“المادة 51”.. وسيلة تركيا لشرعنة هجماتها
بعد تصعيد تركيا – مؤخراً – للغة التهديد العسكري ضد مناطق شمال وشرق سوريا، واستهدافها للبنية التحتية، والمرافق الحيوية والعامة (مشافي، ومدارس، ومحطات طاقة، ومياه، ومخازن حبوب) على طول الحدود السورية-التركية في شمال وشرق سوريا، نتيجة ما تسمى بـ”عملية المخلب-السيف”، كَثُر الحديث عن “المادة 51” لميثاق الأمم المتحدة، والتي تحاول تركيا من خلالها شرعنة عمليتها الأخيرة والمزعومة في سوريا، والتي بدأتها بحجة الرد على التفجير الإرهابي الذي وقع في “شارع الاستقلال” وسط إسطنبول في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأودى بحياة 6 أشخاص، متهمة بذلك قوات سوريا الديمقراطية، التي نفت بدورها أن يكون لها أي علاقة بالتفجير.
تلجأ الكثير من الدول، في تبرير هجماتها ضد دول أو جماعات، إلى البحث عن ذرائع تشرعن غزوها وهجماتها البرية والجوية ضد ما يصفونها بـ”التهديدات لأمنهم القومي”. وأغلب تلك الدول تختبئ تحت عباءة “المادة 51″ لميثاق الأمم المتحدة، كما حصل مؤخراً في الغزو الروسي لأوكرانيا، والآن في هجمات الاحتلال التركي ضد مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي حاربت ولا تزال تحارب المجموعات المصنفة على لوائح الإرهاب العالمية كـ”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، والجماعات الإرهابية التابعة للمعارضة السورية المسلحة (جبهة النصرة وأذرعها)، والتي تتلقى الدعم بشكل مباشر وغير مباشر من تركيا.
استغلال تركيا لـ”المادة 51″ من ميثاق الأمم المتحدة
تندرج المادة 51 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهي تنصّ على ما يُتخذ من أعمال، في حالات تهديد السلم، والإخلال به، ووقوع عدوان على المدنيين في دولة من الدول.
وتقول المادة: إنه “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم، إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء (الأمم المتحدة)، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي”.
وتشترط المادة أن تكون “التدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس، تُبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال من الأحوال على سلطة مجلس الأمن، فيما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق- الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه”.
إن المادة 51 كانت سبباً في بداية انطلاق الحرب ضد داعش في العراق وسوريا، حيث ظهر تنظيم (داعش) كتهديد مباشر ضد الكثير من الدول، بعد تنفيذ هجمات إرهابية. لذا، استندت الإدارة الأمريكية – في حزيزان 2014 – في قرارها إلى تلك المادة، وطلب الحكومة العراقية إرسال قوات أمريكية لمساعدة القوات العراقية في مواجهة الخطر الذي يمثلهُ داعش على العراق، وأمر الرئيس الأمريكي آنذاك “باراك أوباما” بإرسال قوات عسكرية إلى منطقة الشرق الأوسط، للرد على الهجوم الذي شنته داعش على العراق. وبعد سيطرة داعش على مساحات واسعة من سوريا والعراق، والتمدد نحو مدينة كوباني، ضمن مناطق سيطرة القوات التابعة للإدارة الذاتية، كان لا بد من تشكيل تحالف دولي لمحاربة الإرهاب، وجعلها ضمن أولويات الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استطاعت الأخيرة إقناع الكثير من الدول في الانضمام إلى هذا التحالف، والاعتماد على قوات محلية لا تربطها أي ارتباط بالجماعات الإرهابية كـ”داعش وجبهة النصرة”. وهذا ما أدى إلى عزوف أمريكا عن الاعتماد على المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا.
لكن لم تُحتكر المادة على محاربة داعش، فقد استغلتها تركيا من أجل مصالحها وأطماعها في السيطرة واحتلال أراضي سورية، حيث قامت –إلى جانب الفصائل السورية الموالية لها- بعدة عمليات عسكرية، وهجمات ضد مناطق شمال وشرق سوريا، واحتلال مناطق آمنة بذريعة “محاربة الإرهاب، وإنشاء منطقة آمنة”، المنطقة التي باتت تفتقر إلى الاستقرار، وتشهد انتهاكات جسيمة على يد الفصائل التابعة لتركيا.
فقد سبق وأن تذرعت تركيا باستخدام هذه المادة في هجماتها وتدخلاتها في سوريا، وشنت ثلاث هجمات كـ”عملية درع الفرات عام 2016″ في منطقتي إعزاز وجرابلس والباب في ريف حلب, وعملية “غصن الزيتون 2018″ في منطقة عفرين، وعملية” نبع السلام عام 2019″ في سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض، ليتبين لاحقا أنّ الهدف الأساسي لتركيا من وراء تلك العمليات كان تغيير ديموغرافية تلك المناطق، وتهجير سكانها واحتلالها؛ تمهيداً لتوطين 3 مليون سوري، تزعم تركيا أنّهم يقيمون على أراضيها، كما عمدت إلى تدمير مختلف الأجهزة الإدارية والأمنية في المناطق السورية التي احتلتها، واستبدلتها بأخرى موالية لها، واعتمدت على قواعد أساسية تتعلق بفرض التتريك، وتغيير أسماء القرى والبلدات الى التركية، وغير ذلك. كما أنّها استخدمت ذات المادة في التدخل العسكري لدول أخرى، كليبيا والعراق، وإقامة قواعد عسكرية تركية فيها.
نعم، لقد أصبح القانون الدولي ذاته على مفترق طرق. فمن المعتاد أن تستشهد به تركيا عندما يكون في صالحها، وتتجاهله عندما ترى أنه مصدر إزعاج لها، فهجمات روسيا والنظام السوري على مناطق سيطرة تركيا والفصائل المسلحة الموالية لها في إدلب وشمال غربي سوريا، والتي تنفذ كذلك بهدف “محاربة الإرهاب” تثير غيظ تركيا، وفي أكثر من مناسبة دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الروسي إلى وقف تلك الهجمات، لأنها “تستهدف البُنى التحتية والمدنيين” بحسب أردوغان، متناسياً أن عدد الذين فقدوا حياتهم نتيجة هجماته وعملياته العسكرية ضد مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كانت بالآلاف، جلّهم من المدنيين العزل، إلى جانب تهجير مئات الآلاف من أراضيهم وبيوتهم.
التوغلات العسكرية التركية في سوريا حافلة بالانتهاكات الحقوقية، منها ما يرقى إلى جرائم حرب. في الأراضي التي تحتلها اليوم، تنتهك تركيا والفصائل السورية الموالية لها حقوق المدنيين، وتقيّد حرياتهم دون عقاب، وهذا ما أكدته منظمات حقوقية دولية، كمنظمة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) في الكثير من تقاريرها، وبالتالي فإن تركيا التي تحارب مناطق شمال وشرق سوريا تحت يافطات القانون الدولي، هي نفسها التي تنتهك ذلك القانون ولا تلتزم بقواعده.
وبالعودة إلى العدوان الأخير لتركيا وعمليتها “المخلب-السيف”، التي بدأتها ليل 19-20 تشرين الثاني/نوفمبر، فقد كان هناك استهداف واضح ومباشر للبنية التحتية الحيوية للمؤسسات والمرافق الخدمية والتعليمية، والمنشآت الإنسانية، والمراكز الطبية، والمواقع النفطية في المنطقة، بالإضافة إلى أن قوات سوريا الديمقراطية، التي تعرّضت مناطقها بشكل أساسي للاستهداف لم تشن أي عدوان على تركيا، ولم يتم إطلاق رصاصة واحدة باتجاهها، على العكس تماماً، كانت –ولاتزال- هناك هجمات جوية، وعمليات برية تركية ضد مناطق سوريا الديمقراطية، مما استدعى الأخيرة أن تكون في حالة “حق الدفاع المشروع عن النفس”، وهي –أي قوات سوريا الديموقراطية- مَن تواجه تهديداً على حدودها وضد أمنها. إلى جانب أن كل مزاعم ربط تفجير “شارع التقسيم” في اسطنبول بقوات سوريا الديمقراطية لا تستند إلى أي تحقيقات صحيحة وواضحة، حيث لم يتم إجراء تحقيق مستقل ومحايد، ولم يتم الكشف عن ملابساته وصدور أي نتائج نهائية بخصوصه. بالإضافة إلى تناقضات تصريحات المسؤولين الأتراك حيال منفذ الهجوم، والرواية التركية المفبركة التي لم تستطيع حتى إقناع الأتراك أنفسهم، مما ينسف حجة الهجوم التركي، حيث أن تركيا تريد أخذ هذا التفجير، الذي يحمل بصمات الاستخبارات التركية نفسها كذريعة لشن هجمات جديدة على مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. وبالتالي باتت “العملية” – بحسب مراقبين ومنظمات ومراكز حقوقية- انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولا يتناسب بأي حال من الأحوال مع المادة 51.