال جوردان (Pascual Jordan) الذي عمل مع المعلّم الكمي نيلز بور (Niels Bohr) في كوبنهاغن في عشرينيات القرن الماضي: إنّ المراقبات لا تزعج ما يجب قياسه فحسب، بل تنتجه، نحن نجبر الجسيم الكمومي على اتخاذ موقف محدّد، بعبارة أخرى نحن ننتج نتائج القياسات بأنفسنا.

العلاقة بين الناظر والمنظور إليه في فيزياء كوانتم
في كتابه مانيفستو الحضارة الديمقراطية، يذكر الفيلسوف عبد الله أوجلان أساليب الوصول إلى الحقيقة، وقد بدأ تاريخياً بالأساليب التي أثّرت في البشرية، والتي سَعت من خلالها إلى الحقيقة، منها الميثولوجيا، والدين، والعلم.. إلخ.
وعند تناوله للعلم كأسلوب للبحث عن الحقيقة، تناول مفهوم النظرية الكمومية بعين الناقد، فهو يرى بأنّ: (البحث في المادة داخل الإنسان هو الأسلوب الأقربُ إلى الصحّة. ولكن؛ يبدو من غير الممكن الوصولُ إلى التفسير الأقرب إلى الصحة للمادة داخل مختبرات الحداثة المعزولة بإحكام. في حين أنّ العلاقة بين الناظر والمنظور إليه في فيزياء كوانتم لا تعترف إطلاقاً بالقياس الأكيد المجزوم به، فمثلما يُجري الناظر تغييرات على المادة بمقدور المنظور إليه أيضاً إفلاتُ نفسه من عين الناظر ضمن شروط المختبرات).
طبعاً هو يقصد علاقة الوعي بالنظرية، فالعالم الاحتماليّ للنظرية الكمومية، يجعل من الصعب تحديد حالة جسيم معين، والنظرية الكمومية غير قادرة على تحديد الإدراك الصحيح لدى الانسان، لأنّه وكما صار معروفاً، فالناظر يمكن أن يجري تغييرات على المادة عن طريق الرصد (عند رصد إلكترون تنهار دالته الموجيّة ويتحوّل إلى جسيم)، كما أنّ المنظور إليه وهو الإلكترون مثلاً (حتى لو قمت بخداعه؛ كأن توحي إليه بعدم المراقبة) يعرف مسبقاً أنك تخدعه وتراقبه فيسلك سلوك الجسيم، ويفلت من الناظر أو المراقب.
لذا يجد أوجلان أنّه ما من مختَبرٍ أعظمُ وأفضل إحكاماً من الإنسان، والإدراك الصحيح غير ممكن لدى الانسان إلا بالاستبطان (Introspection)، وأنّ مكان المبادئ الأساسيةِ فيما يخصُّ الانسان موجودٌ في الإدراك الحسّي (Perception).
والاستبطان هي عملية مراقبة الشخص لعملياته العقلية، بغية استكشاف القوانين التي تحكم العقل، منها التأمل مثلاً، كما أنّ الإدراك الحسي هي عملية تأويل الإحساسات تأويلاً يزوّدنا بمعلومات عما في عالمنا الخارجي من أشياء، أو هو العملية التي تتم بها معرفتنا لما حولنا من أشياء عن طريق الحواس، كأن أدرك أنّ هذا الشخص الماثل أمامي أستاذ في الفلسفة، وأنّ ذلك الحيوان الذي أراه هو قطّ، وأنّ هذا الصوت الذي أسمعه هو صوت طائرة، وأنّ هذه الرائحة التي أشمها هي رائحة العطور.

النقل الآني (Teleportation) في النظرية الكمومية، والتشابك الكمومي Quantum Entanglement:
مصطلح النقل الآني جاء من كلمتين الأولى اتصالات: telecommunications؛ والنقل: transportation، وقد جاء بالأصل من مخيّلة كتّاب روايات الخيال العلمي، أو يمكن القول إنّهم من تنبؤوا به، وأوضحُ مثال هو سلسلة أفلام حرب النجوم، ففي هذه السلسلة ينتقل الأبطال ضمن مجرّات مختلفة تبعد عن بعضهما البعض ملايين السنوات الضوئية، فكيف فعلوا ذلك؟
نحن الآن أحد أبطال سلسلة حرب النجوم، ونريد السفر إلى مجرة أخرى بهدف إنقاذ أحد الأبطال الآخرين، فما لنا إلا أن نتوجّه نحو غرفة تشبه المصعد، وبعد أن ندخل الغرفة ونضغط على الزر الأحمر الكبير، تبدأ أصوات عالية بالهدير، ويبدأ شعاع ليزر بمسح جسدنا من الرأس حتى القدم، لنبدأ بعدها بالشعور بذرات جسمنا تتدمر الواحدة تلو الأخرى، ومن ثم نغيب عن الوعي قليلاً لنجد أنفسنا أو (نسخة عنا ربما) بعد ذلك في غرفة أخرى ولكن في المجرة الهدف.
إذا الانتقال الآني، ليس انتقالاً بالمعنى المعروف للكلمة، وإنما هو أقرب إلى تدمير نسخة وإنشاء نسخة أخرى طبق الأصل عنها في المكان الهدف، كما نفعل يومياً على حواسبنا، ولكن الفرق أنّ البشر ليسوا ملفّات حاسوبية، بل هم عبارة عن كميات هائلة من الذرات، وهذا ما لم يأخذه كتّاب الخيال العلمي بعين الاعتبار.
في ميكانيكا الكم، وبتبسيط مخلّ اكتشف العلماء أنّ إلكترونين أو فوتونين إذا كانا من نفس المنشأ؛ بحيث يكونان متشابكين كمومياً، فإنّ أثّرت على أحدهما، فإنّ هذا التأثير سينتقل إلى الإلكترون الآخر في لا زمن؛ حتى لو كان على مسافة ملايين السنوات الضوئية.
إذن فكلّ إلكترون في جسدك، وكلّ بروتون أو أيّ جسيم مادي، له جسيم آخر متشابك معه كمومياً. إحدى التجارب التي قام بها فريق بحث في جامعة جنيف؛ يقوده الفيزيائي السويسري نيكولاس جيزين عام 2015؛ تمثّلت في إصدار فوتونين من نفس المنبع الضوئي، وحصل بينهما تشابك كمّي في محملين مختلفين فتمّ وضع الفوتون الأول “أ” في أسلاك من الألياف البصرية بينما حُبس الثاني “ب” داخل تركيبة بلورية، وتم إصدار فوتون ثالث وهو “ت” في الاتجاه المعاكس للفوتون “أ” داخل سلك الألياف البصرية ليصطدم به ويتحطم كليهما، لكن الغريب هو ملاحظة أثر الاصطدام الذي حصل للفوتون “أ” على الفوتون “ب” رغم وجوده على مسافة 25 كلم.
وحتى نفهم بالضبط ما علاقة النقل الآني بميكانيكا الكمّ، سوف نعود قليلاً بالزمن لنتعرف على تجربة تدعى (EPR) الأحرف الثلاثة الأولى لأسماء كل من ألبرت أينشتاين، وبرويس بودولسكي، ونيثن روزن، التي أوجدوها لقتل فكرة إدخال الاحتمالية إلى الفيزياء مرة وللأبد، لأنّ آينشتاين لم يكن مقتنعاً بالاحتماليّة، وكانت جملته المشهورة: إن الله لا يلعب النرد؛ ناتجة عن عدم قناعته، ولعبة النرد احتمالية كما هو معروف.
تقوم التجربة التخيّلية التي قاموا بها على وجود تناغم بين الكترونين، فإذا اهتزا من البداية بتوافق، فيمكنهما أن يظلّا في حالة من التناغم الموجي، مهما كانت المسافة التي تفصل بينهما، حتى لو بلغت عدداً من السنين الضوئية، وعلى الرغم من المسافة الكبيرة إلا أنّ هناك موجة شرودينغر غير المرئية تربط بين الإلكترونين كالحبل السرّي، ولو حدث شيء لأحد الإلكترونين فسينتقل بعض المعلومات فوراً إلى الإلكترون الآخر.
والتجربة هذه كانت تخيليّة ذهنيّة بالنسبة للعلماء الذي قاموا بها، وكانت النتيجة هو انتصار الكمومية، ووقتها قال اينشتاين مستغرباً: كأنّه تأثير شبحي عن بعد، فبنظر أينشتاين لا يمكن لشيء أن ينتقل في الكون بسرعة أكبر من سرعة الضوء، لكن ظهر أنّ هذا ممكن، وقد تم إثبات هذه التجربة معمليّاً عندما أجريت في الثمانينات في فرنسا.
النقل الكمومي في أيامنا هذه لا يمكن أن يُطبّق على الأجسام الكبيرة، كالكائنات الحية، وما هو أكبر من ذرة؛ ولا حتى بعض أنواع الذرات، فالانسان المتوسط الحجم مثلاً يحتوي على أكثر من مليار مليار مليار ذرة. وعند نقل ذرة واحدة فقط فأنت بحاجة إلى مسح المحتوى المعلوماتي لكلّ مكوّن داخل الذرة (إلكترونات وبروتونات وكواركات).
استطاع العلماء فقط أن ينقلوا ذرات سيزيوم وريبيديوم، كما قاموا بنقل فوتون لمسافة معينة كمومياً، واستطاع علماء من استراليا نقل شعاع ليزر على مسافة أمتار والنقل هنا كما قلنا ليس له علاقة بفيزياء نيوتن، والتي تقول أن أي جسم تريد نقله تحتاج إلى قوة لدفعه. إنما النقل هنا يعني أن تعدم فوتون، وتخلقه في مكان آخر!. وهذا من أغرب خصائص النظرية الكمومية.
أما على مستوى الإنسان، فما سيحدث هو موت هذا الانسان، وبصورة أدق تدمير ذراته الواحدة تلو الأخرى، ثم ظهور المحتوى المعلوماتي لجسمه في مكان آخر، أو يمكن القول نسخة طبق الأصل عن هذا الإنسان، ولكنّه ليس ذات الإنسان، وهذا ما سيقودنا إلى سؤال فلسفي مهمّ، فمن هذا الذي ظهر في النقطة الهدف؟ هل هو ذات الانسان الذي انطلق في البداية أم لا؟

تطبيقاتُ النظرية الكمومية، والنُّظم البيولوجية
النظرية الكمومية مع عدم قدرتها على تفسير كلّ شيء، لكنّها في نفس الوقت أعطت البشرية تقنيات هائلة، فالمصباح الكهربائيّ، وكلّ الأدوات الإلكترونية من هواتف، وأجهزة التلفزة، وحواسيب محمولة وغير محمولة، وأشعة الليزر، والأجهزة الطبية الحديثة؛ وجميع النعم التي تعيشها الآن هي من إنجازات هذه النظرية، والحديث جارٍ الآن عن بناء الحاسب الكمومي، والذي إن تم إنشاءه فستكون الحواسب الحالية بمثابة العربة البخارية أمام السيارات ووسائل النقل الحديثة؛ بل أكثر من ذلك، حيث ستزيد سرعته ملايين المرات عن الحواسيب الحالية الفائقة السرعة.
من الناحية البيولوجية فقد وجد باحثون على آثار كمومية على الكائنات الحية، حيث تشير الأدلة أنّ النظم البيولوجية تستخدم ظواهر ميكانيكا الكم في عدة جوانب، عملية البناء الضوئي على سبيل المثال، حيث تساهم التأثيرات الكمية على تحويل أشعة الشمس لصنع السكريات في عملية التمثيل الضوئي، لاحظ العلماء أيضًا أنّ الطيور المهاجرة لديها بوصلة كمّية خاصة، تمكّنها من استغلال المجال المغناطيسي للأرض والملاحة، كما أنّ حاسة الشم لدى الإنسان تستند على إحدى أهم خصائص ميكانيكا الكم، فقد كان يُعتقد أنّ حاسّة الشم تعتمد على شكل الجزيئات، لكنّ النظرية الجديدة التي وضعها العالم لوكا تورين، تقول إنّ اهتزازات الجزيئات هي المسؤولة عن حاسة الشم، واختلاف الاهتزاز يؤدي إلى اختلاف الرائحة.

تكهنات مستقبلية للنظرية الكمومية
من إحدى التكهنات المستقبلية للنظرية الكمومية هو تساؤل العالم روجر بنروز، ماذا لو كانت هناك هياكل جزيئية في أدمغتنا قادرة على تغيير حالتها استجابة لحدث كمومي واحد؟ وهل يمكن لهذه التراكيب أن تتبنى حالة التراكب الكمي، تماماً مثل الجسيمات في تجربة الشقّ المزدوج؟ وهل يظهر التراكب الكمّي في الطرق التي يتم فيها تحفيز الخلايا العصبية للتواصل عبر الإشارات الكهربائية؟
وقد قال أدريان كينت (Adrian Kent) من جامعة كامبريدج أحد أكثر فلاسفة الكم احترامًا: (أؤمن بنسبة 15% أنّ شيء ما في الوعي على وجه التحديد يسبب انحرافات في نظرية الكمّ، وربما هذا سيتم الكشف عنه تجريبيًا خلال السنوات الخمسين المقبلة). وإذا حدث ذلك فهذا سيغيّر نظرتنا حول كلّ من الفيزياء والعقل، وهذه فرصة تستحق الاستكشاف.
كل ما قيل هو مجرد تكهنات، فلا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بتأثير الوعي على النظرية الكمومية أو العكس، لأنّ كلاهما حتى هذه اللحظة يعتبران ألغازاً تحتاج إلى حلول.
ختاماً.. هناك من يقول لا يمكننا فهم الحياة دون فيزياء الكمّ، وقد يكون هذا الكلام صحيحاً، فهي داخلة في كل شيء وقد يكون المستقبل لها، لأنّ العلماء حتى هذه اللحظة لم يفسّروا إلا القليل النادر من جوانب هذه النظرية.


تم الاستفادة من المراجع التالية :
-العلاقة الغريبة بين الدماغ البشري وفيزياء الكم – مقال علمي – موقع أنا أصدق العلم – آخر زيارة 14/6/2018
– الحلقة السادسة- عالم ميكانيك الكم العجيب1- مقال علمي – موقع الباحثون السوريون- آخر زيارة 15/6/2018
-ميكانيكا الكم | شرح شامل ومبسط لنظرية الكم الفيزيائية- مقال علمي -موقع مدونة شباب ويب- آخر زيارة 16/6/2018
http://www.chababwap.com/2016/08/Quantum-Mechanics.html
– الصغير الغربي – إعلامي تونسي مختص بالشؤون العلمية -الانتقال الآني هل هو ممكن؟ علوم وتكنولوجية، نشر في 23/8/2015 – موقع الجزيرة نيت – آخر زيارة 17/6/2018
https://goo.gl/XbPxTw
-عبد الله أوجلان -مانفيستو الحضارة الديمقراطية ..المدنية.

– مقاطع الفيديو
أسرار فيزياء الكم (1): كابوس أينشتين-آخر زيارة 18/6/2018
تأمل معي(25) نظرية الكوانتم: أغرب وأدق ما في الفيزياء- آخر زيارة 19/6/2018
ميكانيكا الكم│1│الواقع الوهمى – كيف بدأ الكم ؟!- آخر زيارة 20/6/2018
ميكانيكا الكم│2│هنغير فى الماضى- آخر زيارة 20/6/2018
ميكانيكا الكم│3│الاتصال الشبحى│كابوس اينشتاين- آخر زيارة 20/6/2018
كيف يعرف الالكترون أنك تراقبه؟ – دكتور كوانتم- آخر زيارة 20/6/2018

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى