قضايا راهنة

تجدد احتجاجات السويداء يعيد “ملف الدُّروز” إلى الواجهة

انتفضت مدينة السويداء، جنوب سوريا، مرة أخرى يوم الأحد 4 ديسمبر/كانون الأول الجاري، مع وقوع ضحايا وإصابات؛ جراءَ إطلاق قوات النظام السوري النار على محتجين خرجوا في المدينة، يندّدون بتدهور الأوضاع المعيشية، وعجز النظام عن إيجاد حل للانهيار الاقتصادي والخدمي الذي تشهده البلاد مؤخراً؛ نتيجة اشتداد أزمة المحروقات، مما أدَّت إلى شل الحركة في معظم مناطق البلاد، بالترافق مع موجة ارتفاع غير مسبوقة للأسعار.

إلّا أن هذه الاحتجاجات اختلفت عن سابقاتها، فقد هاجم المحتجون مقرات رسمية، كمبنى المحافظة في قلب المدينة، وقاموا بإزالة صورة الرئيس بشار الأسد عن واجهته وإحراقه. ما أدى إلى حدوث مواجهات، قُتل على أثرها مدني وشرطي، وجُرِح آخرون في منطقة مبنى المحافظة ومبنى قيادة الشرطة، حيث شهدا توتراً للأوضاع الأمنية. بحسب صحيفة “الشرق الأوسط” في 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري.

لكن، ما هي الأسباب الحقيقة لتصعيد الاحتجاجات من قِبل “الدروز” في محافظة السويداء؟ وما هي مطالب المحتجين؟ وما الخصوصية التي يحظى بها الدروز؟ وما دور كل من روسيا وإيران في هذه المحافظة؟

نبذة عن الطائفة الدُّرْزِيَّةِ

تُعنبر الدُّرزيَّة مذهباً دينيّاً، اسمه مذهب التوحيد، يبلغ عدد أتباع هذا المذهب ما يقارب المليون ونصف شخص في العالم، يعيش أغلبهم في الشرق الأوسط (سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين/إسرائيل)، وهناك جاليات عديدة في دول مثل أستراليا وأمريكا. يشكّل الدروز ما يقدّر بنحو 3.2% من السكان في سوريا أي بين 700,000 إلى 800,000 نسمة، فيما تقول بعض المصادر أن عدد الدروز السوريين يبلغ حوالي المليون نسمة. يشكلون نحو ثلاثة في المئة من إجمالي عدد السكان البالغ 23 مليوناً قبل اندلاع النزاع، الذي أدى إلى نزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد، وخارجها. ومع طول أمد الأزمة وتداعياتها المكلِفة اقتصادياً، بدأ يبرز تململ داخل هذه الطائفة، التي وجدت نفسها تعاني كما باقي السوريين من أزمة معيشية لا أفق لحلها، تزامناً مع تشديد النظام لقبضته الأمنية في مواجهة أيّ حراك.

وبحسب الروايات، فإن اسم الدروز جاء نسبةً إلى شخص يدعى “محمد بن اسماعيل نشتكين الدرزي”، لكن الدروز يعتبرونه محرّفًا للحقائق؛ لذلك ينبذ الدروز هذه التسميّة، ويفضّلون أن يُشار إليهم بالموحّدين، وذلك نسبةً إلى اعتقادهم الأساسي في توحيد الله وعدم الإشراك به. هناك تسميةٌ أخرى للدروز وهي ”بني معروف“، أي “أهل المعروف والإحسان”، الصفات التي يتحلى بها الدروز بحسب عقيدتهم وتاريخهم. والدرزيّة —بعكس أغلب الأديان— ليست ديانة تبشيريّة ولا يسعى أيّ من أبنائها إلى دعوة أفرادٍ من خارج الدين إلى اعتناقها، بحسب كتاب “طائفة الدروز: تاريخها وعقائدها” لـمحمد كامل حسين.

تعرّض الدروز للاضطهاد في العديد من الأحيان على مر التاريخ، باعتبارهم “منشقين” عن الإسلام، فكُفّروا بالعديد من الفتاوى، واعتُبروا “مرتدين عن الإسلام”. وأيضًا بسبب كونهم أقليّة عرقيّة.

العَلَم والرموز الدُّرزية

العلم الدّرزي هو رمز الطائفة الدرزية، ويمثّل -في الواقع- العقيدة الدرزية وأُسسها. هناك شكلان مختلفان للعلم الدرزي:

  • الأول: علم عادي ألوانها مصفوفة فوق بعضها البعض.

  • الآخر: علم على شكل نجمة خماسية.

ويأتي في الشكلين خمسة ألوان: الأخضر، الأحمر، الأصفر، الأزرق والأبيض، بحيث أنّ لكل لون معنى خاص ورئيسي مهمّ عند الدروز:

الأحمر: يرمز للبسالة، الشجاعة والحبّ. الأصفر: المعرفة، التنوير والقمح. الأخضر: الأرض والطبيعة. الأزرق: الصبر، التسامح، الأخوة، السماء والماء. الأبيض: السلام والنقاء.

التاريخ السياسي للدروز في سوريا

يعود التاريخ السياسي للدروز إلى نحو ألف سنة، فبعد أن اعتنقت بعض العشائر “التنوخية” في جبل لبنان مذهب التوحيد، وتغلبهم على المحنة، وفرضهم لوجودهم في بلاد الشام، غدوا لاعباً أساسياً في تاريخ المنطقة. فقد ساهم “التنوخيون” الدروز في مقارعة الصليبين، لا سيما في “معركة حطين”، وكسبوا ثقة الزنكيين والأيوبيين، وقوي وجودهم في ظلهم، وبرزت من وقتها عائلات الدروز العريقة كـ”أرسلان واللمعيين” وغيرهم. ثم تابعوا تقوية نفوذهم بالوقوف مع “المماليك” ضد “التتار والمغول”، ولا سيما في معركة “عين جالوت”، وقفوا مع العثمانيين ضد حملة “محمد علي” ضد بلاد الشام، وصمدوا في “جبل العرب” جنوب دمشق حوالي سنة بقيادة “الشيخ يحيى الحمدان” حاكم الجبل في تلك الفترة، حيث كبدوا المصريين خسائر فادحة فيما يعرف بمعارك (اللجاه)، وظلت العلاقة مع العثمانيين في أخذ ورد؛ حيث كانوا يقومون بالتمرد على السلطة العثمانية، وكان الحكم العثماني يبعث الحملات إلى “الجبل” للسيطرة عليه، لكن دون جدوى.

ولما سيطر القوميين العنصريين الأتراك، وصاروا ينتهكون حرمات “الجبل” وعاداته، ويعدمون الأحرار أمثال “ذوقان الأطرش” و”يحيى عامر” وغيرهم عام 1911، ويضيقون على العرب عموماً، قام الدروز بمحاربتهم ثم أعلنوا الولاء للشريف حسين وتطوع المئات منهم في “الجيش العربي”، فيما شكّل سلطان الأطرش في جبل الدروز بسوريا “قوة فرسان”، وسارت مع “الجيش العربي” من الجبل، وكانوا في طليعة الذين دخلوا دمشق ورفعوا العلم العربي فوقها.

وبعد احتلال سوريا من قِبل فرنسا، قام الدروز بإشعال فتيل “الثورة السورية الكبرى” في جبل الدروز، بقيادة سلطان باشا الأطرش في عام 1925، وخاضوا معارك عديدة، كبدت الجيش الفرنسي خسائر كبيرة، كـ”معركة الكفر” و”تل الحديد” و”المزرعة”، ونقلوا الثورة إلى دمشق وغوطتها، وإلى لبنان وجبل الشيخ، ورفضوا تشكيل دولة درزية. وكان لهم الدور الأكبر والأساسي في الاستقلال عن فرنسا، حيث ثاروا على الجيش الفرنسي بعد دخول الجيش الفرنسي والبريطاني، وقضائهم على “حكومة فيشي”.

وبعد الاستقلال اندمج الدروز في كل بلد مع مواطنيهم، واشتركوا معهم في الأحداث السياسية. وفي سوريا، حاول أديب الشيشكلي -وهو رئيس الجمهورية لعام 1954- إثارة فتنة، حيث حاول استخدام “الجيش الوطني” للفتك بالدروز، وحصل ذلك في عدة قرى. إلا أن سلطان الأطرش والزعماء السوريين الآخرين استطاعوا إقصاء الشيشكلي ونفيه إلى البرازيل، حيث اغتاله أحد الدروز “الموتورين”، وهو “نواف غزالة”. وذلك بحسب ما جاء في دراسات لـ”معهد واشنطن” عن الدروز.

المكانة الجيواستراتيجية للدروز

تُعتبر محافظة السويداء عاصمة ومركز تجمع الدروز في سوريا، وهي منطقة استراتيجية تقع في الجنوب الشرقي من العاصمة، وتحدها دمشق من الشمال، ودرعا من الغرب، والبادية والصفا من الشرق، والأردن من الجنوب، تبلغ مساحتها (6550) كم²، وتقطنها أغلبية من الدروز الموحدين، وبقيت على الحياد منذ بداية الأحداث في سوريا، باستثناء مظاهرات سلمية خرجت في البداية.

وعلى الرغم من أن الدروز يشكلون أقلية صغيرة نسبياً في سوريا، وسعوا إلى تجنب التدخل بصورة أعمق في الحرب الدائرة في البلاد، إلّا أن مكانتهم الاستراتيجية في المنطقة الجنوبية الجبلية من جبل الدروز، تمنحهم بالضرورة النفوذ للتأثير على الجهات الطامحة إلى السيطرة على مستقبل سوريا. وفي بداية الحراك الثوري في سوريا، تسنّت للمعارضة فرص متعدّدة للاستفادة من هذا النفوذ؛ نظراً لأن ولاء الدروز لنظام الأسد كان محدوداً في أحسن الأحوال. غير أن الأسد نجح في استغلال مخاوف هذه الطائفة، وإقناعها بالتعاون معه بفاعلية أكبر، للدفاع عن مركز دمشق، مستفيداً بالدرجة الكبرى من سلسلة أخطاءٍ ارتكبتها المعارضة ومجموعاتها المسلحة، التي اتخذت طابعاً دينياً متشدداً، أثارت المخاوف لدى الدروز، الذين فضّلوا في النهاية الوقوف على الحياد.

أسباب عودة ملف الدروز السوريين إلى الواجهة وحساسيتها

تشهد محافظة السويداء كل فترة احتجاجات شعبية، غالبيتها كانت بسبب الظروف المعيشية المتردية، وقلة الخدمات المقدمة لهم، بالإضافة إلى رفع الدعم الحكومي عن شرائح واسعة من السوريين الخاضعين لسلطة النظام، المقدمة لمواد أساسية، أبرزها الخبز. وهذه الأسباب -إلى جانب أزمة المحروقات- أعادت الاحتجاجات إلى الواجهة وبشكل أعنف من سابقاتها.

ولمحافظة السويداء خصوصية طائفية، وهو ما يعطي سكانها هامشاً واسعاً للتحرك الشعبي، احتجاجاً على سياسات النظام، إذ منحها وضعاً أمنياً خاصاً، كي يبقي طائفة الموحدين الدروز خارج الصراع معه. وكان لافتاً ارتفاع سقف المطالب من قِبل المحتجين في محافظة السويداء ليصل –هذه المرة- إلى المطالبة بإسقاط النظام، بعد أن كانت سقف مطالبهم تحسين الظروف المعيشية وضبط الأمن، مما يشير إلى انهيار كبير للوضع الاقتصادي والخدمي، لدرجة لم يعد السكان يتحملونه.

ومع مرور أكثر من عقد على الأزمة السورية، والتي أفرزت أزمات اقتصادية وخدمية واجتماعية، باتت محافظة السويداء مركزاً للتعبير عن الاستياء الشعبي على ممارسات وسياسات النظام المتبعة في مناطق سيطرته، لذلك بات النظام يرسل الوفود -بعد كل احتجاجات- لترضية أهالي السويداء، أو للاستماع لمطالبهم، غير أنه -في الغالب- لا يلبي أياً منها.

وعلى الرغم من عدم انخراط محافظة السويداء في الحراك الثوري في سوريا بشكل واسع النطاق، ونأت بنفسها عما تشهدها سوريا من حرب أهلية وطائفية، إلا أنه ظهرت، خلال سنوات الأزمة، العديد من الحركات المناوئة بشكل أو بآخر للنظام السوري. ولعل أبرزها حركة “رجال الكرامة”، التي تأسست على يد “الشيخ وحيد البلعوس” في عام 2013، لمنع أجهزة النظام الأمنية من اعتقال الشبان الرافضين تأدية الخدمة الإلزامية في قواته. ولكن هذه الحركة تلقت صدمة كبرى حين اغتيل قائدها ومؤسسها منتصف عام 2015، في تفجير دامٍ، اتُهم النظام حينها بالوقوف وراءه.

ومع أن المحرك الرئيسي لحركة الاحتجاج في السويداء “اقتصادي”، لكن هناك مطالب سياسية، وهناك معارضون للنظام – بالمعنى السياسي – بين صفوف المتظاهرين، ولوحظ أن حركة الاحتجاج الحالية أكثر تأثيراً في المجتمع السوري وخارجه، وحظيت باهتمام ودعم الطائفة الدرزية في كل من لبنان وفلسطين، الأمر الذي يثير مخاوف النظام السوري من أن تأخذ الأوضاع في السويداء بعداً دولياً وإقليمياً، خاصة بعد أن هدد الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، موفق طريف، في فبراير/شباط الماضي بتدويل قضية السويداء، بعد اجتماع الهيئة الروحية لدروز فلسطين، وكذلك بعد أن شهدت محافظة السويداء حينها -أيضاً- احتجاجات شعبية على الظروف المعيشية الصعبة، على خلفية قرار الحكومة بالحد من أعداد المستحقين للدعم على المنتجات الأساسية كالخبز، الغاز، المازوت، وغيرها. لذا، يحاول النظام –دائماً- اتباع اسلوب التهدئة معهم، غالبيتها كانت عبر وساطات روسية.

ورغم عدم ثقة أهالي السويداء بروسيا، وبوعود النظام السوري في تحسين الأوضاع، إلا أن وجهاء الدروز، ورجالات الدين فيها، وفعالياتهم المجتمعية والسياسية كانت تفضّل التهدئة والتفاوض؛ لمنع انزلاق الأوضاع إلى العنف، مع تقديمهم كل مرة جملة من الشروط أمام دمشق لتعليق الاحتجاجات. بالإضافة إلى طرح مبادرات لإيجاد حل شامل للأزمة السورية عامة وفي السويداء بشكل خاص، وكان آخرها في 14 فبراير/شباط 2022، حين أعلن كل من “هيئة التنسيق الوطني – حركة التغير الديمقراطي، والمؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار، والمبادرة الوطنية في جبل العرب” عن سبعة حلول لإنهاء الأزمة وكان أبرزها:

  • التفاهم على خارطة طريق، تتبناها هذه القوى للحل السياسي، على أساس القرار الأممي (2254)، أو أي صيغة أخرى تلبي تطلعات السوريين في الانتقال الديمقراطي والحرية والكرامة.
  • العمل مع الأوساط الدولية المعنية، لزيادة المساعدات الإنسانية، وضمان إيصالها إلى السوريين المحتاجين في كافة المناطق السورية. والمساهمة بالتخفيف عن معاناتهم داخل البلد وفي مخيمات النزوح واللجوء.
  • المطالبة برفع العقوبات الدولية، التي تضر بحياة المواطنين، وتزيد من مآسيهم.
  • المطالبة بتغيير جذري وشامل لنظام الاستبداد إلى نظام ديمقراطي تعددي لامركزي، يفصل الدين عن الدولة.

وبالنظر إلى رفع المتظاهرين في الاحتجاجات -إلى جانب مطالبهم- العلم الخاص بالطائفة الدرزية، فإن ما تشهدها مدينة السويداء من احتجاجات لا تتعلق فقط بالأزمة الاقتصادية، بل يعود أيضاً لأسباب تتمثل في المطالبة بالمساواة، وخصوصية محافظة السويداء والطائفة الدرزية، فيما ارتفعت الكثير من الأصوات من داخل الطائفة، التي طالبت بتطبيق نظام لا مركزي في سوريا، يضمن المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين مكونات السوريين، ومناطقهم، ومحافظاتهم، ويبقي على سوريا موحدة، وذلك على غرار تجربة الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا التي طرحها الكرد.

لقد حدد الرئيس الجديد لـ “مشايخ الكرامة” رأفت البلعوس، في بيان “جبل العرب” عام 2015، مطالب الدروز في التحرر والاستقلال بشكل واضح. إذ طالب الدروز في بيان “جبل العرب”، بـ”أن تكون السويداء منطقة محررة، واستمرار عمل المؤسسات العامة والخدمية، بإشراف الإدارة الذاتية المنبثقة من الهيئة الموقتة لحماية الجبل، وتكليف لجنة التفاوض السياسي للتواصل مع الحكومات وهيئات ومؤسسات المجتمع الدولي لنقل الحقائق، واعتماد وضع الجبل تحت بند منطقة آمنة أو منطقة حظر جوي، وفتح معبر حدودي مع الأردن بالتنسيق مع حكومته”.

فأهالي السويداء باتوا يرون بأن اللامركزية الإدارية من شأنها إحداث تنمية اقتصادية للمحافظة، بعدما حصرت الدولة المركزية النشاط الاقتصادي والسياحي بمدينتي دمشق وحلب، وحوّلت بقية المناطق السورية إلى مصدر للمواد الأولية بأسعار زهيدة، ومصدر للأيدي العاملة بأجور بخسة، وسوق لتصريف المنتجات بأسعار عالمية.

دور روسيا وإيران في السويداء

إن موضوع السويداء لم يعد متعلقاً بالأزمة المعيشية فقط، فموقعها الجغرافي الحساس جنوبي سوريا، والمتاخم لحدود اسرائيل ولبنان، جعل منها هدفاً لكل من روسيا وإيران والنظام السوري، الراغبين في بسط نفوذهم على هذه المحافظة. لذا، بات الدروز يتخوفون من خطورة هذا الوضع، وخشيتهم من أن التصعيد أكثر في الاحتجاجات قد يجرهم إلى حرب مع الحكومة السورية، والمليشيات الإيرانية، التي تتحين الفرصة؛ للسيطرة على هذه المحافظة الاستراتيجية.

وهذه المخاوف دفعت الدروز لطلب الوساطة الروسية. ومن هنا، يمكن قراءة دخول “رئيس الطائفة الدرزية في فلسطين “موفق طريف” على خط الاحتجاجات، والذي زار موسكو في فبراير/شباط 2022، في محاولة لمنع انزلاق الأوضاع في السويداء إلى الحرب، وأن تتدخل روسيا لقطع الطريق أمام محاولات الميليشيات الإيرانية التدخل في السويداء.

ووجدت روسيا في هذه الوساطة فرصة لبسط نفوذها على هذه المحافظة، وأرسلت حينها بعثة عسكرية إلى المحافظة، ضمت ضباطاً من القيادة الروسية في “مركز المصالحة”. وناقش الجانب الروسي عدداً من القضايا الخدمية في السويداء، منها تحسين شبكات المياه والكهرباء، وافتتاح “المركز الثقافي الروسي” في السويداء، والمساعدات الإنسانية التي توزعها روسيا في السويداء. وكان واضحاً أن الجانب الروسي تعمَّد التقارب في السويداء عبر تدخله في مجال المساعدات الإنسانية مؤخراً. فضلاً عن التقارب مع القيادة الروحية للطائفة الدرزية من خلال الزيارات العديدة التي قامت بها القوات الروسية لـ”شيوخ العقل” في السويداء. وذلك في محاولة من روسيا لكسب الدروز لصفها، وإقناعهم في ضم أبنائهم المتخلفين عن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري إلى التشكيلات العسكرية التي تديرها روسيا في سوريا، وبالتالي إبعاد إيران وميليشياتها بما فيها “حزب الله” اللبناني عن تلك المنطقة. لذلك، أرادت روسيا إبقاء سيطرتها على منطقة نفوذها الأساسية شرق محافظة درعا وضم السويداء إليها، ومنع تغلغل إيران و”حزب الله” بشكل كامل، هادفةً من وراء ذلك إلى إيقاف عمليات التجنيد، التي تقوم بها إيران، وتقليص نفوذها في الجنوب السوري.

يذكر أن “عملية التسوية” التي أطلقتها روسيا في درعا، تقضي بإبعاد الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” عن الحدود السورية – الأردنية من 40 إلى 60 كيلومتراً، وذلك بسبب خشية كل من الأردن وإسرائيل من أن يسهّل ذلك عودة النظام إلى الجنوب، وتموضع القوات الإيرانية والقوات الحليفة لها قرب حدودهما. وعليه، لم ترغب روسيا أن تسيطر إيران على السويداء هذه المرة كبديل عن درعا التي فقدتها، فيما تعتبر إيران و”حزب الله” المنطقة الجنوبية من سوريا ذات أهمية جيواستراتيجية، وخط جبهة لأي مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل.

لكن يبدو أن الروس لا خطة سياسية لديهم، ولا حتى إمكانيات اقتصادية لتغطية المشاريع التي تؤدي إلى فرض الاستقرار في السويداء، سوى بعض المساعدات الإنسانية الإسعافية، التي يمكن أن تحل المشكلة، ويبدو أن هدف الروس الأساسي هو السيطرة على المحافظة، واستهداف الشبان الرافضين للالتحاق بالخدمة العسكرية. كما أن الروس يحاولون -أيضاً- بيع أوراق للعمق العربي ولإسرائيل على أنهم قادرين على ضبط الاستقرار في الجنوب السوري، وتشكيل قوات أمنية للحد من تمدد “حزب الله” وإيران، على حساب الدروز.

ولكن تغيرات المشهد في السويداء بالمنطقة الجنوبية من سوريا، بدأت تتطور تباعاً، بعد تقلص التواجد العسكري الروسي من الجنوب السوري، نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية، وازدياد تواجد الميليشيات الإيرانية بدلاً منها، والتي سارعت -بدورها- لتثبيت حضورها غير الرسمي “عبر تقوية الأذرع المحلية في السويداء، التابعة لشعبة المخابرات العسكرية السورية، والموالية للميليشيات الإيرانية، والتي توزع عليهم المواد المخدرة وتدفع لهم أجور شهرية، تتراوح بين (150 دولاراً) و (170 دولاراً)”، بحسب تقرير نشره موقع “السويداء 24”.

كما إن الميليشيات الإيرانية تستخدم هذه المجموعات المحلية المسلحة، لأهداف عسكرية وسياسية لفرض نفوذها وسيطرتها على الجنوب السوري عامة والسويداء خاصة، التي تنشط فيها جماعات مسلحة معارضة للنظام السوري والميليشيات الإيرانية، ومن أبرزها “قوات مكافحة الإرهاب”، والتي تُعرف بأنها من الفصائل المتعاونة مع “جيش مغاوير الثورة”، المدعوم من التحالف الدولي، والمتمركز في قاعدة “التنف” العسكرية شرقي حمص. ففي مارس/آذار الماضي، سلّم فصيل “مكافحة الإرهاب” من وصفه بـ”عميل الأمن العسكري” جودت حمزة للقاعدة العسكرية الأمريكية في منطقة التنف، لضلوعه بالعمل لمصلحة “حزب الله” اللبناني في نقل وترويج المخدرات داخل محافظة السويداء، وبعد تلك الحادثة حرّكت إيران جماعة “راجي الفلحوط” ضدها، والتي اشتبكت مع “قوات مكافحة الإرهاب”، وقتلت قائدها “سامر الحكيم” في يونيو/حزيران الماضي، وتحدثت معلومات عن أن “الحكيم” وأفراد مجموعته كانوا يحاولون الوصول إلى قاعدة التنف، قبل أن يقعوا في كمين قرب الحدود السورية الأردنية، من قِبل عناصر من المخابرات العسكرية، وجماعات مسلحة داعمة لها. فيما نشرت مليشيا “المقاومة الشعبية” في السويداء المدعومة من إيران، صورة تظهر جثة “الحكيم”، وكتبت عليها عبارات تتشفى بقتله. الأمر الذي أثار غضب أهالي السويداء، معتبرين أنها رسالة تهديد من قبل الميليشيات الإيرانية وأجهزة الأمن التابعة النظام لأبناء السويداء، الرافضة لإرسال أبنائها للخدمة الإلزامية في الجيش السوري.

حكومة دمشق تحاول تطويع الدروز

تبنى الدروز في سوريا على مدى السنوات الأولى من عمر الأزمة، موقفاً يميل إلى الحياد، والتركيز على الدفاع عن أنفسهم ومناطقهم، دون أن يكون لهم انخراط عملي في الصراع، كما هو الشأن بالنسبة إلى معظم الأقليات في هذا البلد. وهذا يعود إلى طبيعة هذه المجموعات التي فقدت الثقة بكافة الأطراف المتصارعة في سوريا.

فيما حاول النظام -خلال السنوات الماضية- الحصول على دعم الفعاليات المحلية، من أجل إقناع أهالي السويداء بإرسال أبنائهم المتخلّفين عن الخدمة العسكرية للالتحاق بقواتها، حيث تشير إحصائيات غير رسمية إلى أنّ عدد الشبان المتخلفين عن الخدمة العسكرية يزيد عن 40 ألف شاب، نصفهم ما زالوا داخل البلاد. لكن جهود النظام لم تسفر عن نتائج تذكر، فيما أربكت الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء، في فبراير/شباط من العام الجاري، النظام السوري، مما دفعه إلى محاولة تهديد الأهالي، عبر إرسال المزيد من التعزيزات إلى المحافظة ومحيطها، وتخويفهم من عودة تنظيم “داعش” إلى المنطقة من جهة، واتهام المتظاهرين بـ”العمالة للخارج ولإسرائيل” على وجه التحديد من جهة أخرى، لا سيما بعد دخول “رئيس الطائفة الدرزية في فلسطين “موفق طريف” على خط الاحتجاجات، والذي زار موسكو، ودعا قبل ذلك إلى تدويل “قضية السويداء” وطرحها أمام المحافل الدولية.

وهذا ما دفع بعض وسائل إعلام النظام، للترويج لتهمة محاولة الدروز فصل السويداء عن سوريا وضمها لإسرائيل، وتحت هذه التهم ضيّق النظام الخناق على المحافظة، عبر قطع الدعم عن المواد الأساسية، وتجويعهم من جهة، وسعي مخابرات النظام بكل أفرعها لخلق النزاعات بين مكونات أهالي السويداء، من خلال تجنيد مجموعات مسلحة، كجماعة “الفلحوط” وتدريبها، وتزويدها بالسلاح والبطاقات الأمنية؛ لتستخدمها ضد الفصائل المحلية من أبناء السويداء المعارضين لسياسيات النظام، وضرب الأمن والاستقرار في المحافظة، ودفع الدروز للنزوح والهجرة، بحسب “موقع السويداء 24”.

الرؤية

إن تجدد الاحتجاجات كل فترة في السويداء، وانتهائها بدون تحقيق أي مطالب، ومنع تحولها إلى احتجاجات مسلحة ذو طابع عنيف، يعود إلى غياب الأحزاب والقوى السياسية في السويداء، ولدور المرجعيات الدينية التي دائماً تحاول تأطير مطالب المحتجين ضمن الإطار الخدمي، في حين عطّلت هذه المرجعية -في وقت من الأوقات- عمل الأحزاب الناشئة كحزب “اللواء” ومؤتمر الداخل السوري؛ لخشيتهم من أن تضعف الأحزاب دور المرجعيات، وخلق شرخ في المجتمع والطائفة الدرزية.

لا يخفى أن لروسيا أهداف كثيرة من وراء المحافظة على الوضع القائم حالياً (الستاتيكو)؛ بسبب تفاهمات إقليمية، منها “التسوية” التي قامت في يوليو/تموز 2018، والتي سيطر بموجبها النظام على محافظة درعا بوساطة روسية، لكن هذه التسوية لم تسيطر على الفوضى الأمنية، التي تُرجمت باغتيالات وتفجيرات وعمليات خطف واعتقال. وعلى الرغم من أن سيطرة النظام على المحافظة تمت -بمعظمها- عبر “الضامن” الروسي، من خلال اتفاقيات التسوية مع فصائل المعارضة، إلا أن هذا “الضامن” كثيراً ما يتوارى عن المشهد في المحافظة، فيما يبرز دور الميليشيات التابعة لإيران أو المدعومة منها، وسط تنافس -لم يعد خافياً- بينها وبين تلك التي تدعمها روسيا.

المجتمع المحلي في السويداء ينظر إلى الروس كطرفٍ خذلهم بعد عدم التزامهم بالوعود التي قطعوها سابقاً، حتى أن بعض أفراد المجتمع الدرزي يرون فيها قوة محتلة؟، رغم أنهم -بداية قدوم الدوريات الروسية إلى المحافظة- كانوا يفضّلونها على القوات الإيرانية أو المدعومة من طهران، لاسيما مع رفض الأهالي للتمدد الإيراني، الذي يستهدف تغيير هويتهم الاجتماعية، ولكن الدروز لا يثقون بالروس أيضاً.

إن علاقات دروز السويداء مع أشقائهم في كل من لبنان وفلسطين واسرائيل، والدعم والمساندة السياسية التي يحظون بها من قِبل شخصيات درزية نافذة في البلدان المذكورة والعالم، منع -حتى الآن- النظام السوري وروسيا من استخدام العنف ضدهم، لخشيتهم من أن تصبح قضية الأقلية الدرزية في سوريا قضية دولية، وبالتالي مطالبتهم بالحكم الذاتي، أو المطالبة بضم محافظتهم لإسرائيل أو لبنان.

لا شك أن الاحتجاجات المتصاعدة في السويداء تشكل تحدياً حقيقياً بالنسبة إلى نظام السوري، ليس فقط من جهة إمكانية تمددها لباقي المناطق الواقعة تحت سيطرته، بل لأنها قد تقود إلى مطالبة هذه الطائفة بحكم ذاتي، كما حصل مع الكرد في شمال شرق سوريا، وإن كانت الظروف -حتى من الناحية الجغرافية- لا تخدمها.

إن الغضب من تردي الأوضاع المعيشية، والتحركات الأخيرة، ورغم توقفها –حالياً- كالمرات السابقة، إلا إنها معرضة للتجدد دوماً، ما لم يقم النظام باحتوائها بحلول حقيقية للمشكلات الاقتصادية. وإن مواجهتها بالعنف، والأساليب الأمنية، أو التهديد الخارجي، أو حتى بإشراك شخصيات اجتماعية نافذة، هو من قبيل الحلول “الترقيعية” التي قد تطفئ جذوة الحراك مؤقتاً، لكنها حتماً لن تنهيه ما دامت أسبابه قائمة.

نلاحظ من خلال سرد الأحداث المتعلقة بحالة الطائفة الدرزية خلال الأزمة السورية، الشبه الكبير بينهم وبين حالة الشعب الكردي في سوريا، من ناحية خطابهما الداعي للسلام. وذلك، بعد تيّقنهما من فشل “الثورة” وتحول مسارها إلى مسار ديني وعنصري متشدد وعدم قبولها للآخر. إلى جانب محاولات الدروز –مثلهم مثل الكرد- النأي بالنفس عن أتون الحرب السورية التي دخلتها الكثير من الأيادي الخارجية والإقليمية، وعلى رأسها تركيا وإيران، وسط محاولات النظام والمعارضة والمجموعات الإرهابية جرهما (الدروز، والكرد) إلى مستنقع الدم، واستخدامهما وقوداً لنار حروبهم العنصرية والطائفية، دون اعتراف أحد بهويتهم وحقوقهم وخصوصيتهم. وعندما اختار الكرد والدروز الوقوف على الحياد، والدفاع عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم، بدأت تلك الأطراف بتضييق الخناق عليهما، وحصار مناطقهما، واتهامهم بالكثير من التهم كـ “الانفصاليين والكفار والزنادقة والخونة…”؛ في سبيل تبرير عدوانهم على الطرفين.

زر الذهاب إلى الأعلى