مقالات رأي

“الاختصاص العالمي” .. سبيلٌ ممكن لملاحقة مرتكبي الجرائم في شمال وشرق سوريا

د. فاضل محمد – باحث في مركز الفرات للدراسات

كثيرةٌ هي الجرائم التي ارتُكبت وتُرتكب – حتى الآن – بحق السوريين عامةً، وسكان شمال وشرق سوريا خاصةً، وانتهاكاتٌ خطيرةٌ وجسيمة للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الانسان، تُرتكب يومياً؛ سواءً من قبل الدولة التركية، واعتداءاتها المتكررة، وعدوانها المتجدد على المدنيين، والبنية التحتية، والمنشآت الحيوية في شمال وشرق سوريا، أومن قبل الفصائل المسلحة السورية، والمدعومة من الدولة التركية، من اعتقالات تعسفية، وتهجير قسري، وتغيير ديمغرافي، وقتل تحت التعذيب.

اشتدّت وتيرة هذه الجرائم والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الانسان، بعد عمليتي غصن الزيتون 2018، ونبع السلام 2019، واحتلال مدن في الشمال السوري (عفرين، ورأس العين، وتل أبيض). بدأت تلك الجرائم باغتيال الناشطة السياسية، ورئيسة حزب سوريا المستقبل (الشهيدة هفرين خلف)، ولا زالت مستمرة حتى اليوم، وآخرها هو القتل تحت التعذيب في معتقلات استخبارات الدولة التركية، والمجموعات المسلحة التابعة لها في عفرين المحتلة للمحامي والناشط الحقوقي “لقمان حنان”.

أمام عجز القانون والقضاء الدوليين في محاسبة هؤلاء المجرمين وتحقيق العدالة المنشودة، كرّست معظم الدول، وخاصة الأوروبية الغربية، في تشريعاتها الوطنية مبدأ “الاختصاص العالمي” للقضاء الوطني، وذلك لملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة “الدولية”، وتفادي إفلاتهم من العقاب. وذلك أما بسبب العجز في إنشاء المحاكم الدولية الخاصة، أو بسبب عدم إمكانية إحالة المجرمين الى محكمة الجنايات الدولية، والتي تستلزم إما التوقيع على نظامها الأساسي من قبل الدولة منتهكة القانون الدولي الإنساني، أو قراراً من مجلس الأمن الدولي لتحريك الدعوى الجنائية.

وهنا تبرز عدة أسئلة، أهمها: ما المقصود بالاختصاص العالمي، ونشأته، وتطوره؟ وهل يمكن اللجوء إليه لحماية سكان شمال وشرق سوريا من اعتداءات الجيش التركي والفصائل المسلحة التي تسيطر – عسكرياً – على مدن من الشمال السوري، مستندين في ذلك الى أهم السوابق القضائية أمام المحاكم الأوروبية، تطبيقاً لهذا المبدأ؟

بدايةً، من المعلوم أن القضاء الوطني للدول، يختص فقط بالنظر في الجرائم التي تُرتكب في إقليم الدولة، أو من قبل الأشخاص الذين يحملون جنسية الدولة، دون أن يتعدى اختصاص المحاكم الوطنية إلى محاكمة أشخاص لا يحملون جنسية الدولة، أو جرائم لم تُرتكب على أراضيها.

إذاً، الأصل هو أن التشريعات الوطنية تتخذ مبدأين أساسيين، وهما:

  • مبدأ شخصية الجرائم، والذي يعني أن قانون العقوبات الوطني يُطبق على أي شخص يحمل جنسية الدولة، في أي مكان ارتكبت فيه جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات الوطني.
  • والمبدأ الثاني، هو مبدأ الإقليمية، والذي يعني – بدوره – تطبيق قانون العقوبات الوطني على كل شخص يرتكب جريمة داخل إقليم الدولة، بغض النظر عن جنسيته.

يُستنتج من ذلك – وبمفهوم المخالفة – أنه لا يطبق قانون العقوبات الوطني للدولة على أشخاص لا علاقة لهم بالدولة، وقاموا بارتكاب جرائم خارج حدود إقليم هذه الدولة.

ولكن، واستثناءً من هذه القاعدة (الإقليمية والشخصية لقانون العقوبات الوطني)، وأمام عجز القضاء الدولي في ملاحقة ومحاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة، والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الانسان (جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية) تم إنشاء ما يسمى بمبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني.

يُقصد بمبدأ الاختصاص العالمي، أنه يمكن للدولة أن تباشر اختصاصها القضائي على بعض أنواع الجرائم الدولية ومرتكبيها، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة، أو جنسية مرتكبيها. وذلك نظراً لوحشية وخطورة هذه الجرائم، إذ يدينها المجتمع الدولي بأكمله، وتجعل من مرتكبي هذه الجرائم أعداءً للشعوب عامة، والأذى الذي تلحقه هذه الجرائم بالمجتمع الدولي (العالمي)، يُلزم الدول جميعها بملاحقة المجرمين، بغض النظر عن جنسياتهم، وأماكن ارتكاب الجريمة.

ومبدأ الاختصاص العالمي يجد جذوره في القانون الدولي نفسه. حيث تنص اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، على التزامٍ يقضي بأن تحترم الأطراف السامية المتعاقدة، قواعد القانون الدولي الإنساني، وتكفل احترامها في جميع الأحوال. بمعنى أنه يتوجب على الأطراف المتعاقدة، احترام القانون الدولي الإنساني، ومن ضمن وسائل هذه الاحترام، مطالبة منتهكي القانون الدولي الإنساني بالكف عن هذا الانتهاك. كما أن فرض ذلك الاحترام ليس محدوداً بوسائل أو إجراءات معينة، بل يتسع ليشمل كل ما من شأنه أن يضمن تطبيق القانون الدولي الإنساني، وفقاً للأهداف التي صيغت من أجلها، فاذا أوقفت دولة هي طرف في اتفاقيات جنيف مجرمُ حربٍ، وحاكمته، أو سلمته الى الدولة المعنية بالمحاكمة، أو سنّت تشريعاتٍ يقتضيها القانون الدولي الإنساني، فإن ذلك يندرج في إطار احترام هذا القانون.

كما تنص اتفاقيات جنيف على عدم إعفاء أي دولة متعاقدة من المسؤوليات التي تقع على عاتقها، أو على طرف متعاقد آخر، بسبب ارتكاب إحدى الانتهاكات الجسيمة (جرائم حرب)، التي نصت عليها الاتفاقيات. وأكد البرتوكول الإضافي الأول لعام 1977، الملحق باتفاقيات جنيف الأربع، على أن كل طرف من أطرف النزاع مسؤول عن الأعمال التي يرتكبها أشخاص تابعين لقواته المسلحة.

نجد مما سبق، أن اتفاقيات جنيف الأربع، قد وضعت الأساس النظري للاختصاص العالمي، للقضاء الجنائي الوطني، والذي يمكن أن يوفر فعالية لا يتمتع بها القضاء الجنائي الدولي. انطلاقاً من هذا الأساس الدولي، اتجهت كثير من الدول، وخاصة الأوروبية الغربية، إلى ادماج وتفعيل مبدأ الاختصاص العالمي في تشريعاتها الوطنية، لملاحقة، ومحاسبة مرتكبي جرائم حرب أمام محاكمها الوطنية.

كانت بلجيكيا، من أولى الدول التي أخذت بمبدأ الاختصاص العالمي، وطبقته سنة 1993. حيث قام المشرّع البلجيكي في عام 1993، بإصدار قانونه، الذي أخذ بقاعدة الاختصاص الجنائي العالمي للقضاء الوطني، وطبقته على الجرائم التي تقع انتهاكاً لاتفاقيات دولية. ويذكر أن المشرّع البلجيكي لم يشترط وجود المتهم على أراضي الدولة البلجيكية، إلا أنه قام في 23 نيسان 2002، بإجراء تعديل على تطبيقها لمبدأ الاختصاص العالمي، تحت تأثير الضغط السياسي الخارجي، نظراً لإقدامها على النظر في محاكمة مسؤولين كبار في بعض الدول، منهم “آرييل شارون” رئيس وزراء إسرائيل سابقاً، عندما قدمت شكاوى ضده عن مسؤوليته عن المذابح الفلسطينية في مخيمات صبرا وشاتيلا سنة 1982. وبحسب التعديل لعام 2002، لا يجوز البدء في التحقيق في الجرائم التي ينعقد فيها الاختصاص العالمين، إلا بناءً على طلب مقدم من المدعي العام الفيدرالي. في عام 2003، أصدر المشرع البلجيكي، قانوناً آخراً، والذي سمح بالاختصاص الجنائي العالمي بجميع تعديلاته، وأعاد تضمين بعض نصوصه في قانون العقوبات، والإجراءات الجنائية البلجيكية. بموجب التعديلات الأخيرة، يُشترط لقبول الدعوى أمام المحاكم البلجيكية وجود المتهم على أراضي الدولة البلجيكية.

في فرنسا، قررت محكمة النقض الفرنسية، بموجب قرار صادر عنها، في تشرين الثاني2021، التضييق على اختصاص المحاكم الفرنسية بالجرائم الدولية المرتكبة في سوريا. حيث فرضت السلطة القضائية العليا شرطين يقيدان الاختصاص العالمي للمحاكم الفرنسية. وهما، أولاً: تواجد المتهم بارتكاب جرائم دولية، أو التي وقعت انتهاكا للقانون الدولي الإنساني، في إقليم الدولة الفرنسية، والشرط الثاني هو: يجب – بحسب محكمة النقض الفرنسية – أن تكون جريمة الحرب، أو الجريمة ضد الإنسانية، منصوصاً عليها في التشريعات السورية، استناداً لمبدأ “لا جريمة، ولا عقوبة إلا بنص تشريعي”.

في ألمانيا، وفي كانون الثاني 2022, قضت محكمة ألمانية، تطبيقاً لمبدأ الاختصاص العالمي، على العقيد السوري السابق أنور رسلان، بعد تواجده في ألمانيا، وتقديمه لطلب اللجوء، بالسجن مدى الحياة، لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، من بينها التعذيب، والاعتداء الجنسي، والاغتصاب بين عامي 2011 -2012.

مما سبق نلاحظ، أن هنالك قيوداً فرضت على تطبيق مبدأ الاختصاص العالمي، نتيجةً لضغوط سياسية، بالدرجة الأولى، تُمارس على الدول التي تأخذ بهذا المبدأ: كشرط تواجد المتهم على أراضي الدولة المعنية بتطبيق الاختصاص العالمي, أو شرط النص على الجريمة في قانون دولة المتهم. يضاف إلى هذه القيود، مبدأ الحصانة الدبلوماسية، الذي يقف عائقاً أمام محاسبة، أو ملاحقة رؤساء الدول والحكومات.

يُذكر أن اتفاقيتي فيينا، المتعلقة بالعلاقات الدبلوماسية، والعلاقات القنصلية، تنصان فقط على حصانة العاملين في السلك الدبلوماسي، دون التطرق الى حصانة رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة. لكن القانون الدولي العرفي يعترف بهذه الحصانة لرؤساء الدول والحكومات، ما داموا على رأس عملهم، ويؤدون وظائفهم. إذا تطبيقاً للقانون الدولي العرفي، لا يجوز للدول التي تأخذ بالاختصاص العالمي، ملاحقة رؤوساء الدول، والحكومات الأجنبية، لدى قيامهم بوظائفهم، وإلا سوف يكونوا عرضة للمساءلة الدولية.

في الختام، صحيحٌ أن هنالك قيوداً فُرضت على تطبيق مبدأ الاختصاص العالمي، وعوائق في طريق هذه التطبيق، مع ذلك يشكل هذا المبدأ أملاً كبيراً في عدم افلات منتهكي القانون الدولي الإنساني من العقاب، في ظل عجز المحاكم الدولية في محاكمة الأشخاص الذي ينتهكون ذلك القانون.

بالتالي يبقى الاختصاص العالمي، ملاذاً قانونياً لحماية سكان شمال وشرق سوريا من الاعتداءات التركية. وسبيلاً ممكناً، يمكن اللجوء إليه لملاحقة قادة وعناصر الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة السورية، وقادة الجيش التركي، الذين يرتكبون جرائم دولية “يومية” بحق المدنيين في شمال وشرق سوريا. حتى ولو كانت بعض الدول تشترط تواجد المتهم على أراضيها، فبمجرد وصوله إلى هذه الدول يمكن محاسبتهم، وفرض العقاب المناسب بحقهم على جرائم ارتكبوها سابقاً، خاصة أن الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم. في هذه الحالة، يبدو أن الضرورة تكمن في إيجاد آليات تحقيق وتوثيق لهذه الجرائم، من قبل المنظمات الحقوقية العاملة في شمال وشرق سوريا، وبدعم من الاتحادات الحقوقية، والهيئات القضائية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وتنسيق بين هذه المنظمات، ومثيلاتها الأوروبية، للمحاولة في استصدار مذكرات قضائية غيابية بحق المتهمين بالجرائم الدولية في هذه المناطق، أو تحريك دعاوي جنائية بحقهم في حال تواجدهم، يوما ماً، على الأراضي الأوروبية.

زر الذهاب إلى الأعلى