قضايا راهنة

القوى المأزومة تبحث عن قشة نجاة في مسار التطبيع التركي – السوري

أوحى اللقاء الذي جمع بين وزيري دفاع سوريا وتركيا، في العاصمة الروسية موسكو، في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بأن طريق التطبيع بين البلدين بات سالكاً، خصوصاً في ظلّ الحديث عن لقاء ثانٍ سيَجمع وزيري خارجيتيهما. لكن تُظهر ردّة الفعل السورية المتأنّية، والشروط الصعبة التي وضعها الأسد أمام تركيا، في أوّل تعليق رسمي منه على اللقاءات التي تَجري مع أنقرة، بوساطة روسية، والذي قال فيه بأنه «يجب أن تكون المباحثات مبنيّة على إنهاء الاحتلال، ووقف دعم الإرهاب»، تُظهر ردة الفعل هذه ما يؤشّر إلى تمسّك دمشق بمطلبها الأساسي، والمتمثّل في خروج الجيش التركي من الأراضي السورية، ووقف دعم الفصائل المسلّحة. وهذه الشروط يستحيل على تركيا تطبيقها، وخاصة قبل الانتخابات التركية؛ لأن أي انسحاب قبل الانتخابات سيكون بمثابة إعلان أردوغان فشل سياساته في سوريا.

وأمام هذه التحديات، يبدو أن جهود التطبيع التي تقودها روسيا تعرضت لانتكاسة جديدة. فإعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تأجيل لقاء كان متوقعاً منتصف يناير/كانون الثاني الجاري، بين وزراء خارجية سوريا وتركيا وروسيا، إلى شهر فبراير/شباط القادم، يعني أن هناك تعثر في سير المصالحة، كما أن التحرّكات المكّوكية المرتقبة لمسؤولي «مسار أستانا» (روسيا، وإيران، وتركيا) خلال الفترة الجارية، وخاصة الطرف الإيراني، الذي بدأ وزير خارجيتها بزيارة كل من لبنان وسوريا وتركيا، تشير إلى وجود مطبّات عديدة في هذا الطريق، تتطلّب مزيداً من الوقت من أجل إزاحتها، ولا سيما بعد أن أبدت واشنطن هذه المرة مواقف أكثر وضوحاً وحسماً في رفضها أي شكل من أشكال التطبيع مع الأسد، ومحاولاتها إفشال مسار التطبيع بين البلدين.

هنا، سنضع كافة تلك الأطراف على ميزان الربح والخسارة، من تداعيات التطبيع بين أنقرة ودمشق، وذلك من خلال رصد مواقف وأهداف كافة القوى والأطراف المتدخّلة في الملف السوري.

أولاً- روسيا المعزولة تتمسك بقشة تركيا

إن روسيا المأزومة في معارك أوكرانيا، والتي ترعى مباحثات التطبيع بين أنقرة ودمشق، تبحث عن تحقيق نصر وهمي على أمريكا في مناطق نفوذها، بعيداً عن أوكرانيا، وذلك عبر مساعي “توحيد الجهود المشتركة” بين الأسد وأردوغان، لتحويلها إلى مواقف عملية ضد أمريكا وحلفائها في شمال شرق سوريا، ومحاولة مواجهة الوجود الأمريكي في سوريا.

إذ يعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه سيكون رابحاً من التقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق، لأنه يحتفظ  من جهة بعلاقات جيدة مع أردوغان، لا سيما بعدما خرج هذا الأخير عن الاتجاه الغربي في تعامله مع موسكو بعد غزوها لأوكرانيا، بل أضحى أردوغان وسيطاً بين الغرب وروسيا في ملف هذه الحرب. ومن جهة ثانية، يُعتبر بوتين هو الداعم الأكبر لنظام الأسد، ولولا هذا الدعم، لما رجحت كفة الحرب في سوريا لصالح النظام، ما يجعل بوتين يجمع صديقين له، بما يخدم مصالحه في سوريا والمنطقة عبر “التطبيع”.

وفي النتيجة، تحاول روسيا من خلال هذا “التطبيع” تحقيق نتيجة واحدة عبر طريقتين، إما تصفية الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، بخلق تحالف بين تركيا والنظام، ويعزز من هيمنة النظام السوري على مجمل الأراضي السورية. أو إجبار الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) على التنازل، وتقديم شمال شرق سوريا للنظام، مقابل منع أي عملية عسكرية تركية. وفي كلا الحالتين سيكون ذلك سبباً في محاصرة الوجود الأمريكي في سوريا.

واللافت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُصرّ على تمهيد الأرضية لجمع الرئيسين التركي والسوري قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية؛ ليمنح أردوغان فرصة أكبر في الفوز، لأن بوتين من أنصار بقاء أردوغان في الحكم، خاصة بعد أن أدت الحرب الأوكرانية إلى عزلة روسيا عن المجتمع الدولي، وعن الدول الصناعية الكبرى. لتبقى تركيا واحدة من الشركاء القلائل الذين يحافظون على علاقات جيدة مع روسيا، فالرئيس الروسي ونظيره التركي تجمعهما منذ أعوام علاقة جيدة، وهذا ما يدفع بأردوغان، الذي بات يستشعر أن حلفائه الغربيين وأمريكا لا يرغبون في بقائه في الحكم، للتقرب من بوتين أكثر.

وهذ يستدعي طرح سؤال: هل يمكن لروسيا تحقيق تلك الأهداف؟ وللإجابة على هذا التساؤل، علينا معرفة الموقف الأمريكي حيال التقارب التركي مع دمشق.

ثانياً- أمريكا تحاصر تركيا بالرفض القاطع للتطبيع

جاء اعتراض واشنطن هذه المرة بلغةٍ صريحةٍ وقاطعةٍ، على التوجه التركي للتطبيع مع الأسد، وكان لهجتها – وحتى تحركاتها على الأرض – مختلفة عما سبق، وفي حين أنها في المرات السابقة تعاملت بدبلوماسية أكثر، إلا أنها هذه المرة صعّدت من حدّة تصريحاتها المُناهضة لمسارات التقارب مع دمشق، وسط تهديد غير مباشر باستخدام قانون العقوبات الأميركية على سوريا (قيصر)، من أجل عرقلتها. بالإضافة إلى زيادة القوات الأمريكية نشاطها في شمال شرق سوريا مؤخراً، كالعودة إلى بعض قواعدها التي أخلتها في الرقة، وزيادة الدوريات المشتركة مع قسد.

والملفت أكثر، أنها أطلقت بالاشتراك مع قسد حملة “صاعقة الجزيرة” بتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول 2022، لملاحقة خلايا داعش في ريف الحسكة والقامشلي، وهذه التحركات والحملة في هذا التوقيت، تحمل رسائل مبطنة إلى تركيا وروسيا مفادها بأن “التحالف الدولي بقيادة أمريكا” باقية في المنطقة، ومستمرة في دعم قوات سوريا الديمقراطية، وبأن التقارب بين تركيا ودمشق لن يؤثر على العلاقات بين التحالف وقسد.

وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “نيد برايس”، قد قال بعد اجتماع موسكو: “إن واشنطن لا تدعم الدول التي تسعى لتعزيز علاقاتها أو تعرب عن دعمها للنظام السوري، ورئيسه بشار الأسد، الذي وصفه بـ”الديكتاتور الوحشي”” هذا الوصف الأمريكي للأسد هو بمثابة رسالة إنذار إلى أردوغان، لتنبيهه من أن تطبيعه مع الأسد سيضعه في نفس خانة الأسد لدى أمريكا، وبالتالي ستفتح أمريكا كافة ملفات جرائم وانتهاكات “أردوغان” وحكومته، والتي لا تقل عن “ديكتاتورية ووحشية” الأسد.

ويبدو أن مواقف أمريكا المتصلبة هذه أجبرت تركيا على إرسال وزير خارجيتها لواشنطن، والذي ألتقى بنظيره الأميركي أنتوني بلينكن، لمناقشة قضايا عدّة على رأسها التطبيع مع دمشق، ما يشير إلى أن تركيا – رغم أن بين أحد أهدافها من التوجه نحو التطبيع الضغط على أمريكا لإنهاء دعمها لقسد- لا تجرؤ على الذهاب في التطبيع بعيداً عن المشورة الأمريكية؛ لخشيتها من العواقب العكسية، فتحاول دائما ترك طريق المفاوضات مع أمريكا مفتوحاً.

كما إن إقرار أمريكا مؤخراً “قانون مكافحة الكبتاغون السوري”، ووضعه حيّز التنفيذ، يعني أن الأسد وحكومته باتوا على قائمة تجار المخدرات الدولية. وبالتالي، أي طرف يُطبع العلاقات معه يعتبر شريكاً له، وهذه المعطيات تدفع تركيا للتريث أيضاً، والدليل على ذلك إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو تأجيل لقائه مع نظيره السوري إلى فبراير/شباط المقبل، بعد أن كان مقرراً إجراؤها منتصف يناير/كانون الثاني الجاري.

ومن غير المستبعد أن تكون الرعاية الروسية للتقارب التركي السوري الأخير، هي التي حملت إدارة جو بايدن على رفض التطبيع بين أنقرة ودمشق، باعتباره استثماراً روسياً لا تقبل به واشنطن، في وقتٍ باتت هزيمة موسكو في أوكرانيا على رأس قائمة أولويات واشنطن، كما في أي مكان يتيسر لها ذلك، ويبدو أنها جادة في ذلك، حتى لو كان “الحليف التركي” طرفاً في هذا الاستثمار.

لذا، تملك أمريكا الكثير من الأوراق التي بدأت تلوح بها في وجه تركيا، ومن بينها تلميح أمريكا – بشكلٍ غير مباشر- بأنها ستعمل على تشكيل جسم سياسي جديد للمعارضة في سوريا، وسيكون نواتها مجلس سوريا الديمقراطية، وأحزاب، وتيارات من المعارضة السورية، داخل وخارج سوريا، في حال طبعت تركيا علاقاتها مع دمشق. ومن بوادر التلويح الأمريكي بهذه الورقة، إعلان كل من مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، و”التحالف السوري الوطني المعارض” المدعوم من واشنطن، عن تقارب سياسي، عبر مؤتمر صحفي عقده الطرفان في مدينة القامشلي. وكان من الملفت رفع علم “الثورة السورية” إلى جانب علم مسد في المؤتمر، مما يحمل رسائل واضحة لتركيا، مفادها بأن شمال وشرق سوريا مستعدة لاستقبال القوى والشخصيات المعارضة، وحتى تلك التي كانت مدعومة من تركيا، والتي باتت تتوجس من مساعي تركيا إلى التطبيع مع دمشق.

ولكن مقابل تلك الضغوط، تترك أمريكا الباب موارباً أمام تركيا للعودة، وذلك عن طريق تقديم بعض المغريات لأنقرة، وكان آخرها – وفي خطوة انتظرتها أنقرة طويلاً- إخطار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الكونغرس، بشكل غير رسمي، في 13 يناير/كانون الثاني الجاري بأنها تعد لـ«صفقة محتملة» لبيع طائرات مقاتلة من طراز «إف 16» إلى تركيا. بينما ربطت تقارير بين موافقة الكونغرس على الصفقة وإزالة تركيا الـ «فيتو» على طلب السويد وفنلندا الانضمام إلى «الناتو»، بالإضافة إلى تعهد تركيا بعدم تهديد مصالح أمريكا في سوريا.

بكل الأحوال، منح أمريكا تركيا عروض التسليح سيكون بمثابة الفخ؛ لأن إعادة أمريكا ملف التسليح وطائرات “إف 16” في هذا التوقيت سيكلّف الجانب التركي الكثير، ففي حال قبلت تركيا العرض، فإنها في المقابل عليها القبول بالشروط الأمريكية؛ ومنها التخلي عن التطبيع مع دمشق، وعدم تعريض مصالح أمريكا في سوريا والمنطقة للخطر. وبالتالي، ستواجه موافقة تركيا على تلك الشروط رفضاً روسيا قاطعاً لأي عمل عسكري تركي محتمل في سوريا، وقد تلجأ روسيا هذه المرة لفتح الحوار بين دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

وفي حال رفضت تركيا العرض والشروط الأمريكية، فإن الأخيرة ستتبع سياسة أكثر حزماً تجاه تركيا، ولن تتمكن بأي حال شن عمليات عسكرية في شمال وشرق سوريا.

وهذه المواقف الأميركية يستدعي طرح سؤال: هل يمكن لتركيا الاستمرار في مسار التطبيع؟ وما خياراتها أمام هذه الضغوطات الأمريكية وتعقّد المشهد السوري؟

ثالثاً- تركيا تناور الأسد وتستثمر الوقت للوصول إلى موعد الانتخابات

لا شك أن تركيا ما كانت لتستدير نحو دمشق لو لم تكن في حالة ضعف شديد ومأزومة، أي أن التفاهمات الثلاثية بين “روسيا، وتركيا، والنظام السوري” جاءت نتيجة ضعف تلك الأطراف، وكثرة الأزمات التي تحاصرهم “عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً”، بل وأزمة تركيا هي أكبر لأنها على أعتاب انتخابات مصيرية.

يبدو أنّ هذه التفاهمات “الجديدة القديمة” متزامنة مع معارضة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لقيام تركيا بشن عملية عسكرية برية جديدة في شمال شرق سوريا، فضلاً عن وعود أخرى من قِبل روسيا متعلقة بتطمين أردوغان بتحقيق نصر سياسي قبل الانتخابات الرئاسية التركية.

في الوقت ذاته كانت دفة السياسة الخارجية التركية تتحول شرقاً، لا سيما بعد شعور أنقرة بـ«الخذلان» من حلفائها الغربيين وأمريكا، وخاصة فيما يتعلق باستمرار دعم قسد، وعدم قبول مخطط تركيا لإنشاء ما تسمى “منطقة آمنة” بعمق 30 كيلو متر على طول الحدود، لذا وجدت تركيا أن التمادي في التنسيق مع روسيا، والتوجه نحو التطبيع مع دمشق، قد يحقق لأردوغان بعض المكاسب في الانتخابات المقبلة، وخاصةً في ملف اللاجئين السوريين، وإرسال رسائل للداخل التركي المحتقن ضد اللاجئين بأن حكومة أردوغان جادة في حل هذا الملف عبر التطبيع مع دمشق، وبالتالي إخراج ورقة اللاجئين من يد المعارضة التركية، والتي كانت تحاول استثمارها في استقطاب أصوات الناخبين الأتراك.

ولكن السؤال هنا، هل تركيا جادة حقاً في التطبيع الكامل مع دمشق، والانسحاب من الأراضي السورية؟

من الواضح، إنّ رفع مستوى المشاورات، واللقاءات المشتركة بين الطرفين من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي، تعد رغبةً تركية لتحقيق مكاسب سريعة قبل الانتخابات، وهذا ما أكدته صحيفة “قرار” القريبة من أحمد داود أوغلو وعلي باباجان، رفيقَي إردوغان السابقَين ومعارضَيه الحاليّين، والتي شككت بعملية التقارب بين أنقرة ودمشق، إذ ليس هناك أيّ سبب لإقناع اللاجئين في تركيا بالعودة إلى سوريا، وسط الأزمة الاقتصادية والمجاعة التي تشهدها سوريا. ما يعني أن أردوغان يستثمر الوقت، ويثير هذا الملف والادّعاء بأنه يعمل على حله لحين الوصول إلى موعد الانتخابات، والدليل أنه، وبالتزامن مع التوجه التركي للتطبيع مع دمشق، أعلن أردوغان تقديم موعد الانتخابات إلى 14 مايو/أيار القادم، وذلك للاستفادة أكثر من ملف التطبيع قبل تحقيقه.

وهذا يعني أن أردوغان قد يراوغ الأسد، ويكسب الوقت عبر اجتماعات المسؤولين، والدعوة للتمهيد للقاء رؤساء البلدين، لحين الوصول إلى ما قبل موعد الانتخابات، ثم ستجمد اللقاءات بحجة الانشغال في الانتخابات، ومن ثم نتائج الانتخابات هي التي ستحدد الاستراتيجية الجديدة لأردوغان تجاه سوريا. ففي حال كسب الانتخابات سينسف عملية التطبيع برمتها، وفي حال خسر الانتخابات، فحينها لن يكون للتطبيع أي معنى. إذ يستحيل على أردوغان قبول شروط الأسد بالانسحاب من سوريا قبل الانتخابات، لأنها ستعتبر فشلاً ذريعاً لسياسات أردوغان الخارجية، كما أن أي انسحاب تركي من شمال سوريا، سيدفع بآلاف السوريين في الداخل للهروب نحو تركيا مجدداً، وهذا سيكون بعكس ما يرغب به أردوغان.

إذاً، يحتاج أردوغان في هذا الوقت ليُظهر- على الأقل- أن ثمة عملية سياسية تبدأ، وإذا تمكن أردوغان من مقابلة الأسد قبل الانتخابات، فسيكون قد انتهز فرصته الذهبية، ولكن هذه الفرصة تبدو صعبة مع وضع الأسد شروطه المسبقة أمام تركيا.

ومن غير المستبعد لجوء أردوغان إلى فتح مسار التطبيع مع دمشق -حالياً- لسد الطريق أمام انتهاز روسيا والنظام فرصة قُرب الانتخابات وشن عملية عسكرية ضد إدلب، وبالتالي دفع آلاف السوريين لاجتياح الحدود التركية، وما يرجّح هذا الهدف، تصريحات وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار في 6 يناير/كانون الثاني الجاري، عندما قال: “إن بلاده لن تقبل موجة جديدة من اللاجئين السوريين”، الأمر الذي يحمل خلفه رسائل واضحة إلى دمشق وموسكو، بأن أنقرة لن تقبل مسألة شن هجوم روسي – سوري للسيطرة على إدلب وشمال حلب، وفي المقابل إيهام تركيا للنظام عبر مسار التطبيع أنها ستنسحب من سوريا بعد التطبيع.

وما يؤكد بأن لا نية لتركيا في الانسحاب من سوريا، تصريح آكار الذي قال فيه: “قوات الأسد ليس بإمكانها تدمير إدارة الحكم الذاتي، وأن سوريا الأسد ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، وأن هذه الحقيقة لن تتبدل”. وبذلك، أقر آكار بالقيمة المحدودة للتقارب مع دمشق من منظور أنقرة.

لذا، قد يكون الهدف التركي، بالإضافة إلى استثمار مسار التطبيع في الانتخابات القادمة، هو انتزاع المزيد من التنازلات، خاصةً في ما يتعلق بتطوير “اتفاقية أضنة” لعام 1998، لتصبح المسافة التي تحق لتركيا التواجد فيها شمال شرق سوريا بشكل رسمي 35 كم في العمق السوري، وذلك بدلاً من 5 كم كما كان في السابق. وبهذا يمكن لتركيا أن تحافظ على تواجدها الراهن في معظم الشريط الشمالي لسوريا، حتى وإن لم تتمكن من احتلال ما تبقى من مناطق حدودية.

وهذا التحرك التركي بوساطة روسية في مسار التصالح مع دمشق، يستدعي التساؤل عن موقف ومكانة إيران ضمن هذا المسار؟

رابعاً- إيران المتأزمة تدعم التطبيع خشية السقوط

خلال الأيام الماضية أشارت معظم المعطيات التي طرأت على خط العلاقة المستجدة بين أنقرة ودمشق إلى أن هذا المسار تُقطع محطاته المرسومة بآلية ثلاثية تتولاها روسيا، فيما لم يُعرف بالتحديد الدور الخاص بإيران، وما إذا كان غيابها عمّا يحصل يشي باستبعاد أم بحضور تبتعد تفاصيله عن الطاولة.

فيما رجحت أوساط سياسية عربية أن يكون القرار الذي اتخذته إيران مؤخراً، بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني “حسين عبد اللهيان” إلى دمشق ولقائه بالأسد، بوقف تقديم النفط الرخيص إلى سوريا، تعبيراً عن رفضها لانفتاح دمشق وتقاربها المتزايد مع الإمارات، إلا أنها في نفس الوقت تدعم مسار التطبيع مع تركيا، لأن إيران ترى في سقوط تركيا سقوطاً حتمياً لها، لذا لن تعرقل مسار التقارب بين أنقرة ودمشق حتى وإن كان دورها هامشياً.

وعلى الرغم من أن إيران بالفعل ليست طرفاً مباشراً في مسار الحوار الثلاثي، إلا أن لها مصالح، ووجود، وتأثير سياسي على دمشق. وهذا التأثير لا يمكن تجاهله في مسار العلاقات المحتملة بين أنقرة ودمشق. فمن حيث الشكل، فإن التفاعلات الأخيرة بين موسكو ودمشق وأنقرة تُوهم باستبعاد إيران وتهميشها، ولكن من حيث المضمون والنتيجة المحتملة، فهي تتماشى أيضاً مع مصالح طهران، لأنه بالنسبة لطهران، فإن أيّ تقارب بين أنقرة ودمشق يصبّ في خانة تعزيز المعسكر المناهض للولايات المتحدة، بصرف النظر عن نوايا أردوغان من هذا التقارب، خصوصاً أن الأخير قد تقلّص هدفه في سوريا من «الصلاة، فاتحاً، في المسجد الأموي» في دمشق، إلى محاولة دفْع “خطر الكرد” عن الحدود مع بلاده، وهذه من بين الأهداف الإيرانية أيضاً، فرغم إشكالية أن تركيا وإيران دولتان أيديولوجيتان، ولدى كل منهما مشروعها الخاص في سوريا، سواء المشروع الإيراني الشيعي، أو المشروع التركي العثماني، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خلافات، ولكنها تبقى محدودة إذا ما قورنت بمصالحهما الاستراتيجية، وخاصة فيما يخص الملف الكردي.

ومن المكاسب التي قد تراها إيران في التقارب بين أنقرة ودمشق، هو أن النظام السوري، لا يجرؤ على مهاجمة الإدارة الذاتية أو تفكيكها، بسبب الوجود الأمريكي في مناطقها، لذا فإن إيران قد ترى في التقارب فرصة لاستخدام تركيا لممارسة أقصى الضغوط على الإدارة الذاتية، لدفع الأخيرة إلى تقديم التنازلات للنظام، وتوسيع نفوذه، التي تعني توسع نفوذ إيران من خلفها في شمال شرق سوريا الغنية بالبترول.

وبالتالي، فمن المهم – بالنسبة لإيران – أن ينجح هذا التقارب على الرغم من بعض التخوفات القائمة لديها منه، فهي سوف تسعى لأن تكون هذه المصالحة خطوة أولى نحو إخراج القوات الأميركية من الشمال السوري، بتنسيق الأطراف المنضوية تحت عباءة “أستانة”، بالإضافة إلى دمشق.

وفي كل الأحوال، تبدو إيران في موقف محرج ضمن الملف السوري، فمن جهة هي مجبرة على التغاضي عن إمكانية وجود «تنسيق» تركي – إسرائيلي في سوريا، خصوصاً أن أنقرة تتقارب حالياً مع تل أبيب، وأن الطرفَين تبادلا السفراء من جديد. بالإضافة إلى بروز نوايا تركيا التوسّعية في سوريا، خصوصاً في ظلّ دعوة ياسين أقطاي، مستشار رئيس «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، إلى «وضع حلب تحت السيطرة التركية»، وهذا يثير مخاوف إيران، التي باتت تهيمن على هذه المحافظة، والتي تُعتبر العاصمة الاقتصادية لسوريا.

يمكن أن نضيف أيضاً، الهواجس الكبيرة لإيران من التحركات الإقليمية والدولية التي قد تحد من النفوذ الإيراني جنوب سوريا، خاصة بعدما وقعت الإدارة الأميركية على مشروع قانون محاربة النظام السوري كمصدر للمخدرات. والتحرك الأوروبي مؤخراً، في 19 يناير/كانون الثاني الجاري، والتصويت لصالح تصنيف “الحرس الثوري” وأذرعها كمنظمة إرهابية.

الرؤية

من خلال ما سبق، يمكن استنتاج أنه ورغم أن المحور الأساسي الذي يجمع بين الأطراف التي تُجري التطبيع هو محاربة الإدارة الذاتية، إلا أن هذا المسار سيكون نتائجه سلبية بالنسبة لكل من تركيا ودمشق، وإيجابية أكثر على الإدارة الذاتية، باعتبار أن كل من روسيا وتركيا ودمشق وإيران هي بلدان وقوى غارقة في الأزمات الداخلية والخارجية، ولا يمكن لأحد منهم تقديم ما ينقذ الآخر من أزمته. وكل تحركاتهم في هذا المسار يدخل في إطار ابتزاز أمريكا والغرب، بالإضافة إلى ابتزاز الإدارة الذاتية، ودفعها لتقديم تنازلات للنظام السوري. ولكن الوقائع تشير إلى أنه في حال جرى التطبيع بين تركيا ودمشق بوساطة روسيا، فإن أمريكا والغرب سيتخذون إجراءات عقابية ضد تركيا، وسيزيدون من دعم الإدارة الذاتية وقسد. وفي حال فشل التطبيع؛ فإن روسيا ودمشق لن تسمحان لتركيا بشن أي هجمات جديدة على شمال شرق سوريا، وستفتحان الحوار مع الإدارة الذاتية. وبالتالي، فإن  خيارات الإدارة الذاتية ستكون في الحالتين أفضل.

وفي وقت كانت تتخوف قسد من أن تكون ضحية متغيرات جيوسياسية في المنطقة، لكن تصاعد التنسيق العسكري مع القوات الأميركية مؤخراً، وإطلاق عملية “صاعقة الجزيرة” لملاحقة خلايا داعش، التي ازداد نشاطها بالتزامن مع التهديدات التركية للمنطقة، وتأكيد كل من السعودية ومصر ببيان مشترك بتاريخ 12 يناير/كانون على رفض أي عملية عسكرية جديدة في سوريا، في إشارة إلى التهديدات التركية، بالإضافة إلى تصريح منسق الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية “جون كيربي”، والذي قال: “إنّ الكرد في شمال وشرق سوريا لن يدفعوا ثمن التقارب بين تركيا والنظام السوري”، مثّلت نوعاً من الطمأنينة للإدارة الذاتية، ورسالة قوية من واشنطن لروسيا وتركيا وكذلك النظام السوري بأنها لن تتخلى عن حلفائها.

كما إن تحول أردوغان – في هذا الوقت الحساس والقريب من الانتخابات – إلى التقرّب مع روسيا والنظام السوري، يشير بأنه بات على يقين أن أمريكا لم تعد ترغب في بقائه في الحكم، وأن أمريكا والغرب يتطلعان إلى تركيا بنظام جديد يتلاءم مع الاستراتيجية الأمريكية، الساعية إلى تغيير شكل الدول المركزية ذات النظام القمعي الديكتاتوري، واستبدالها بأنظمة لا مركزية، لذا يحاول أردوغان التمسك بالقشة الروسية لعلها تنقذه من الغرق في الانتخابات القادمة، وتمنع سقوط نظام الحكم في تركيا، وهذه هي نفس المخاوف التي تنتاب إيران، لذا أعلنت عن دعمها للتطبيع التركي – السوري.

وفي المحصلة، يبدو أن إيران هي الحلقة الأضعف في المعادلة السورية اليوم، لأنه من جهة باتت مهمشة في مسار التطبيع التي تقوده روسيا، بالإضافة إلى تصاعد احتمالية ملاحقتها عسكرياً من قبل اسرائيل والتحالف الدولي، وخاصة بعد موافقة الاتحاد الأوروبي على تصنيف “الحرس الثوري” الإيراني والميليشيات المرتبطة به ضمن قائمة الإرهاب، بالإضافة إلى سيناريو وضع أمريكا “قانون مكافحة الكبتاغون” حيّز التنفيذ، والذي قد يعقبه شن عمليات ملاحقة للميليشيات الإيرانية على الحدود بين سوريا والأردن والعراق.

وفي كل الأحوال، فإن مصير مسار التطبيع هو في الغالب “الفشل”؛ لأن المصالحة الكاملة بين تركيا ودمشق ستكون عملية معقّدة وطويلة، نظراً لعمق التصدعات في العلاقات التركية السورية، بما في ذلك دعم أنقرة للميليشيات الإسلامية المسلحة، واستحالة أن تنسحب تركيا من سوريا قبل الانتخابات، لذا فإن تركيا تهدف من خلال التظاهر بأنها ترغب في التطبيع، كسب الوقت حتى الوصول للانتخابات، بينما النظام السوري يدرك عدم جدية أردوغان، وسيتمسك بشرط الانسحاب الكامل من الأراضي السورية لقبول التطبيع. في وقت لا يغير اعتراف أنقرة بوحدة التراب السوري، وادّعاء أردوغان بأن “تركيا ليست لديها أطماع في الأراضي السورية”، الكثير من المعادلات على أرض الواقع، فتركيا تقول الشيء نفسه عن احترام سيادة العراق على أراضيه، ولكنها تنتهك هذه السيادة كل يوم تقريباً. ولا تعتزم سحب قواتها من القواعد التي أقامتها داخل الأراضي العراقية. وهو ما ينطبق على سوريا أيضاً؛ فلئن عجزت أنقرة عن إقامة منطقة أمنية واسعة، تخضع لسيطرتها على الشريط الحدودي بينها وبين سوريا، فإنه لا شيء يوحي بأنها يمكن أن تتخلى عن قواعدها داخل الأراضي السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى