قضايا راهنة

من خلع العمامة إلى فتح الكنائس.. أهداف “براغماتيّة الجولاني”

يواصل “أبو محمد الجولاني” زعيم “هيئة تحرير الشام”، إجراء التغييرات على شكل وهيكلية وسلوكيات تنظيمه المصنف إرهابياً، محاولاً خلع ثوب “التنظيم المتطرف الجهادي، والعابر للحدود” عنه، وتقديمه كجماعة “سورية محلية معتدلة” على أمل إزالة اسمها من “لوائح الإرهاب”.

من الإجراءات التي طالت – مؤخراً- هيكلية وسلوكيات التنظيم، تخريج 400 عسكرياً برتبة ضابط من “الكلية العسكرية”، التي افتتحتها “حكومة الإنقاذ”، الجناح الإداري والسياسي للهيئة، حيث جرى التخريج بحضور “الجولاني”، الذي سبق وأن غيّر من شكله عبر خلع العمامة الدينية وارتداء البدلات الرسمية واللباس العسكري للجيوش النظامية، لتكشف تخريج هذه الدورة من الكلية العسكرية، عن مساعي الجولاني لإنهاء المسميات الفصائلية في إدلب، وذلك، عبر دمج العسكريين في قوى موحدة على غرار الجيوش النظامية.

أما التغيير الآخر والملفت، فقد كان سماح “هيئة تحرير الشام” للمسيحيين، الذين لا زالوا متواجدين في مناطق سيطرتها، بإعادة فتح كنيسة “آنا” في بلدة اليعقوبية، في إدلب، وإقامة الصلاة فيها لأول مرة منذ 10 أعوام، دون السماح بقرع الأجراس، وجاء ذلك بعد فترة من زيارة الجولاني لوجهاء من الطائفة المسيحية بريف إدلب، لتعكس مرة أخرى مدى البراغماتية التي يتصف بها الجولاني، والسياسة المرنة التي يتبعها في التعاطي مع الظرف السياسي القائم وتوظيفه لصالحه؛ لفرض نفسه كجزء من التفاهمات السياسية والعسكرية المستقبلية في سوريا. ويبدو أن هذه التغييرات التي تطال – هذه المرة – ثوابت التنظيم الخارج من رحم “القاعدة”، ما هي إلا محاولة جديدة لإقناع المجتمع الدولي برفع الصفة “الجهادية والإرهابية” عن تنظيمه، وتقديم نفسه للغرب كشخصية معتدلة.

يبقى السؤال الأهم، على ماذا تراهن “الهيئة” و”الجولاني” في المدى البعيد من خلال إجراء كل هذه التغيّرات التي تطال حتى ثوابت وإيديولوجيات التنظيم؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل إدلب و”هيئة تحرير الشام”؟

تغييرات جذرية على الهيكلية والسلوكيات

ظهرت “هيئة تحرير الشام” في بدايات الأزمة السورية، تحت مسمى “جبهة النصرة أو جبهة نصرة أهل الشام” كفرع من تنظيم “القاعدة”، المعروف بأنه أبرز التنظيمات الجهادية على الساحة العالمية، إلا أن الجولاني أعلن لاحقاً انفصالها عن القاعدة وباقي التنظيمات الجهادية العابرة للحدود، وكانت البداية عبر تغيير الاسم عدة مرات ضمن محاولات تقديم تنظيمه كجماعة سورية محلية،  وتبعها سلسلة من التغييرات التي لم تقنع – حتى الآن- القوى العالمية بأن الهيئة باتت حقاً جماعة محلية معتدلة. ومن أبرز تلك التغييرات الأخيرة والملفتة:

أولاً: إعادة الهيكلة على أساس الجيوش النظامية

خرّجت “تحرير الشام” تحت غطاء “حكومة الإنقاذ” بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول الجاري 400 عسكرياً كأول دفعة من “الكلية العسكرية” برتبة ضابط، بحضور “الجولاني” نفسه، لإضفاء الأهمية لمثل هذه الخطوة من جهة، وليظهر نفسه مرة أخرى أمام المجتمع الدولي بأنه تخلى فعلياً عن “العمامة الدينية للتنظيمات الإسلامية الجهادية واستبدلها بالقبعة العسكرية للجيوش النظامية” من جهة أخرى، ويبدو أن هناك عدة أسباب وأهداف من إجراء هذا التغيير على شكل وهيكلية القوات العسكرية، منها:

1- التحوّل من حالة “الجماعات الجهادية” إلى شكل الجيش النظامي

 وهذا ما سيميز الهيئة عن باقي التنظيمات الجهادية من الناحية الشكلية والعقائدية، إذ يعتبر ارتداء الزي الإسلامي من الثوابت العقائدية لدى التنظيمات والجماعات الإسلامية المتبنية للفكر الجهادي الداعي لتأسيس الدول والإمارات الإسلامية، إذ لا يمكن لتنظيم أو جماعة إسلامية جهادية، أن تدعوا لإقامة دولة على المنهج والشريعة الإسلامية، أن تعتمد في هيكلية جيشها على زي وهيكلية جيوش الدول العلمانية أو الغربية، لأن شكل الزي الإسلامي وهيكلية الجيوش الإسلامية تحمل بعداً دينياً وعاطفياً لتلك الجماعات، وبالتالي فهي من ثوابت عقيدتهم، والخروج عنها يُعتبر إخلالاً بأحد عقائد ونهج الإسلام، ومن هنا نفهم أن كسر هيئة تحرير الشام لهذه الثوابت العقائدية، ما هو إلا من أجل التظاهر بأنها تحاول الانسلاخ عن جذورها الجهادية والراديكالية.

2- التوجه نحو إنهاء المسميات الفصائلية

 تسعى “الهيئة” هذه المرة – وعبر “حكومة الإنقاذ” – إلى إجراء تغيير جذري في هيكليتها العسكرية، من خلال افتتاح “الكلية العسكرية”، وتوحيد الفصائل ضمن هيكلية عسكرية موحدة، والدليل أن هذه الدورة خرّجت أفراداً وقيادات ينتمون إلى كل من “أحرار الشام، وجيش النصر، وجيش العزة وغيرهم”؛ أي أن مهمة الكلية العسكرية ستكون دمج العسكريين في قوى موحدة على غرار الجيوش النظامية، وتتبع لقيادة الهيئة وحكومة الإنقاذ مباشرة، ويأتي الحاجة لدمج الفصائل في هيكلية الجيوش النظامية، للتخلص من الولاءات الفصائلية من جهة، ومنع تكرار تجارب فصائل “الجيش الوطني السوري” الفاشلة في توحيد فصائلها، وكذلك منع الاقتتال الداخلي؛ بسبب ولاء كل فصيل لقيادة مختلفة لا يتقبلون بعضهم البعض، ومن جهة أخرى لم يعد كافة المنضمين إلى “الهيئة” هم من الذين يحملون –بالضرورة- فكر التنظيم أو من المتطرفين والعقائديين، بل باتت خليطاً من عدة توجهات وأجناس مختلفة، بعد انضمام عدد من التنظيمات والفصائل والأفراد إليها لأسباب مختلفة، لذا فإن ضبطهم تحت قيادة موحدة يتطلب شكلاً جديداً من التنظيم والهيكلية، ويبدو أن الجولاني مقتنع بأن التحول إلى شكل “الجيوش النظامية” وتحديد الرتب العسكرية سيساعد في فرض الانتماء إلى المؤسسة العسكرية، بدلاً من الانتماء والولاء للفصائل والجماعات والقيادات المختلفة. فهذا التسلسل الهرمي والعمودي للهيكلية العسكرية ورتبها ستمكن “هيئة تحرير الشام” من تنفيذ التغييرات على هيكلها العسكري، وإجراء التعديل – كل فترة – بحسب الضرورة، وحل التشكيلات والفصائل الصغيرة أو توزيع أفرادها ضمن تشكيل عسكري جديد، دون اعتبار لرغبات القادة الميدانيين، ومجموعاتهم.

3- التمهيد لتحويل سيطرتها من العسكرية إلى المدنية والسياسية

يبدو أن “الهيئة” تطمح لتحويل سيطرتها العسكرية على المناطق التي تديرها إلى سيطرة مدنية وسياسية، فبعد أن تنتهي من إعادة هيكلية جيشها وتوحيدها في إطار “مؤسسة عسكرية نظامية”، ستتجه إلى مرحلة ثانية انتقالية تديرها وتهيئ لها “حكومة الإنقاذ”، عبر اعتماد برامج يتعلق بإعادة التشكيل الإداري والسياسي والعسكري والمدني، وفق صيغ قد تبدو أكثر تشاركية في الشكل، ولكنها في المضمون أكثر شمولية وتسلطاً، وذلك عبر تشكيل الهيئات أو الوزارات مثل أنظمة الدول، وحينها سيختفي اسم “هيئة تحرير الشام” التي ستعيد إنتاج نفسها تحت اسم “وزارة الدفاع” في “حكومة الإنقاذ”، لأن بوادر التمهيد لهذه المرحلة ظهرت حين افتتحت “حكومة الإنقاذ” العام الماضي “شُعب التجنيد” الطوعية، والتي ستصبح إجبارية بعد هيكلة نفسها على شكل حكومة مدنية وسياسية، تُفصل فيها الجيش النظامي عن الشرطة المدنية. ومن غير المستبعد أن تحول “هيئة تحرير الشام” نفسها فيما بعد إلى حزب سياسي أو أن تخلق جناحاً سياسياً لها على غرار “حزب الله” اللبناني، وحركة “حماس” الفلسطينية، على اعتبار أن الدول الغربية تتعاطى مع الأجنحة السياسية لمنظمات كهذه، لأنها في النهاية ممثلة لشريحة محلية ولها دعم محلي، وهذا يعني في المقابل أن هذه الحركات يجب أن تغيّر من بنيتها “الإرهابية” ولغتها وخطابها المعادي للغرب، وهذا ما يعمل عليه الجولاني حالياً.

4- التمهيد لابتلاع فصائل “الجيش الوطني” ومناطق سيطرتها

إن هذه التغييرات في الهيكلية العسكرية تعتبر مؤشراً على أن “تحرير الشام” مقبلة على تحول جديد، من خلال الاندماج بالفصائل الأخرى ضمن “المجلس العسكري” التي كانت قد طرحته تركيا سابقاً على الهيئة؛ لحل نفسها ضمن هذا المجلس، وللتخلص من صفة الإرهاب، لكن الجولاني لم يوافق حينها، لخشيته من الانحلال في بوتقة تلك الفصائل، وفقدان السيطرة على قياداته وعناصره، وهيمنة تركيا على “الهيئة” على غرار ما فعلت مع باقي الفصائل، ولكن بعد التغييرات الجديدة في السياسة التركية وإعلانها مؤخراً عن نوايا التصالح مع النظام السوري، وما أحدثته هذه التغييرات من إرباك وإثارة مخاوف تلك الفصائل، فمن المحتمل أن تقوم الهيئة – وبالتوافق مع تركيا – على ابتلاع تلك الفصائل عبر دمجهم ضمن الهيكلية العسكرية الجديدة التي تشكلها، وأن تكون الهيئة هي المهيمنة على هذا “المجلس العسكري”، عبر تعيين الضباط الذين يتم تخريجهم من الكلية العسكرية، كقادة لتلك الفصائل، بعد تفكيكهم وتوزيعهم ضمن الهيكلية الجديدة للجيش الذي ينوي تأسيسه، لذا يمكن فهم فتح “الهيئة” الكلية العسكرية وتخريج الضباط منها وإنشاء “شعب التجنيد”، بأنها محاولة لفتح الباب أمام أكبر عدد من المنتسبين إليها، وليكون “للهيئة” العدد الأكبر من العناصر في الجسم العسكري المراد الإعلان عنه مستقبلاً، بالإضافة إلى رغبتها في امتلاك أوراق قوة، قبل الاندماج المرتقب، سواء على صعيد العمل الأمني أو العسكري أو الحوكمة. فدائماً العناصر الذين يريديون الانخراط في العمل العسكري يوجهون أنظارهم للفصيل الأقدر مالياً وعسكرياً؛ لذا تحاول “تحرير الشام” إظهار نفسها عبر هذه الهيكلية الجديدة بأنها “مؤسسة ودولة وتقوم بأعمال الحكومة، وإنها منظمة وليست عشوائية” وبالتالي مجرد ابتلاعها لتلك الفصائل التي باتت تخشى تخلّي تركيا عنها، فإن كافة المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري ستكون تابعة إدارياً للهيئة و”حكومة الإنقاذ”؛ التي قد تحاول هي الأخرى ضم “الحكومة المؤقتة” إليها، ليكتمل بذلك المخطط التركي في توحيد المناطق التي تحتلها مع منطقة إدلب وتأسيس نواة ما يشبه “الإمارة الإسلامية السنية” على طول حدودها.

التطور الخطير، هو ما يشير بأن هناك مخططاً جديداً ترسمه تركيا مع هيئة تحرير الشام بشأن مستقبل المناطق المحتلة، وبأن من بين أهداف إعلان تركيا التصالح مع النظام، هو التخلص من حالة التشتت والانفلات لدى تلك الفصائل، التي باتت تشكل عبئاً على تركيا، وإجبارها على الاندماج في جسم عسكري موحد تهيمن عليه “تحرير الشام”، التي أثبتت أنها أكثر قوة وتماسكاً وانضباطاً. رغم أنّ الاستخبارات التركية لعبت في السابق على وتر الخلافات العقائدية والسياسية والعسكرية بين مختلف التيارات الإسلامية وفصائلها المسلحة؛ من أجل تعزيز نفوذها وزيادة سيطرتها على أراضي سوريا، لكنها وصلت ـ على ما يبدو ـ إلى نقطة رأت فيها أنه لا بد من العمل على تغيير هذه الاستراتيجية، لأنها لم تعد قادرة على تلبية متطلبات المرحلة الراهنة، وأن ثمة عوامل دولية وإقليمية جديدة بدأت ترسم ملامح رؤية جديدة للتعامل مع هذا الملف الشائك.

ثانياً: إعادة فتح أبواب الكنائس 

من بين التغييرات الجديدة التي أجرتها “هيئة تحرير الشام” على ثوابتها كتنظيم إسلامي جهادي، التقرب من المسيحيين والسماح لهم بفتح أبواب الكنائس وإقامة الصلوات فيها، حيث سمحت “الهيئة”، وبعد 10 أعوام لعدد من العائلات المسيحية المتبقية ضمن القرى المسيحية بريف إدلب الغربي، بإعادة فتح كنيسة “آنا” في بلدة اليعقوبية، وإقامة الصلاة فيها لأول مرة دون السماح بقرع الأجراس -ويبدو أن استثناء قرع الأجراس هي لتلافي استفزاز بعض الجماعات المتطرفة التي لا تزال موجودة في المنطقة والرافضة لسياسات الجولاني- حيث جاءت هذه التغيرات بعد زيارة علنية للجولاني في يونيو/حزيران الماضي لوجهاء من الطائفة المسيحية في ثلاث قرى هي: (القنية، والجديدة، واليعقوبية).

ويبدو أن الجولاني أدرك خطأ تهجيرهم للمسيحين وباقي الطوائف من مناطق سيطرته؛ لأن وجود المسيحين في مناطق سيطرته سيدفع أميركا والغرب إلى التقرب بحساسية تجاه المنطقة بدعوة حماية الأقليات، ومنع أي عملية عسكرية محتملة من قبل روسيا والنظام السوري وإيران ضدها، لذا يبدو أن الجولاني يحاول استدراك الأمر والتشجيع على عودة المسيحيين إلى مناطق سيطرة الهيئة، وسماحه بفتح أبواب الكنائس وإقامة الصلوات، هي محاولة لإثبات حسن نيته تجاه المسيحيين، لتشجيع المهجّرين منهم على العودة إلى قراهم في مناطق سيطرة “الهيئة”، حتى أن بعض التقارير تحدثت عن تواصل مساعدي الجولاني مع عائلات مسيحية هُجّرت من إدلب، وعرضوا عليها العودة مقابل إعادة أملاكها والعيش من جديد بكل حرية.

وبهدف إعطاء صورة مغايرة عن “الهيئة”، على أنها قادرة على التعايش مع جميع الأديان والطوائف على خلاف التنظيمات والجماعات المتشددة، وتماشياً مع هذه المتغيرات في سلوكيات وإيديولوجية الجولاني سارعت “حكومة الانقاذ” في إدلب إلى إجراء العديد من التعديلات والتغييرات في طريقة تعاطيها مع سكان المناطق التي تسيطر عليها في إدلب وريفها. وفي هذا السياق، أجرت “حكومة الإنقاذ” أواخر يونيو/حزيران الماضي تعديلاً على ما تُسمى “لجنة الغنائم” التي كانت تستحوذ من خلالها على الكثير من ممتلكات المسيحيين والمعارضين لسياستها، حيث أطلقت على هذه اللجنة اسماً جديداً وهو “مؤسسة الإسكان”، والسبب الرئيسي لتغيير الاسم هو محاولة نزع صبغة “التشدد الديني” التي تُعرف بها “هيئة تحرير الشام”، والتهرّب من التسميات الإسلامية الجهادية المتشددة، ولتظهر بمظهر مؤسساتي رسمي على غرار “مؤسسات الإسكان” التابعة للحكومات الرسمية.

عوامل تساعد “تحرير الشام” على البقاء وتنفذ مخططاتها

من أبرز العوامل التي تشجع الهيئة على مواصلة إجراء التغييرات في هيكليتها وسلوكياتها، هو أن ملف إدلب يُعتبر ملفاً حساساً بالنسبة للغرب؛ لخشيته من حدوث أي نزوح جماعي في حال تعرضها لأي عملية عسكرية من قِبل روسيا والنظام، أو في حال فكرت تركيا تسليمها للنظام السوري، وهذا الوضع شكَّل ارتياحاً لدى “الهيئة”، التي بدأت بتشكيل إدارات محلية في هذه المدينة، والتي باتت أشبه “بإمارة إسلامية” تحكمها “الهيئة” أمام أعين أميركا والغرب، ورغم أن الهيئة مصنفة على لوائح الإرهاب، إلا أنه لا أحد يرغب في محاربتها أو إنهاء وجودها في إدلب. بالإضافة إلى مخاوف أميركا والغرب من خسارة جماعة مثل «هيئة تحرير الشام» للأراضي التي تسيطر عليها، لأن بقاء مثل هذه الجماعة بلا أرض؛ سيزيد من احتمال عودتها لاتباع تكتيكات التمرد والإرهاب والجهاد العابر للحدود، لذا سيحاول الغرب وأميركا، وحتى روسيا، إبقاء بقعة جغرافية تحت سيطرة “الهيئة”، لتنشغل فيها إدارياً وعسكرياً، ولا تتحول إلى تنظيم عابر للحدود، أو الانضمام إلى التنظيمات الجهادية العالمية.

كما شكَّلت عودة “حركة طالبان” إلى السلطة في أفغانستان، عاملاً آخر، لرفع المعنويات لدى “الهيئة” التي تحاول محاكاتها، وذلك عبر التركيز على الأهداف المحلية أو الوطنية، وتهميش الأهداف العالمية. إذ يشير اتفاق الولايات المتحدة وطالبان – والذي بموجبه انسحبت أميركا من أفغانستان، بحجة أن طالبان تعهدت بعدم دعم تنظيم القاعدة- إلى أن واشنطن يمكنها أن تتصالح مع الجماعات المتطرفة، التي لا تحاول أن تكون مصدر تهديد مباشر لها وللغرب. لذا باتت “الهيئة” تحاول أن تظهر نفسها كشرطي دولي وإقليمي ضد تنظيم “داعش” وضد المقاتلين الأجانب عموماً، وتنظيم “القاعدة” على وجه الخصوص في مناطق سيطرتها، “ففي 23 أغسطس/آب الماضي، ألقى “الأمن العام” التابع “للهيئة” القبض على اثنين من القادة الأجانب، وهما كل من “أبو بكر الأوزبكي” و”عبد الله الأوزبكي”، وقالت: “إنهما يتبعان لإحدى الخلايا الأمنية لتنظيم داعش”. وفي 25 مايو/أيار 2022، ‏اعتقلت قوة أمنية تابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، نائب الأمير العام لجماعة “أنصار الإسلام” وأحد أبرز القيادات فيها، في منطقة “حارم” شمالي إدلب، ويدعى الجهادي “أبو الدرداء الكردي”، ويُعتبر من أبرز الجهاديين في المنطقة، بحسب تقرير نشرته “بوابة الحركات الإسلامية بتاريخ 15 يونيو/حزيران 2022. فلا شك إن الإعلان والقبض على خلايا التنظيم يخدمان الدور الذي تلعبه “الهيئة” من أجل التعامل معها كقوة أمر واقع، وحاجة ضرورية للأمن الإقليمي والدولي، ويسهم في الدفع باتجاه رفع اسمها من قوائم “الإرهاب”.

ومن العوامل الداخلية، التي تدفع الهيئة لمواصلة التغييرات، هو هيمنتها على أهم مصادر الاقتصاد في إدلب، كالمعابر والطرقات الرئيسية والموارد الاقتصادية، وأهمها المحروقات والاستفراد بها، مما سمح لها بالتحكم في الحياة العامة في المدينة، وتوجه كافة المجالس المحلية التي شكلتها “الحكومة المؤقتة” نحو “حكومة الإنقاذ”، وفي هذا الإطار تنظر “هيئة تحرير الشام” إلى الملفات (الإدارية، الأمنية، الاقتصادية) في إدلب كأوراق قوة على المستوى الداخلي، تفرضها كرقم يصعب تجاوزه على مستوى مستقبل حوكمة المنطقة، ضمن محاولة لفرض نفسها عبر كل تلك الملفات، ليس فقط على القوى الموجودة في مناطقها، وإنما على الاتفاقات والتفاهمات الإقليمية والدولية التي ستحدد مستقبل المنطقة.

أهداف تركيا غير المعلنة

يبدو أن هناك توجه عام من قِبل تركيا إلى صهر غالبية الفصائل السورية في بوتقة “هيئة تحرير الشام”، وجعل الأخيرة واجهة للمعارضة السورية، بعد أن تجري التغييرات اللازمة على هيكليتها وسلوكها، والتحول من التطرف إلى “ديني معتدل”، وليس علماني بكل الأحوال، لأن المخطط المرسوم “للهيئة”؛ هو تشكيل “إمارة سنية” في شمال سوريا مدعومة من تركيا، وما يؤكد هذا التوجه هو ما جرى خلال لقاء الجولاني مع وجهاء في مدينة إدلب شمال غرب سوريا، في يونيو/حزيران 2022، حيث قال في خطابه: “إن المشروع في مناطق سيطرة الهيئة لم يعد مشروع ثورة ضد الظلم والطغيان فقط، إنما تحوّل إلى بناء كيان سنّي، لأن أبناء السنة معرّضون لخطر وجودي في سوريا، رغم أغلبيتهم وكثرة عددهم”. لذا ستحاول تركيا تشكيل هذه الإمارة السنية المطيعة للغرب، وغير المعادية لروسيا وإيران مستقبلاً، خاصة أن الهيئة أكثر الأطراف المحليّة التي عقدت صفقات تبادل مع إيران وحزب الله، وبهذه الطريقة قد تتمكن تركيا من إنشاء ما تسميها “منطقة آمنة” في شمال سوريا؛ لنقل اللاجئين السوريين إليها، في شمال سوريا، وهذه الخطوة ستكون مفيدة للنظامين التركي والسوري معاً؛ فتركيا ترغب في أن ترضي الداخل التركي بترحيل السوريين، وجعلهم كتلة سنية على حدودها، لإجراء التغيير الديمغرافي في المناطق ذات الغالبية الكردية، ولتصبح هذه المنطقة مفرخة للمرتزقة، الذين ستحتاجهم تركيا في حروبها ومصالحها الخارجية، أما النظام السوري فلا يرغب في عودة هؤلاء اللاجئين السوريين السنة من تركيا إلى الداخل السوري، لأنها تعتبرهم “خائنين ومؤيدين للمعارضة والجماعات الإرهابية”، لذا سيكون الأفضل لها أن تجمعهم تركيا في إدلب وعفرين وشمال سوريا، بعيداً عن العاصمة والداخل السوري. وعليه فإن “حكومة الإنقاذ” ستكون هي الجهة المؤهلة لإدارة المرحلة في الشمال السوري، وأن تركيا يهمها أن يكون هناك طرف قوي في الميدان، يمكن الاستناد عليه، والمناورة في الملفات العالقة.

خاتمة

من خلال ما تقدم، يبدو أن هناك أطراف عديدة، أشد ما تكون بحاجة “للهيئة” خلال هذه الفترة، خاصة مع تحول إدلب إلى ساحة لتصفية حسابات المحاور، ومسرحاً للصراعات الإقليمية والدولية بالاعتماد على أطراف محليّة، وأن تلك الحسابات قد تتقاطع في جزء منها مع وجود “الهيئة” وبقائها كفاعل محلي مؤثر على الأرض، ولكن بشكل جديد لهذا الوجود، لذلك فإن قرار الحلّ والتحول إلى شكل تنظيمي جديد، قد يكون مقدمة لأدوار وظيفية جديدة تتناسب ومعطيات المرحلة القادمة. وإن عدم استهداف الجولاني حتى الآن يعني وجود قناعة لدى أميركا والغرب بأنه “صمام الأمان” الوحيد للمنطقة، وهذا ما دفع بمناهضي “هيئة تحرير الشام” لاتهام الجولاني بالعمالة لأميركا وتنفيذ أوامرها.

وفي حال نجحت تركيا و”هيئة تحرير الشام” في إقناع المعارضة والجماعات الجهادية الأخرى بدعم خطتها في الاندماج وتحويل الشمال إلى إمارة سنية؛ فإن ذلك سيحول جميع المناطق التي تحتلها تركيا إلى بقعة جغرافية موحدة يتيح لها التحكم في تنفيذ الصفقة الروسية التركية بشأن إدلب، عبر إعادة فتح الطرق السريعة، لأن “هيئة تحرير الشام” ترى نفسها تتحول من منظمة في حالة من الفوضى إلى منظمة ذات عمل تنظيمي ومؤسسي، ويعمل بعض القادة بنشاط على نموذج “الدولة المحلية” بخطوات محسوبة ودقيقة، على أمل أن يرفع ذلك من حجمها في التوازن السياسي.  فيما يكمن الهدف الأبعد من تحركات “الهيئة” ورسائلها، في تصدير صورة جديدة لها إلى المجتمع الدولي، في مسعى واضح لتكون جزءاً من الحل، إذ تعكس هذه الإجراءات مواكبة قيادات “الهيئة” تغيّرات مرتقبة في القضية السورية على صعيد الحل السياسي.

وفي المحصلة قد لا تكون كل التغييرات التي تجريها “هيئة تحرير الشام” وزعميها “الجولاني” على شكل وهيكلية وسلوكيات التنظيم، هي بالضرورة لإقناع أميركا والغرب، بأنها أصبحت حقاً تنظيماً محلياً ومعتدلاً، لرفع اسمه من لوائح الإرهاب، بقدر ما هي محاولات لخلق مبررات لهم، حين يتطلب مصالحهم منح الشرعية للتنظيم مستقبلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى