دراسات

الفسادُ كظاهرةٍ سوسيولوجيّة من زمن صراع الآلهة إلى يومنا الراهن

مقدمة
يعتبر الفساد آفة العصر الحديث، واستمرارا لآفات أصيبت بها الحضارات قديما، وهو من الآفات التي تهدّد كيان المؤسّسات المجتمعية والحكومية في أيّ دولة من دول العالم، إذ أصبح الفساد “ظاهرة عامة وليست خاصة”، ولكن بنسب متفاوتة تختلف من دولة إلى أخرى، الأمر الذي يعمل على زعزعة مصداقية المؤسّسة التي ينتشر فيها، واستنزافٌ لثروات البلد، وإثقال كاهل المواطن، وبالتالي إعاقة عمل الحكومات، وغيرها من الآثار السلبية التي يسببها.
ما نشهده الآن في منطقة الشّرق الأوسطِ من ثوراتٍ قامت بها الشعوب، وإن كانت تحت شعارِ “الشعب يريد إسقاط النظام”، إلّا أنّها في الأساس هي إسقاطٌ لنظام الفساد الإداريّ والسياسيّ والأخلاقيّ والماليّ، الذي بات مرضاً عضالاً يفتك بالمجتمع، ويجعله يعيش كقطيعٍ لا همّ له سوى البحث عن لقمة العيش. هذه الثورات كانت صرخات وجدان المجتمعات والشعوب ضدّ النُظُم الحاكمة بشقيها القوموي والدينويّ، والتي عاثت فساداً خلال مسيرتها السُلطوية منذ مطلع السلطة والمدنية وحتى يومنا الراهن.

تعريفُ الفساد وأسبابه
تعدّدت تعريفات الفساد اصطلاحاً، لكنّ جميعها تشترك في وصفه بأنّه إساءة استعمال السُّلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عادة عندما يقوم موظفٌ بقبول أو طلب ابتزازٍ أو رشوة لتسهيل عَقد أو إجراء طرح لمنافسة عامة، كما يتمّ عندما يعرض وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة بتقديم رُشى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسين، وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية، كما يمكن أن يحصل الفساد عن طريق استغلال الوظيفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة، وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال الدولة مباشرة.
ومن خلال هذه التعريفات يتبيّن لنا أنّ للفساد صوراً وأشكالاً متعدّدة، منها الرشوة والمحسوبية والمحاباة والواسطة وسرقة المال العام والابتزاز والتقاعس عن أداء الواجب وعرقلة مصالح المواطنين.
وأسباب الفساد كثيرة، منها غياب المنافسة الإيجابية والتي تكون لها ضوابط مجتمعية أخلاقية، وكذلك الارتباط غير الشرعيّ بين السلطة والرأسمال، لأنّ الليبراليةَ تحرّر الشعب من استبداد الحاكمين، لكنّها لا تضمنُ عدم استبداد الرأسماليين فيه، وأيضاً ضعف الانتماء الوطني وشيوع أنماط السلوك والتفكير الاجتماعية السلبية كالنزعة القبلية والعشائرية القائمة على النسب والقرابة كمحصلة لتخلف النموّ الاجتماعي، وأخيراً تعيين العاملين على أساس الولاء ودرجة القرابة والانتماء الطائفي أو القبليّ أو العشائريّ أو السياسيّ، و ليس على أساس الكفاءة.

تطوّر الفساد حتّى وقتنا الراهن
السرقة في الميثيولوجيا بدأت منذ زمن صراع الآلهة فيما بينهم على الأحقية في ريادة المجتمع والبحث عن الخلود، وعند الفراعنة كان الخلود يعني فيما يعنيه الحصول على أكبر كميّة من الذّهب والمجوهرات وبناء المدافن الملكية، ودفن كلّ ما يملك معه، كي يستعملها في الدار الآخرة.
وكذلك السرقة الأولى التي هدفت إلى الحصول على ما لا يملكه بأسرع وقت ومن دون عمل، وهذا ما كان يعدّ من أكبر الكبائر في مراحل ما قبل بناء المدن، وحينما كان يعيش الإنسان مع الطبيعة الأم.
فسرقة أنكي لـ”ماءات” إنانا هي أولى مراحل صراع الآلهة للسيطرة على المجتمع، والتي أراد منها أنكي أن يكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في كلّ الاكتشافات.
يكادُ يتفق غالبية علماء التاريخ على أنّ السومريين هم أول من سكن العراق، واستوطنوا السهل الرسوبي الخصيب في وسط العراق وجنوبه، وقاموا ببناء المدن، وقد كانوا أول من أنشأ دولةً واخترع رموزاً مسمارية وصاغ ملحمة وترانيم، وكانوا أول من سنّ القوانين في العالم، فالأقوام التي استوطنت هذه الأرض، والتي أسّست أولى الحضارات في العالم، قد عرفت ظاهرة الفساد، لذلك نرى إشارات إلى الجرائم الظاهرة في القوانين التي عرفتها مدينة “أوروك” و”أورنمو” في الألواح السومرية ومحاضر جلسات مجلس (أوروك).
كذلك نراها بشكلٍ واضح في ملحمة جلجامش، الذي سعى لأن يكون خالداً دون سواه، يفكر في أنانيته وفردانيته وشخصه فقط وليذهب المجتمع إلى الجحيم، وعمل مع صديقه أنكيدو على قتل “همبابا” آلهة الغابات والطبيعة، وبعد موت صديقه أنكيدو بدأ البحث عن سرّ الخلود لذاته، لكنّه بعد سفره الطويل وأكل الحيّة لنبتة وعشبة الخلود، أيقن جلجامش أنّ سرّ الخلود يكمن في التوحّد مع المجتمع والعيش مع الشعب، وفي إقامة العدل والمساواة بين أفراد الشعب، وبذلك بات جلجامش خالداً بعد أن قضى على بذرة الفساد في داخله، ومنها انطلق لإقامة العدل في المجتمع.
فقد ورد في مقدمة شريعة “أورنمو”، المكتوبة في زمن لا توجد فيه كتابة في العالم في الألف الثالث قبل الميلاد، قول الملك: “وبأمر الإله استطاع الملك أن يوطّد العدل وأن يزيل البغضاء والظلم والعداوة”، كما تبيّن الوثائق التي عثر عليها أنّ المحكمة الملكية آنذاك كانت تنظر في قضايا الفساد مثل “استغلال الوظيفة العامة، قبول الرشوة، وإنكار العدالة”، حتى أن قرارات الحكم في جرائم مثل هذه تصل حدّ الإعدام.
كما يلاحظ أنّ حمورابي ملك بابل 1792–1750 ق.م، الذي وسّع المملكة وصاحب التشريعات المهمّة في التاريخ “شريعة حمورابي”، قد أشار في المادة السادسة من شريعته إلى جريمة الرشوة، حيث شدّد على إحضار طالب الرشوة أمامه ليقاضيه بنفسه وتوليه أمر اجتثاثه، مما يؤكد لنا أنّ شعوب ميزوبوتاميا قد أسّست قاعدةً قانونية تمنع الفساد الإداري وتقي المجتمع من آثاره.
وحتى بعد قيام الكثير من الإمبراطوريات بدءاً من الأكادية والبابلية والآشورية والفارسية والرومانية والإسلامية، وخاصة بعد وفاة نبي الإسلام، مروراً بالخلافة العثمانية وما تبعها من حربين كونيتين وتشكُّل ما يشبه أو ما يسمى بالدويلات الوطنية المستقلة، هذه الحلقات في سلسلة البحث عن السلطة والخلود كانت في أساسها تغليفاً للسرقة والنهب والفساد والقتل تحت قناع الدين تارة والقوموية تارة أخرى.
ظاهرة الفساد لم تأت من عدم، وكأنّنا نراها الآن وقد اكتشفناها للتو، بل هي ظاهرة تاريخية مجتمعيّة متعلّقة باستغلال العمل المؤسّساتي الوظيفيّ لأيّ كيان، ورأينا أنّه كيف كان الفسادُ مستشرياً منذ ظهور وتشكل أولى المدن السومرية التي تُعتبر أساس كلّ المدنيات والإمبراطوريات التي ظهرت من بعدها، فعقلية البحث عن تحقيق الذات بعيداً عن العمل والجهد والكدح هي أساس ظهور الفساد وحبّ الملكية.
أي أنّ ظاهرة الفساد ليست وليدة اللحظة، أو من تداعيات الثورات التي نعيشها، بل علينا أن ندرك أنّه لمواجهتها لا يكفي كيل التهم لهذا الطرف أو ذاك بقدر ما ينبغي محاربتها فكرياً بوعي وإدراك سوسيولوجي حقيقيّ، فأيّ شخص يبحث عن الصعود السريع من دون عمل وجهد، يمكن وصفه بالإنسان الفاسد الذي يسعى للكمال على حساب رفاقه في العمل، أو المنزل أو أي مكان.
البحث عن الغنى السريع والذي هو آفة العصر المستشرية، هي من مخلفات الذهنية الدولتية والسلطويّة، فكَم من حروبٍ جرت عبر التاريخ من أجل الاستيلاء على مراعي الآخرين والقضاء عليهم، وعلى كل ما يملكون من أجل تأمين حاجياتهم، وليمُت الآخرون.

“الربيع العربي” انتفاضات ضدّ الفساد
محاربة الإمبريالية، والحصار الغربيّ، والكيان الصهيوني، وتحرير فلسطين والعدو الخارجي، إنها شمّاعاتٌ ممتازة عرفت النظمُ الحاكمة كيفية استغفال الشعوب وتنميطها وجعلها تعيش بعيداً عن الواقع، وتقديمها على أنّها الحقيقة التي ينبغي على الجميع تقبّلها وعيشها بكلّ تفاصيلها، وللوصول إلى ذلك تمتلك أنظمة الحكم من الأدوات ما يكفيها من تنميل المجتمع وخاصة وسائل الإعلام ومؤسّسات التعليم، والتي من خلالهما عرفت الأنظمةُ الحاكمة والمتسلطة الناهبة لخيرات الشعوب كيف تقوم على تخدير الشعوب، وجعلها تسير في اتجاه مغاير للحقيقة، وذلك بحقنها بجرعات دينية وقوموية حسب الطلب وعند الحاجة، وأيّ مجتمع أو شخص يكشف حقيقة هذه الأنظمة السارقة تكون عاقبته وخيمة، والتهمة جاهزة وهي “التعامل والتخابر مع جهات أجنبية، عميل، خائن، كافر، زنديق”…. الخ.
لذلك حينما بدأت الشعوب بالانتفاض، أرادت أن تأخذ حقّها من هذه الأنظمة الفاسدة والظالمة، وطالبت بإسقاط نظام الفساد السياسيّ والإداريّ والمالي والأخلاقي، إلا أنّ سماسرة الحروب وسُرّاق جهد وتاريخ المجتمعات كانوا لهم بالمرصاد، وعملوا كلّ ما في وسعهم لإجهاض هذه الانتفاضات والثورات أو تسلّقها وتغيير وجهتها، وربطها بشخصنة الثورات بدلاً من العمل على التغيير الذهني والعقلي للسلطوية والأنانية والفساد.
انتشر الفساد أكثر وأكثر، وبات وكأنّه حالة طبيعية ينبغي التأقلم معها، حتى وصل الشعب إلى درجة نسي فيها كلّ ظلم الأنظمة الحاكمة، وراح يترحّم عليها من الطفيليات التي ظهرت تحت اسم الثورة، والذين باعوها وراحوا يجمعون الثروات على حساب المجتمعات والشعوب.

آلية مكافحة الفساد في روج آفا وشمالي سوريا
جغرافية روج آفا وشمالي سوريا ليست جزيرةً مُنعزلة في كوكب آخر، بل هي جزءٌ من سوريا الكلّ، والتي هي بدورها جزءٌ من الشرق الأوسط الذي يعاني بالأساس ومنذ آلاف السنين من حالات الفساد والظلم والقهر والسدمار.
إنّ الشعب في هذه الجغرافيا يُعدّ بشكل طبيعي جزءاً من مجتمع الكلّ، الذي حاول منذ بداية الحراك في سوريا أن يطالب بالحرية والكرامة وتغيير عقلية النظام البعثي الشوفيني الذي يرتكز أساس بقائه إلى الفساد بكلّ أنواعه، وعمل على تدمير المجتمع المتنوع وإقصائه وتحجيمه وجعل منه بقرةً حلوباً لحساب فئة بعينها.
عمل الكُرد منذ بداية الحراك على حمل لواء تغيير النظام المركزي الشمولي الحزبوي الفاسد، إلى نظام مجتمعي يحكمُ نفسه بنفسه، على أسس ديمقراطية عصرانية، فاعتمدت فلسفة الأمة الديمقراطية وتعايش الشعوب، وجعلتها الشعارات الرئيسة التي انطلق منها الكُرد بمسيرتهم في إنجاز الثورة المجتمعية، والتي تحوّلت بعد ذلك – أي الشعارات – إلى مبادئ، وتحولت أيضاً من نظريات إلى حياة عملية تكون أساس المجتمع الذي يُراد بناؤه.
إقامة المؤسسات المدنيّة الشعبية الديمقراطية، والتي بالأساس ستكون البديلة عن المؤسسات المدنية الرسمية التابعة للدولة، كانت أولى الخطوات في بناء المجتمع الجديد، وفي هذه المرحلة حينما يتمّ الإعداد لبناء الجديد يظهر صراع من نوع آخر ألا وهو صراع الأجيال، أو ما يمكن توسيمه بصراع القديم الذي يسعى للحفاظ على امتيازاته ضدّ الجديد الذي يبحث عن تحقيق أحلامه في الكرامة.
هذا الصراع هو الأساس الذي ينبغي لنظام الإدارة الجديدة العمل عليه بشكل ممنهج ومنطقي، حتى تكون الغلبة للجديد، مع الإدراك بشكل جيد أنّ هذا الصراع هو صراع طويل الأمد ولن يختفي بين ليلة وضحاها.
طبعاً، هذا لا يعني البتة المماطلة وتقديمَ الحُجج على أنّ الهجمات الخارجية هي التي تعيقُ ما يصبون إليه في مجتمع الشعوب المتعايشة، ينبغي وضعُ خططاً ومشاريعَ مستقبلية وإشراكُ المجتمع في هذه المشاريع، وينبغي ألا تكون من طرف واحد ينظر لنفسه أنه هو فقط الذي يدرك ويفهم وأن الآخرينَ جهلةٌ وعليهم فقط أن يتبعوه.
هذه المقاربات ستجعل من القائمين على إدارة المنطقة، يسيرون وإن بشكل مختلف على ذات مسار التيارات القديمة، وهذا ما يسعى له المستفيدون من حالات الضباب، وعدم الوضوح في الرؤية المستقبلية.
ينبغي على الإدارة الجديدة عدم الاهتمام بالوضع الأمني والاستقرار في المنطقة على حساب المبادئ، بل عليها العمل على كلا الأمرين معاً، وعدم تقديم أحدهما على حساب الآخر، وإلا فلن تنجو التجربة من تكرار ما كان موجوداً بالأصل، وفي الاشتراكية المشيّدة دروسٌ وعبر حول هذا الأمر، ما يُغني في الوقوع في مطبّات البيروقراطية.
يُعدّ الاهتمام بالتدريب والمتابعة الحجر الأساس في القضاء على الفساد بكل أنواعه، إذ لا يكفي أبداً الاكتفاء بالتدريب لأنّه يعتبر الخطوة الأولى في طريق بناء المجتمع الجديد، ولكن للمتابعة الدور الهام أيضاً في تكريس وتجذير المفاهيم الجديدة تجاه المفاهيم والمصطلحات التي نشرتها الأنظمة السلطوية الشوفينية الحزبوية.
الإصرار على بناء الجديد، يعني بحدّ ذاته السير على هدم القديم، الذي تمتدّ جذوره في التاريخ السلطوي، وقد تظهر عدم المبالاة التي تستفيد منها بعض الفئات وتعمل على نشر الفساد ثانية، لذلك حينما ترسخ فلسفةَ الأمة الديمقراطية كبديل لفلسفة أمة الدولة، فحينها ينبغي على الإدارة الضربُ بيد من حديد، على كلّ من تسوّل له نفسه استغلال الظروف في نشر الفساد والمحسوبية، وبخاصة أنّ هناك قناعة بأنّ من يقدمون أنفسهم كقرابين للحرية، هم على أتمّ الاستعداد لمحاربة الفساد والمفسدين بذات الهمّة والمعنويات، لكن هناك الذين لا حول لهم ولا قوة ولا يملكون سوى الشكوى، وهم بعيدون عن الإدراك بأنّ بناء المجتمع الجديد يقع على كاهل الجميع.
مكافحة الفساد والقضاء عليه ليس مستحيلاً، إذا ما وجدت رغبة حقيقية للإصلاح والتغيير، لأنّ الإنسان أساس ثروة الأمم، وأساس التنمية الحقيقية، ولأنّ نجاح أيّ خطط تنموية يعود إلى قدرة الإدارة على تصميم رؤية لهذه الخطط، لتكون أساساً للنهضة والتحديث، ولأنّ العدالة في تطبيق التنمية داخل بنية المجتمع تسهم في تعزيز الجبهة الداخلية، وتقلّل التوتر الداخلي وتدعم ركائز المجتمع أمام التحديات الخارجية، ويمثل حقل التدريب والتربية والتعليم أساس التنمية وبناء الإنسان الحر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى