قضايا راهنة

الروح الكردية تشعُّ داخل ثورة نساء إيران وشبابها

كُتِبَ على شاهد قبر "ژینا أميني" باللغة الكردية: "لن تموتي يا ژینا، فإنّ اسمكِ يتحول إلى رمز."

لم يمر مقتل الفتاة الكردية الإيرانية ژینا (مهسا) أميني، كأي حدثٍ آخرٍ مشابهٍ في مسيرة الاحتجاجات الشعبية الإيرانية ضد نظام الجمهورية الإسلامية. فعلى الرغم من وجود أسماء عشرات النساء في قائمة القتل والاعتقال التعسفي على يد آلة القمع الوحشية للنظام الإسلامي في إيران، إلا أن فقدان هذه الفتاة الشابة لحياتها بعد تعرضها للتعذيب على يد شرطة “الإرشاد”، أثار مشاعر مركبة لدى عموم الشعب الإيراني، الذي انتفض في وجه الاستبداد الديني الذي يتحكم بتفاصيل حياته اليومية، وأبسطها عدم حرية المرأة في ارتداء اللباس.

يعتبر سبب فقدان ژینا أميني لحياتها في نظر عموم الشعب الإيراني، بل وفي نظر العالم المتحضر، سبباً لا يمكن أن يتذرع به سوى القوى الظلامية والتنظيمات الإسلاموية الأكثر راديكالية، مثل داعش والقاعدة وطالبان.

الفتاة ذات الاثنين وعشرين ربيعاً؛ الفتاة الغريبة، القادمة إلى العاصمة طهران لزيارة أقارب لها، لم تلبث أن لقيت حتفها خلال وقت قصير بطريقة تراجيدية، حرّكت في أذهان الإيرانيين فكرة المظلومية وتحولاتها، التي تشغل حيزاً كبيراً من الذاكرة الجمعية الإيرانية، وباتت اليوم تتكرر بشكل يومي في حياة المواطن الإيراني، بعد أن انحرفت الفكرة عن مسار الأيديولوجية الدينية، التي يدأب النظام الإسلامي في إيران على ترويجها ليل نهار، لترسيخ نفسه في الداخل، والتوسع في الإقليم أيضاً، وتحولها إلى مظلومية شعب عريق بمختلف مكوناته، في وجه نظام ثيوقراطي قَرْوَسْطي، يسعى إلى تحريف حضارته وثقافته، من خلال تغليب الطابع الديني والمذهبي عليه.

هذه الأسباب، دفعت الإيرانيين إلى الشوارع، والخروج في تظاهرات عارمة، عمّت أرجاء المدن الإيرانية، وما تزال مستمرة، وإلى اتساع حتى اليوم، وحملت هذه التظاهرات ملامح مرحلة جديدة في تاريخ إيران المعاصر، وباتت تشكل نقطة انعطاف مفصلية في سيرورة الوعي الشعبي الإيراني، وربما الشرقي، لجهة التعامل مع أحد أبرز قضاياه تعقيداً، وهي المرأة.

الحجاب من موروث تاريخي اجتماعي إلى رمز للنظام الإسلامي

كان الحجاب سائداً بين النساء في المجتمع الإيراني قبل انتصار الثورة “الإسلامية” عام 1979، حتى أنّ الحجاب والشادور أصبحا رمزاً للنساء الثائرات ضد نظام الشاه، من مختلف التيارات والتوجهات السياسية والفكرية، لتعاطفهن مع التيار الإسلامي الذي كان متقدماً في الثورة، ويتعرض للقمع الشديد، وعدم بروز الأفكار الراديكالية لدى التيار الإسلامي حينذاك، سيما وأنّ شعارات هذا التيار كانت تنادي بالإصلاح والديمقراطية، ولم تكن فكرة ولاية الفقيه التسلطية الشمولية قد طرحت بعد من قبل الخميني، ووجود حالة من الرضى المجتمعي على توجهات المرجعيات الدينية الشيعية، التي كانت تقف إلى جانب الشعب في إيران على مرّ العصور، ضد استبداد الحكومات الملكية المتعاقبة. هذا بالإضافة إلى الاستياء الشعبي العميق من سياسات الشاه القمعية، وفرضه قانوناً يقضي بنزع الحجاب، ومنع دخول النساء المحجبات للدوائر الرسمية.

يرجع بعض الباحثين الإيرانيين ارتداء النساء الإيرانيات الحجاب الأسود إلى الأساطير الإيرانية، قبل الإسلام، وإلى الاتشاح بالسواد حزناً وحداداً على الأمير الفارسي “سياوش”، الذي قُتل ظلماً خارج البلاد بأمر من “أفراسياب” بعد اتهامه بالخيانة، وذلك بحسب ما ورد في الكتاب المقدس للزردشتية (أفستا) وفي كتاب شاهنامة الفردوسي. هذه الحكاية التي ستدخل إلى إيران فيما بعد على شكل شخصية الحسين، الذي تماهت شخصيته مع شخصية سياوش لدى الإيرانيين،[1] بعد دخول الإسلام إلى إيران، وقد حافظ الإيرانيون على طقوس الحداد التي بقيت مستمرة إلى يومنا هذا، وأصبح الحجاب الأسود، بعد تحويل الصفويين مذهب الدولة من المذهب السني إلى الشيعي، رمزاً للحزن على الأئمة الشيعة الاثني عشر، وهذا الاعتقاد ما يزال قائماً حتى اليوم لدى النظام الحالي في إيران.

بعد انتصار الثورة “الإسلامية”، صدرت تصريحات من الخميني ضد النساء غير المحجبات، الذي اتهمهن بعدم المشاركة في الثورة ضد الشاه، وأعقب ذلك صدور قرار يقضي بفرض الحجاب الإجباري على النساء، لكن في صباح اليوم التالي من صدور القرار وكان يوم 8 آذار/ مارس، الذي صادف اليوم العالمي للمرأة، خرجت آلاف النساء في مختلف المدن الإيرانية، في مظاهرات ضد فرض ارتداء الحجاب، ما دفع رجال الدين إلى التراجع عن القرار بشكل مؤقت، ليتبع النظام الإسلامي بعدها خطة تدريجية لإعادة فرض الحجاب، حيث تم فرضه في البدء على الموظفات الحكوميات، ومنع دخول النساء إلى الدوائر الحكومية دون ارتداء الحجاب، ليليها فرض الحجاب على الطالبات، ثم على كل النساء ممن تجاوزن التاسعة من العمر، سواءً من المسلمات أو من أية ديانة أخرى كانت، إلى أن أصبح قانوناً رسمياً يعاقب عليه القانون، حيث تصل عقوبة عدم ارتداء الحجاب إلى الجلد والسجن لمدة شهرين، إلا أنّ القضاء الإيراني يتحايل على هذه العقوبة، ويمكن تحويلها إلى عقوبة نشر الفاحشة العلنية، لتصل إلى السجن لمدة عشر سنوات[2]، أو إلى ممارسات تعسفية ضد النساء، وخير دليل على ذلك حادثة مقتل ژینا أميني، التي اعتقلت وفارقت الحياة بعد تعذيبها، بسبب “سوء” ارتدائها للحجاب.

لعلّ الهدف من وراء سياسة الجمهورية الإسلامية من فرض الحجاب على النساء يتمثل في تحويله إلى رمز لها، وخلق نموذج حياة إسلامي ومجتمع منافٍ للغرب ونمط حياته، واعتبار كل مخالفة لذلك مناهضة لهذا النظام، وتصنيفها ضمن خانة التآمر لصالح الغرب.

لكن على الرغم من ذلك، لا يمكن إنكار أن شريحة من المجتمع الإيراني، بقيت محافظة على حجاب المرأة، حاله في ذلك حال باقي المجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط.

مع مرور الوقت، وازدياد الفجوة بين الدولة والشعب، وتزايد القمع ومصادرة الحريات، وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية للبلاد، وعدم إيلاء النظام أدنى اهتمام لمطالب الشعب في حياة كريمة، وتأمين أبسط متطلبات حياته اليومية، وتحويله إلى رهينة لأيديولوجيته الدينية والسياسية وتصدير الثورة الإسلامية، وحالة الجهل والخرافات التي يتم نشرها في المجتمع على يد رجال الدين، والقهر الذي يمارس ضد النساء، والأهم من ذلك نشوء جيل جديد منفتح على العالم، وغير راضخ لسطوة النظام الديني، ومدرك لحجم المآسي التي تسبب بها هذا النظام لهم ولشعوب المنطقة؛ كل هذه الأسباب مجتمعةً، دفعت النساء الإيرانيات إلى الثورة على هذا النظام الديني الذكوري الذي يعتبر المرأة نقطة ضعفه، ويمارس أشد أنواع الضغط والقمع ضدها. حيث شهدت إيران خلال الأعوام السابقة عدة احتجاجات نسائية ضد الحجاب، وكانت أبرزها سلسلة الاحتجاجات التي أشعلتها الفتاة الإيرانية “فيدا موحد”، التي وقفت في شارع الثورة، واعتلت صندوقاً، لتعلّق حجابها بعصا وتلوح به للمارة، حيث تم اعتقالها في اليوم التالي، وأطلق على تلك الاحتجاجات “فتيات شارع الثورة”. في الآونة الأخيرة أيضاً ظهرت مقاطع مصورة لفتيات إيرانيات في بعض المدن الإيرانية ومنها شيراز، يتحدين النظام ويتجولن في إحدى الساحات العامة للمدينة وهنّ، حاسرات الرأس، وتواردت الأنباء بعدها عن اعتقال جميع الفتيات ممن شاركن في هذا التجمع.

سمة المظاهرات الإيرانية الحالية واختلافها عن سابقاتها

لعلّ ما يميّز هذه المظاهرات التي تعم أرجاء إيران اليوم، احتجاجاً على الوحشية التي تعرضت لها ژینا أميني، هو الاختلاف في شكل شرارتها. ففي المظاهرات السابقة كانت الشرارة إما تتعلق بأسباب سياسية، كما حدث في احتجاجات الحركة الخضراء التي اندلعت عام 2009 وقادها الإصلاحيون، بعد عمليات التزوير التي شهدتها الانتخاب الرئاسية آنئذٍ، وانتهت بتنصيب الرئيس المتشدد الأصولي أحمدي نجاد، أو لأسباب اقتصادية مثل ما حدث في “انتفاضة البنزين” عام 2019، التي قامت نتيجة رفع الحكومة الإيرانية أسعار المحروقات بشكل فجائي بنسبة تصل إلى 300%، أو تتعلق بأسباب معيشية وخدمية وبالظروف الحياتية الصعبة، مثل احتجاجات النقابات العمالية والمعلمين المتقاعدين، والاحتجاجات التي اندلعت في الأهواز عقب انهيار مبنى “متروبول” التجاري، وفقدان العشرات من الأشخاص لحياتهم، واتهام البلدية بالتسبب في انهيار المبنى، وتحميل الحكومة مسؤولية الحادث.

أما الاحتجاجات الحالية، فيختلف سببها المباشر عن المظاهرات السابقة في الماضي، فمقتل الفتاة الإيرانية الكردية، كان بمثابة صدمة لم يسبق للشعب الإيراني أن شعر بها، ربّما يقاربها إلى حدّ ما، صدمة ضحايا الطائرة الأوكرانية التي أسقطت بصواريخ الحرس الثوري، عقب مقتل قاسم سليماني، أو صدمة مقتل الفتاة الإيرانية “ندا آغا سلطان”، التي قتلت برصاص قنّاص خلال احتجاجات الحركة الخضراء. لكن سياق الأحداث يختلف هنا، حيث أنّ الحالتين السابقتين حدثتا ضمن سياق أحداث ساخنة في حينها، أما هذه الفتاة التي تحولت إلى رمز لأحد أبرز الثورات النسوية في العالم، كانت في سياق طبيعي، وتعرّضت إلى عنفٍ لا يمكن تبريره تحت أي مسمّى كان.

لقد أثار هذا الحادث مشاعر مركّبة لدى الشعب الإيراني، والنساء منهم على وجه الخصوص، فالمصير المأساوي الذي لاقته الفتاة الغريبة القادمة إلى العاصمة، لامست المخيلة الإيرانية الضاربة جذورها في التاريخ، وحرّكت مشاعر المظلومية التي تتشبع بها ذاكرتهم الجمعية؛ بدءاً من سياوش، مروراً بالحسين، اللذين قتل كلاهما في حالةٍ من الظلم وفي أرضٍ غريبة، وصولاً إلى جميع الضحايا الذين سقطوا على يد النظام الإيراني خلال ما يزيد عن أربعة عقود.
الأمر الآخر الذي زاد من حماسة الشباب الإيراني، ودفعهم للانخراط بكلّ حماس في هذه المظاهرات، هو الموقف البطولي الذي اتخذته عائلة ژینا أميني، ورفض والدها الانصياع لأوامر السلطات، بضرورة دفن ابنته ليلاً، وذلك لمنع تحوّل الجنازة إلى مظاهرات، قد تمتد إلى مناطق أخرى في إيران- وهذا ما حدث بالفعل- إضافةً إلى رفضه جميع الضغوطات التي ما تزال تمارسها هذه السلطات عليه للإدلاء بشهادة كاذبة حول معاناة سابقة لابنته من أذية دماغية.

 ثمة اختلافات أخرى تشكل سمة هذه المظاهرات يمكن تلخيصها كالآتي:

1- تجازوها أطر وأشكال المظاهرات السابقة، ورسمها ملامح هوية وطنية مستقبلية معاصرة للشعب الإيراني بمختلف مكوناته، ويتجلى ذلك في الشعارات التي تهتف في المظاهرات والتي تركز على التكاتف بين مختلف القوميات الإيرانية.

2- بروز شخصية المرأة الإيرانية ودورها بشكل أوضح من المظاهرات السابقة، وإزالة الصورة النمطية المعروفة عن المرأة الإيرانية المحجبة والمستسلمة لواقعها، وإظهار مدى عصرية الجيل الجديد من النساء والشباب في إيران، ومدى حيويتهم وتعطشهم للحرية والتغيير.

3-تسليط الضوء على الكرد في إيران، الذين عانوا من قمعٍ مزدوج خلال النظام البهلوي والنظام الحالي على حدّ سواء، والنظر إليهم كمحرّك رئيسي لهذه المظاهرات، وتحول فتاة من المناطق الكردية النائية عن المركز، إلى أيقونة لهذه التظاهرات، التي قد تتحول إلى ثورة عارمة يدوّنها التاريخ.

4- تجاوز المعارضة الإيرانية بكل أشكالها، وإبراز حالة من الوعي الجماهيري المتقدم، وأبرز مثال ذلك هو انضمام المناطق الأذرية والعربية والفارسية ومختلف المكونات الأخرى، بعد استشعارهم محاولة ركوب موجة المظاهرات من قبل الإصلاحيين الذين يحاولون احتواءها لصالحهم، ومحاولات النظام الترويج لسعي المناطق الكردية للانفصال من وراء هذه المظاهرات.

5- تجاوز الهوية الجندرية، والهيمنة الذكورية التي تسود العالم منذ أكثر من 5 آلاف عام، ولعلّ ذلك يتجلّى في انطلاق المظاهرات تحت راية القضية المحورية لها وهي “المرأة”، أضف إلى ذلك الصورة التضامنية الفريدة التي قدمها الشباب الإيراني، حينما بادروا إلى قصّ شعرهم أسوةً بالشابات الإيرانيات اللاتي جززن شعرهنّ حزناً على مقتل الفتاة اليافعة، في طقسٍ جنائزي ضارب في الأساطير الإيرانية، وأساطير ما بين النهرين، وهذه المشهدية ذات الدلالات العميقة، لم نجد مثيلاً لها في ثورات الربيع العربي، وربما في أي حركة احتجاجية أخرى في العالم.

6- ترديد شعارات جديدة ومختلفة تعبّر عن مرحلة جديدة، استطاع الشعب الإيراني بلورتها من خلال سلسلة التظاهرات السابقة، ورسم ملامح المرحلة المقبلة، التي يسعى الجيل الإيراني الشاب لبلوغها. ومن أبرز هذه الشعارات:

أ- المرأة، الحياة، الحریة: وهو شعار تم ترديده في مناطق كردستان إيران – أول الأمر- باللغة الكردية، وسرعان ما ترجمه المتظاهرون إلى الفارسية في المدن الإيرانية الأخرى وفي العاصمة طهران، ليصبح شعاراً للثورة النسوية الإيرانية، ويعود هذا الشعار إلى المقاتلات الكرديات في روجآفا، وقد برز خلال محاربتهن لتنظيم “داعش”، الذي يعتبر أحد أعتى التنظيمات الإرهابية في العالم، وأشدهم معاداةً للمرأة، وهو مستوحىً من الفلسفة النسوية للمفكر والزعيم الكردي عبد الله أوجلان، الذي يُعتبر ملهماً لهنّ. وتجاوز الشعار حدود إيران، ليتم ترديده في أنحاء مختلفة مع العالم، كما تصدّر عناوين أخبار أهم الصحف العالمية، ومنها جريدة “ليبراسيون” الفرنسية، التي كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أحد مؤسسيها.

ب-ستموت يا مجتبى ولن تصبح مرشداً: وهو شعار يعبّر عن حسم الشعب الإيراني أمره، ورفضه لنظام ولاية الفقيه، والتخطيط الذي يتم لتنصيب مجتبى خامنئي مرشداً للبلاد، بعد رحيل والده علي خامنئي.

ج- كردستان هي نور عين إيران، و”داميةٌ كل إيران؛ من كردستان إلى طهران“: ويعبّر عن توجه لتجاوز أية عقبات إثنية أو جغرافية، أمام تعزيز حسّ الانتماء إلى الوطن الأم إيران، ورفع حالة الغبن والظلم التي تشعر بها المناطق الكردية، والتي تجددت مع مقتل الفتاة الكردية، سيما وأنّ هذه المناطق عانت الأمرّين من قمع واستبداد أنظمة الحكم المتعاقبة على إيران.

د- حذارِ من ذلك اليوم الذي سنمتلك فيه السلاح: وهذا الشعار يعكس تحولاً كبيراً في إصرار المتظاهرين على قلب النظام، حتى لو استدعى الأمر تحوّل الحراك نحو العسكرة، وهذا التوجه لم يكن يلقَ رواجاً في التظاهرات الشعبية السابقة.

7- خروج بعض المناطق والأحياء جزئياً عن سيطرة القوى الأمنية، واللافت أكثر، بحسب التقارير الواردة من الداخل الإيراني، هو سيطرة المتظاهرين الكرد شبه الكاملة على مدينة شنو/ أشنويه، في محافظة كردستان، وهو حدث يشير إلى مدى شدة الحراك الشعبي في المناطق الكردية. ولعل الأمر في مناطق أخرى من إيران قد يتوجه إلى الحال ذاتها، وهذا ما ينعكس في تصريح “عزيز الله ملكي” قائد الشرطة بمحافظة گیلان شمال البلاد لموقع “أخبار گیلان” حیث قال: “منذ بضعة ليالٍ، ونحن قاب قوسين أو أدنى من السقوط”.[3] وسرعان ما تم حذف التصريح من الموقع.

8- اتساع رقعة المظاهرات الرافضة لنظام الجمهورية الإسلامية لتشمل جميع المحافظات الإيرانية البالغ عددها /31/ محافظة، بحسب ناشطين ومحللين سياسين إيرانيين، وبذلك تتجاوز هذه التظاهرات احتجاجات تشرين الأول 2019 الدامية التي اندلعت في 28 محافظة حينها، وأسفرت عن 1500 قتيل.

ردود الفعل الدولية

تتالت ردود الفعل الدولية على مقتل ژینا أميني، وعلى القمع الذي تمارسه السلطات الإيرانية ضد النساء، وكان من أبرزها تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن في الأمم المتحدة، الذي أعلن عن وقوف بلاده إلى جانب النساء الإيرانيات والدفاع عن حقهنّ في التظاهر، كما دعت منظمة العفو الدولية إلى ضرورة أن يخضع حادث مقتل الفتاة لتحقيق جنائي، وأن يتم تقديم المسؤولين والمتورطين إلى العدالة، كما أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي أنهم سيستمرون في الضغط على إيران لوقف انتهاكات حقوق الإنسان.

بعيداً عن التصريحات الكلامية لقادة الدول والمنظمات الحقوقية، طرأ تحول ملحوظ على الصعيد العملي، في التعاطي مع الحركة الاحتجاجية واسعة النطاق في إيران، وذلك فيما يتعلق بالحرب الإلكترونية والوصول إلى الإنترنت، الذي يعتبر سلاح الشعب المنتفض من جهة، للاطلاع على واقع الأحداث والمجريات على الجغرافية الإيرانية، وللتنسيق فيما بينهم، سواءٌ في داخل المدينة الواحدة أو بين المدن كافة، وأيضاً لنقل ممارسات النظام القمعية إلى الخارج، الأمر الذي يساهم في تعرية هذه الممارسات، وربما حدوث تحولات في باقي دول العالم من خلال تشكل ضغط للرأي العام داخلها على حكوماتها، ومن جهة أخرى يعتبر الإنترنت سلاحاً للدولة، فقد عرف عن النظام الإيراني قطعه للإنترنت كلما اشتدت حدة المظاهرات المناهضة له، لضرب التنسيق بين المتظاهرين، وتسهيل السيطرة عليهم، ومنع انتقال ما يجري على الأرض إلى الخارج.

فقد أعلنت وزارة الخزينة الأمريكية، الجمعة، إصدار الرخصة العامة الإيرانية D-2 لزيادة الدعم لحرية الإنترنت في إيران، وقالت أنها ستسمح لشركات التكنلوجيا بوضع المزيد من المنصات والخدمات الخارجية الآمنة في متناول يد الشعب الإيراني، ومساعدتهم في الاستعانة ببرامج مكافحة التتبع وأنظمة تشغيل الأجهزة المحمولة، وأدوات مكافحة الرقابة، واستخدام الشبكة الافتراضية الخاصة (VPN).[4]

جاء هذا القرار، بعد مطالبة “إيلون ماسك” – الرئيس التنفيذي لشركة “سبيس إكس” – وزارة الخزانة الأمريكية إعفاءً من العقوبات على إيران، لإتاحة خدمة “ستارلينك” بهدف تزويد إيران بشبكة إنترنت عبر الأقمار الصناعية. إنّ الاستجابة السريعة في قبول هذا الطلب، ورفع جزء من العقوبات على إيران، يتطلب من وزارة الخزانة الأمريكية دراسة عميقة متأنية، وتستغرق الوقت والكثير من الإجراءات الإدارية في الأحوال العادية، لكن هذه السرعة في إصدار القرار يعكس تحولاً نوعياً حول مدى حماسة الولايات المتحدة لهذا الحراك. وهذا يذكرنا بالخدمة ذاتها التي أوصلت إلى أوكرانيا، في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، بعد مخاوف من انقطاع الإنترنت عن البلاد، في ظل الاجتياح الروسي لها.

تضامنٌ آخر له تأثير كبير على مسيرة الحراك الشعبي في إيران، ظهر بعدما أعلنت أكبر مجموعة قرصنة دولية، ذات توجهات أناركية، تطلق على نفسها اسم “أنونيموس” أي (مجهول)، عن دعمها للحراك الشعبي في إيران، وهددت النظام الإيراني بأنها ستقطع الإنترنت عنه، إذا بادر بقطعه عن الشعب، وتمكنت هذه المجموعة خلال الأيام الماضية من اختراق الكثير من المواقع والمؤسسات الحكومية الحساسة، مثل اختراق موقع مجلس الشورى الإسلامي(البرلمان) والوصول إلى بياناته، وتعطيل موقع البنك المركزي، واختراق التلفزيون الرسمي، واختراق موقع رئاسة الجمهورية الإيرانية، وإغلاق موقع المرشد علي خامنئي، كما اخترقت مركز أبحاث الطب الشرعي الإيراني وحصلت على قاعدة بياناته، إضافةً إلى اختراق وتعطيل المئات من كاميرات المراقبة في الشوارع الإيرانية، والتي نصبت لمراقبة الاحتجاجات والتعرف على المتظاهرين.[5]

وقالت هذه المجموعة في بيانٍ أخيرٍ لها موجه إلى قادة النظام الإيراني: “لن تتمكنوا من الاستفادة من الأموال الملطخة بالدم”، وذلك بعد اختراقها موقعي وزارة النفط والاقتصاد الإيرانيين.

سيناريوهات الأيام القادمة في إيران

إنّ النظام الإيراني هو نظام منغلق على نفسه بدرجة تفوق كل الأنظمة الاستبدادية الأخرى في المنطقة، وبالتالي فإنّ مثل هذه الأنظمة لا تقبل أية عملية إصلاحية في بنيتها، كما أنها لا ترضخ للمطالب الشعبية، وقد أثبتت جميع المظاهرات السابقة في إيران ذلك، والتي انتهت بقمعٍ شديد، وإيقافها من الناحية الشكلية، لكنها بقيت متوقدة من تحت الرماد، في انتظار اندلاعٍ جديدٍ كلما سنحت فرصة مواتية.

وبما أنّ للنظام خبرة طويلة واستعداد كبير لقمع أي حركة مناهضة لنظام الجمهورية الإسلامية، فإنّ من المتوقع استخدام العنف، والسعي لإخماد الحراك الشعبي، ولكن في ظل المؤشرات الحالية، فإنّ ذلك يتطلب من النظام درجة أشد من القمع، قد تنتهي إلى مصير يصعب التكهن به، لأنّ ذلك سيكون مرتبطاً بمسار الأحداث وتطورها، سيّما إذا اتجهت نحو التسلح.

وبحسب المعلومات التي يتداولها بعض الناشطون السياسيون على الأرض، فإنّ النظام الإيراني سيلجأ إلى جماعاته بالوكالة لقمع الاحتجاجات الواسعة، وبعضها مشارك بالفعل في قمعها مثل لواء “فاطميون” المؤلف من عناصر أفغانيين، وسط أنباء أيضاً عن نقل فصائل من الحشد الشعبي العراقي بالطائرات إلى العاصمة طهران.

لذلك، ربما نكون أمام عدة احتمالات لمستقبل الأيام القادمة التي ستشهدها إيران، وهي:

  • لجوء النظام الإيراني إلى القمع الشديد، في سعيه إلى إخماد المظاهرات بأسرع وقت، على غرار ما فعل عام 2019 حيث تمكن من إخماد الاحتجاجات خلال ثلاثة أيام، تفادياً لانفلات الأمور وخروجها عن سيطرته، ولا سيما مع بدء الدوام في المدارس والجامعات، وعدم السماح بامتداد تعطيل الدوام إلى مؤسسات أخرى، والتوجه نحو حالة من الإضراب فيها، إذا طال أمد هذه المظاهرات. وبالتالي فإنّ أحد السيناريوهات الرئيسية سيكون التمكن من إخماد الحراك الثوري، لكن فاتورة الدم ستكون مرتفعة جداً هذه المرة، وسيتسع الشرخ أكثر بين النظام والشعب، الذي حسم أمره في تغيير الحكم القائم، وبالتالي فإنّ الاندلاع التالي لأي حراك آخر سيكون بدرجة أشدّ وأعمق، وذلك يمكن استنتاجه من خلال التمعّن في مسار الحركات الاحتجاجية المتتالية وتحولاتها خلال الأعوام الفائتة، ما يزيد من احتمالية انهيار النظام في المستقبل.
  • تركيز النظام على العاصمة طهران، وقد يكون القمع فيها بدرجة أكبر من باقي المناطق، ما سيتيح للأطراف تنظيم نفسها أكثر، ولا سيما في المناطق الكردية، التي تعتبر بؤرة الثورة الحالية، ولديها تاريخ طويل في النضال، إضافةً إلى امتلاكهم قدراتٍ تنظيمية وسياسية أكبر من باقي المكونات الأخرى في إيران، ومن إحدى المؤشرات على ذلك الخروج النسبي لمدينة شنو/ أشنويه عن سيطرة النظام، قبل باقي المدن الإيرانية الأخرى.
  • استمرار التظاهرات وزيادة حدتها، وانضمام فئات أكبر من الشعب إليها، إلى جانب حدوث حالة عامة من العصيان المدني والإضرابات العامة في مؤسسات الدولة، والجامعات، والشركات النفطية والنقابات العمالية، التي طالما كانت تعلن، خلال السنوات القليلة الماضية، عن الإضرابات بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، وتدني الأجور، وعدم تسديدها في مواعيدها، ليأخذ الحراك تدريجياً شكل ثورة عام 1979 التي أطاحت بالشاه. ومما لا شكّ فيه سيكون ذلك بالتوازي مع حالة من العنف الشديد، قد تتحول فيها الثورة باتجاه العسكرة، ونشهد فيها انشقاقات بين صفوف الجيش النظامي الذي يعوّل قسم كبير من الشعب عليه، ويطالبونه بالانضمام إلى صفوفهم.
  • إذا سارت الأحداث وفق السيناريو الثالث، ولقي الشعب والثوار دعماً حقيقياً من المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية- وهذه الفرضية ليست مستحيلة-، سيما إذا أعلنت موت الاتفاق النووي مع إيران، ووصلت إلى قناعة تامة في عدم إمكانية تغيير سلوك النظام الإيراني، وسحبه من المحور الروسي والصيني نحو المحور الغربي، حينها سيكون من المرجّح أن تميل الكفة لصالح الثوار، ولا نغفل هنا عن الدور الذي قد تلعبه إسرائيل في هذه المعمعة، وهي التي دأبت على استغلال أي ثغرة وخلخلة في بنية النظام، وإذا عدنا إلى الأيام والأشهر الفائتة، وأخبار انتشار الموساد في جهاز استخبارات الحرس الثوري في وقتٍ كان النظام في أوج قوته، سيكون بالإمكان توقع التحرك على نطاق أوسع وبأريحية أكثر للمساهمة في الإطاحة بالنظام في ظل خروج زمام البلاد عن سيطرته، وبالتالي قد نشهد نهاية أحد أعتى الأنظمة الديكتاتورية وأكثرها تطرفاً في المنطقة والعالم، ونكون أمام عصر جديد في إيران، وهذا من شأنه أن يساهم أيضاً في حلحلة عقد أزمات الكثير من دول المنطقة التي كان النظام الإيراني السبب المباشر وراءها، بعد أن تشهد هي الأخرى ثورات مشابهة ضد جماعات إيران بالوكالة التي تتحكم بقرار هذه الدول.

……………………………………..

المراجع:

[1] متن شناسي اىب فارسي- جایگاه سیاوش در اساطیر- نسرین شکیبی ممتاز
https://cutt.us/0COh2

[2] https://cutt.us/R33o3
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية- الحجاب في إيران بين ثنائية الأيديولوجية والسياسة- محمد السيد الصياد – ربى البلوى- نشر بتاريخ 22 تشرين1- 2020- استرجع بتاريخ 22 أيلول 2022

[3] فرمانده انتظامی گیلان: چند شب است در یک قدمی سقوط هستیم- العربيه فارسى- نشر واسترجع بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر

https://cutt.us/ft77T

[4] قرار أمريكي لدعم حرية الإنترنت في إيران- CNN العربية- نشر بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2022- استرجع بتاريخ 24 أيلول سبتمبر 2022

https://cutt.us/sFvFr

[5] مجموعة هاكرز “إنونيموس” تعلن استهدافها 300 كاميرا مراقبة للنظام الإيراني- إيران انترناشينال- نشر بتاريخ22 أيلول/سبتمبر2022- استرجع بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر 2022

https://cutt.us/EsAzt

زر الذهاب إلى الأعلى