قضايا راهنة

قراءة استشرافية في تداعيات الاستدارة التركية نحو دمشق

منذ إعلان الرئيس التركي والمسؤولين الأتراك، عن استعدادهم للتصالح مع النظام السوري، بعد أكثر من عقد على التدخل التركي في سوريا وأزمتها، وتسببه في تعقيدها أكثر، لا زال “جدل التطبيع أو التصالح” بين أنقرة ودمشق يأخذ حيزاً واسعاً من دائرة التغطية الصحفية لوسائل الإعلام المحلية والعالمية؛ نظراً لأهمية هذا الحدث، الذي قد يقلب الكثير من الموازين في الملف السوري من جهة، وعلاقات تركيا بالكثير من الدول الإقليمية والعالمية من جهة أخرى، وهذه المتغيرات بطبيعة الحال ستفرز العديد من التداعيات والمتغيرات الجديدة في المنطقة، وسيكون لها تأثيراً على كافة “القوى الداخلية والخارجية” المتدخلة في الملف السوري.

ورغم أنه لا توجد حتى الآن أي مؤشرات ملموسة لسير “أنقرة ودمشق”، لإعادة علاقاتهما المقطوعة منذ أكثر من عقد من الزمن، لكن لا زال هناك جو عام في الداخل التركي، يشي بأن هذه المحطة “ستكون واقعية” في المرحلة المقبلة؛ لأن الحكومة التركية بقيادة أردوغان ترغب حقاً في “التصالح” مع دمشق، قبل موعد الانتخابات الرئاسية التركية، حتى وإن لم يكن التصالح على مستوى قادة البلدين، كما حصل في العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي مثلاً، أو الرياض وإسرائيل مؤخراً، باعتبار أن ما يهم أردوغان في مساعي التصالح مع دمشق هو إرضاء الداخل التركي، مع قرب موعد الانتخابات بالدرجة الأولى.

لذا سنحاول في هذه القراءة التحليلية، إلقاء نظرة استشرافية على مستقبل العلاقات “التركية – السورية”، ومدى إمكانية تحقيق التصالح، وتداعيات هذا التصالح – إن حصل – على كافة الأطراف والقوى المتدخلة في الملف السوري، وعلى مواقف القوى الدولية حيال هذا التصالح، ومن سيكون الرابح أو الخاسر من المصالحة بين النظامين التركي والسوري؟

تداعيات التصالح “الرابحون والخاسرون”

لا شك أن تركيا، التي لعبت دوراً محورياً في الأزمة السورية، وتسببت في تعقيدها، نتيجة إدخالها للجماعات الإرهابية والجهادية إلى سوريا ودعمها، واحتلالها المباشر لمناطق في شمال سوريا، وتحويلها الفصائل السورية المسلحة إلى “مرتزقة”، يخدمون مصالح تركيا الخارجية، سيكون لاستدارتها نحو دمشق – بعد كل ما فعلته في سوريا – تداعيات ومتغيرات جذرية، تلقي بظلالها على عموم الملف السوري، وهذا يحيلنا إلى طرح التساؤل حول من هم “الرابحون والخاسرون” من تداعيات التصالح بين أنقرة ودمشق؟ وسنحاول الإجابة عن هذا التساؤل من خلال النظر في المعطيات الراهنة وظروف كافة الأطراف داخل الملف السوري، لمعرفة مدى إمكانية التصالح من جهة، وتأثيراتها على تلك الأطراف والقوى المتدخلة في الشأن السوري من جهة أخرى.

أولاً: التداعيات على النظامين السوري والتركي

رغم الدعوات التركية للمصالحة، إلا أن دمشق لا تبدو حتى اللحظة واثقة في عرض المصالحة، ويبدو أنها على يقين بكون هذه الدعوات تدخل في إطار اللعبة الانتخابية من قبل أردوغان.

لكن مع ذلك، قد لا يهم دمشق إن كان أردوغان يتخذ من دعوة المصالحة تكتيكاً للانتخابات القادمة، أم هي استراتيجية طويلة الأمد، قائمة على تغيّر جذري في نهج السياسة الخارجية لتركيا، فما يهم دمشق هو ما سيقدمه أردوغان على أرض الواقع، لإثبات صدق نواياه.

المسؤولون في الحكومة السورية يطرحون شرطين أساسيين أمام أنقرة قبل البدء بأي عملية مصالحة أو تطبيع، وهما “الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف الدعم للإرهابيين”. إن شروط دمشق للتطبيع، هي مطالب طبيعية لأي علاقة حقيقية بين دولتين، لذلك فإن جدية أنقرة ورغبتها بالتصالح مرتبطة بقبول المنطق السليم في العلاقات الدبلوماسية من عدمه. ولكن المعطيات الراهنة تشير بأنه لا نيّة لأردوغان بالانسحاب من سوريا؛ لأن أي انسحاب قبل الانتخابات ستُعتبر هزيمة له، وفشلاً لسياساته في سوريا، لذا يحاول أردوغان – من خلال طرح موضوع المصالحة مع دمشق في هذا التوقيت –  قطع الطريق أمام المعارضة التركية، التي بدأت تروّج بأنها في حال استلمت السلطة ستعيد العلاقات مع دمشق، وتعيد اللاجئين السوريين، بعد ازدياد الاحتقان في الشارع التركي ضد السوريين، فأراد أردوغان إيهام الداخل التركي بأنه هو أيضاً قادرٌ على فعل ذلك، وللمزاودة على المعارضة، بدأ بالترويج للمصالحة مع دمشق، ضمن خطة الدعاية الانتخابية المبكرة، أما السبب الآخر لعرض المصالحة، هو فشله في الحصول على موافقة من روسيا وإيران، لشن عملية عسكرية جديدة ضد مناطق الإدارة الذاتية، والتي كان أردوغان يأمل بأن يطلقها قبل الانتخابات، لتوجيه الرأي العام الداخلي نحو الحرب الخارجية، وكسب دعم وتأييد القوميين والمتطرفين الأتراك في الانتخابات، لذا فإن استدارة أردوغان نحو دمشق هي للإيهام بأنه سيعتمد على سياسة جديدة في محاربة الكرد والإدارة الذاتية، بأقل الخسائر، وذلك عبر التعاون والتوافق مع النظام السوري.

لذا، لا يمكن أن يكون هناك حوار على مستوى قادة البلدين على المدى القريب، إذا لم تنسحب القوات التركية من سوريا، لأن دمشق لا يمكنها فتح حوار مباشر مع تركيا، والتعهد بحماية الحدود مع تركيا، أو إعادة اللاجئين السوريين، فيما غالبية الحدود بين البلدين هي بالأساس محتلة من قِبل تركيا، فإذا كان المطلوب من دمشق تسلم مسؤولية الحدود مع تركيا، كواجب أي حكومة تجاه جيرانها، فإن هذا الالتزام لا يكون مجزئاً، فالحدود مع تركيا تبدأ من محافظة اللاذقية وحتى محافظة الحسكة، وعلى أنقرة تسليم كامل الحدود التي تحتلها للحكومة السورية، قبل مطالبة دمشق حماية ما تبقى من الحدود شرقي الفرات، كما إن طرح جاووش أوغلو مقترح دعم تركيا لدمشق في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعتبرها تركيا “جماعة إرهابية تهدد الأمن القومي التركي”، لا يمكن اعتباره صيغة للتطبيع، لأنه يتجاهل الفصائل والمجموعات المتطرفة التي تعتبرها دمشق إرهابية، وتهدد أمنها أيضاً.

وبموجب تلك المعطيات، من المستبعد أن يكون هناك تطبيع بين دمشق وأنقرة قبل إقرار جدول زمني وآلية محددة لسحب تركيا قواتها من الأراضي السورية، وايقاف دعمها للمعارضة المسلحة والجماعات الجهادية على أقل تقدير. فالانسحاب سيكون ضمانة لالتزام تركيا بالاتفاقيات الجديدة مع دمشق إن حصلت، ولكن المؤشرات تشير إلى أن تركيا لا تبدي أي نية للانسحاب، وهي ترغب في إبقاء توزيع السيطرة على الوضع الحالي، والاتفاق مع دمشق حول ملفين رئيسيين، هما محاربة الكرد، وإعادة اللاجئين إلى سوريا، عبر العلاقات الاستخباراتية بين الدولتين، بدون الوصول إلى إجراء لقاءات مباشرة بين قادة البلدين في الوقت الراهن، ولكن مخططات أردوغان هذه باتت مفضوحة، بسبب سياساته الالتوائية والبراغماتية المفرطة، وتحولاتها الجذرية، لذا لا يمكن لدمشق الوثوق بسياسات أردوغان، لإدراك دمشق أنه بدون تحقيق تركيا لهذين الشرطين، لا يمكن قطع يدها عن سوريا، والنظر إلى تركيا كدولة جارة.

أما حديث البعض عن مساع روسية لإحياء اتفاقية “أضنة” بين تركيا وسوريا، بعد إجراء بعض التعديلات عليه، لتكون كأحد صيغ التوافق بين الحكومتين، ولمنع تركيا من إطلاق عمليات عسكرية جديدة في سوريا، فإن هذا الأمر أيضاً يحتاج إلى الكثير من الترتيبات، ولا يمكن أن يحدث بدون تطبيع كامل بين الدولتين، وبدون انسحاب تركي من سوريا، أو بالأحرى لو وافقت تركيا على إعادة تفعيل “اتفاقية أضنة”، فإن ذلك سيفرض عليها الانسحاب، وذلك لعدة أسباب، منها:

  • أن تلك الاتفاقية عندما تم التوقيع عليها عام 1998، كانت تركيا في مركز القوة والنظام السوري في موقف الضعيف، لذا قَبِل النظام بشروط الاتفاقية، التي كان واضحاً أنها بنيت بموجب المصالح التركية فقط، ولكن اليوم الأمر معكوس تماماً، فالنظام السوري حالياً هو في موقع القوة – على صعيد التفاوض على الأقل- أما تركيا في حال قبولها بإحياء الاتفاقية، فستكون مجبرة على قبول شروط جديدة سيضعها النظام هذه المرة، وإلا فإن النظام سيلوح بورقة الكرد، ويهدد بالتوافق والتصالح معهم بدلاً من تركيا، وهذا الأمر يشكل – بحد ذاته – كابوساً للحكومة التركية.
  • في حال تم تطبيق بنود الاتفاقية في الوقت الراهن فإن النظام السوري سيكون هو المستفيد منها هذه المرة، لأن كل ما طُلب من النظام تنفيذه تحت بند “مكافحة الإرهاب” في تلك الاتفاقية سيُطالب النظام من تركيا بتطبيق مثيلها أيضاً. فمثلاً قبل تطبيق الاتفاقية – عملياً – سيتوجب على الحكومة التركية الاعتراف مجدداً بشرعية الأسد ونظامه، وهذا سيحتم عليها إعادة علاقاتها مع النظام السوري، وفتح سفارتها في دمشق، والقبول بإعادة فتح دمشق سفارتها في أنقرة. وعليه ستُجبَر تركيا على الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، والانسحاب سيجعلها تضطر للتخلي عن كافة المعارضة المسلحة والسياسية، وكافة المجموعات المسلحة المدعومة من قِبلها، وإغلاق كافة معسكرات فصائل المعارضة داخل الأراضي التركية، لأن النظام يعتبرهم “إرهابيين”، تماماً مثلما تصف تركيا “حزب العمال الكردستاني” بالإرهابي، وعليه سيتوجب على تركيا تسليم قادة المعارضة للنظام، إذا كانت تريد التمسك ببند الاتفاقية القائل “وينبغي على سوريا محاكمة مجرمي «حزب العمال الكردستاني» وتسليمهم إلى تركيا”، إذاً بالمثل ستطالب سوريا تسليم كل قادة المعارضة السياسية والعسكرية باعتبارهم إرهابيين أيضاً.

ثانياً: التداعيات على المعارضة السورية

الاستدارة التركية الأخيرة تجاه الملف السوري، جعلت هيئات المعارضة السورية في حالة تخبط فيما بينها بشكل كبير، وتصريحات تركيا بشأن إعادة العلاقات مع الحكومة السورية، وإعلان الرئيس التركي صراحة أن هدف تركيا، ليس إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد عن الحكم في سوريا، شكّل نقطة فارقة بين تركيا وكيانات المعارضة السورية، التي لم تخفِ مخاوفها من تخلي تركيا عنها، على غرار ما فعلت مع جماعة الإخوان، بعد إعادة علاقاتها مع دول الخليج ومصر، فكل المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها المناطق السورية المحتلة، التي خرجت رفضاً للمصالحة التي دعت لها تركيا كانت بشكل أو بآخر بتحريض من قبل قيادات المعارضة والفصائل، التي باتت تخشى على مصيرها بعد الاستدارة التركية صوب دمشق، ولخشيتها من أن تبيعهم تركيا ضمن إحدى صفقاتها مع روسيا والنظام السوري، خاصة أن أردوغان بات يستشعر بدنو أجله مع حلول انتخابات 2023، نتيجة تكتل المعارضة الداخلية ضده، وسخط أميركا والدول الغربية من سياساته، وبما أن الأولوية لديه باتت بقاؤه في السلطة بأي شكل كان، لذا فإنه لن يتوانى عن تقديم كل ما يملك من أوراق للبقاء في السلطة لدورة جديدة، ويبدو أنه سحب ورقة “المعارضة السورية” وسيرمي بها على طاولة روسيا والنظام السوري، مقابل تعهد النظام باستعادة كافة اللاجئين السوريين من تركيا، وعدم الاعتراف بأي حقوق للكرد، والتعاون مع الاستخبارات التركية لمحاربة الإدارة الذاتية، وإعادة سيطرة النظام على شمال شرق سوريا، وبطبيعة الحال فإنه في حال عودة تركيا للتطبيع مع الأسد، فإنها ستضطر للانسحاب الكامل أو التدريجي من الأراضي السورية، وترك كافة فصائل المعارضة تحت رحمة روسيا والنظام السوري، وحينها كل محاولات المعارضة للاستنكار والتنديد والخروج بالمظاهرات ضد سياسات حليفها التركي، لن تجدي نفعاً، لأن أردوغان لن يضحي بسلطته من أجل إرضاء المعارضة والفصائل المسلحة، الذين تم تسمينهم أساساً من قبل أردوغان كل هذه السنين، ليقدمهم قرباناً لسلطته ومصالحه في مثل هذه الظروف.

وفي المحصلة، ستكون أمام المعارضة وفصائلها خيارات محدودة، في حال جرت المصالحة بين تركيا ودمشق، أولها التسليم بالأمر الواقع، وقبولها المصالحة مع النظام السوري، على أمل أن تقنع تركيا دمشق العفو عن بعض قيادات المعارضة، وإشراكهم في الحكومة، بدون إجراء أي تعديلات على الدستور السوري الحالي، وفتح باب التسويات أمام كافة الفصائل المسلحة، لإلقاء السلاح، أو الانضمام للجيش السوري. أما الخيار الثاني، أن يهرب قادة المعارضة من تركيا، واللجوء إلى الدول الأوروبية، أو إلى قطر، والادعاء بأنهم سيواصلون “النضال السياسي من الخارج” ضد النظام، والتخلي عن الحل العسكري، وبالتالي تسليم كافة المناطق التي تسيطر عليها للنظام السوري، واستسلام كافة عناصر الفصائل المسلحة للنظام.

ثالثاً: التداعيات على الإدارة الذاتية

لاشك أن أي تصالح أو تطبيع بين تركيا والنظام السوري، سيكون بند محاربة الإدارة الذاتية من أولى شروط تلك المصالحة، ولا يخفى على أحد أن كل ما قدمته تركيا من تنازلات وصفقات سابقة لروسيا والنظام السوري، كانت مقابل ضرب الإدارة الذاتية، ومنع الكرد من نيل حقوقهم، لذا يرى الكثير من المراقبين أن التطبيع أو التصالح بين تركيا ودمشق سيؤدي إلى تشكل تحالف ينهي الإدارة الذاتية، ويقضي على قوات سوريا الديمقراطية، باعتبار أن أولى شروط تركيا للتطبيع، هو أن تتعاون دمشق مع تركيا في محاربة الكرد، وإعادة شمال وشرق سوريا إلى سيطرة الحكومة السورية، ولكن تلك الرؤية غير دقيقة، إذا ما نظرنا للظروف الموضوعية، فهناك الكثير من المعطيات التي تؤكد أن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق في الوقت الراهن لن يصل لمرحلة القضاء على الإدارة الذاتية، ولن يغير كثيراً من المعادلة في شمال شرق سوريا، وذلك لعدة أسباب:

أولاً: إن قرار القضاء على الإدارة الذاتية، وإعادة دمشق السيطرة على شمال وشرق سوريا ليس بيد دمشق، حتى تتعهد لتركيا – في حال التطبيع – بذلك، فلو كانت دمشق قادرة على فعل ذلك لفعلته حتى بدون التصالح مع تركيا، ثم أن الطرفان بدون التطبيع لم يتوقفا يوماً عن التعاون غير المباشر لمحاربة الإدارة الذاتية، وبالتالي فالتطبيع لن يغيّر شيئاً من المعادلة، خاصة مع استمرار وجود التحالف والولايات المتحدة في المنطقة.

ثانياً: إن مصير حكومة الأسد لا زال معلقاً، ولم يجرِ الاعتراف الرسمي بها، لا عربياً ولا غربياً، وكل محاولات بعض الدول الخليجية والعربية لانتشالها من حضن إيران، وإعادتها لمحيطها العربي، مقابل إعادة تعويم الأسد، باءت بالفشل، لأن الأسد لم يجرِ أي تغيير في علاقاته مع إيران، وهذا ما يفسر زيادة الضربات الإسرائيلية – مؤخراً – على سوريا، فيما لا بوادر في توافق عربي – حتى الآن – لإعادة دمشق لمقعدها في الجامعة العربية، أو مشاركتها في القمة العربية، التي من المزمع أن تعقد في الجزائر قريباً، كما عاد الغرب – وعن طريق فرنسا – إلى فتح ملف الأسلحة الكيماوية ضد حكومة الأسد، ما يعني أنه حتى وإن تمكنت تركيا من التطبيع الكامل مع دمشق، فهذا لا يعني أن النظام السوري تجاوز خطر رحيله. وعلى عكس ذلك، قد يزيد تصالح تركيا مع النظام عودة الضغوطات العربية والغربية على حكومة الأسد، والمطالبة برحيله، وقد يزداد الدعم السياسي الأميركي والغربي للإدارة الذاتية، كرد على تصالح تركيا مع الأسد، وإن كانت بوادر هذا الدعم بدأت تظهر من خلال إصدار قيادات التحالف الدولي مؤخراً بيانات تندد بالهجمات وقصف المسيرات التركية – ولو بشكل غير مباشر – على مناطق شمال شرق سوريا، فيما كانت سابقاً تلتزم الصمت، بالإضافة إلى إرسال أميركا مبعوثاً جديداً إلى شمال شرق سوريا، وهو ” نيكولاس جرانجر”، والذي بدأ منذ الأربعاء 31 آب 2022، بعقد سلسلة لقاءات مع القيادات والمسؤولين في الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى الأحزاب والقوى الكردية، وهذه كلها مؤشرات على تمسك أميركا بالبقاء طويلاً في سوريا، ودعم حلفائها المحليين. وبالتالي، فإن كل تحالفات تركيا مع النظام السوري لن تصل إلى مستوى تهديد وجود الإدارة الذاتية.

ثالثاً: إن إعلان الولايات المتحدة الأميركية – مؤخراً – رفضها لأي خطوة تركية في التقارب مع دمشق، وتشديد واشنطن على أنها لن تدعم جهود التطبيع مع بشار الأسد، أو إعادة تعويمه، وبأنها لا تنوي رفع مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع الأسد، ولن تؤيد تطبيع علاقات دمشق مع الدول الأخرى أيضاً، كلها مؤشرات بأنه من المستبعد أن تجرؤ تركيا على إيصال مستوى علاقاتها مع دمشق لمستوى التطبيع أو العلاقات الدبلوماسية، لأنها تدرك أنها لن تجني من هذا التطبيع ما تأمل منه، فيما يخص محاربة الإدارة الذاتية. بل على عكس ذلك، يبدو أن إعلان تركيا التصالح مع دمشق، بتشجيع من قبل روسيا وإيران، دفعت أميركا إلى التحرك لإعادة تفعيل اجتماعات جنيف، التي عقدتها الخارجية الأميركية، يومي “30 و 31 آب 2022 في جنيف”، الموجه بلا شك ضد مسار آستانا وتعويم الأسد، من هذا المنطلق، يجدر التساؤل حول مدى إمكانية ظهور هيئة، أو كتلة معارضة جديدة موازية، في مواجهة مع مسار “أستانا”، وبرعاية الولايات المتحدة، وأسباب لجوء كيانات المعارضة السورية إلى الاحتماء بواشنطن، بعد إعلان تركيا التصالح مع الأسد، ومدى احتمال ضم واشنطن، المعارضة السورية المتخوفة من السياسات التركية إلى “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا؟.

رابعاً: شهدت المنطقة الكثير من المتغيرات منذ عشر سنوات، وبعد الحرب الأوكرانية، واحتدام الصراع بين أميركا والغرب ضد روسيا وحلفائها، من غير الممكن أن تنسحب أميركا من سوريا، وترك الساحة لروسيا وإيران، ومع وجود كل من روسيا وإيران وأميركا ودول التحالف في سوريا عامة، وشمال شرق سوريا بشكل خاص، لم يعد بإمكان “الأسد وإردوغان” حلّ المشكلة بمفردهما، وبمجرد تطبيع تركيا مع دمشق، وتخليها عن المعارضة، وفصائلها، فإن الإدارة الذاتية، ستكون القوة السورية المعارضة البديلة، التي ستحظى بالدعم الدولي، وحتى العربي، في مواجهة تحالف “النظام السوري، وتركيا، وروسيا، وإيران”، وبالتالي لا يمكن إيجاد أي حل للأزمة السورية، بدون التوافق مع الإدارة الذاتية، وهذا بطبيعة الحال سيفرغ التطبيع التركي السوري من أهدافه.

خامساً: تأثيرات إحياء “اتفاقية أضنة” على الكرد في هذه المرحلة ستكون ضئيلة، لأنه في حال توافق الطرفان على إحياء أو تعديل هذه الاتفاقية، مقابل الانسحاب التركي من سوريا، فإن ذلك سيكون له إيجابيات أكثر من السلبيات على الكرد والإدارة الذاتية، باعتبار أن التهديد التركي للكرد والإدارة الذاتية سيكون محصوراً في ضربات الطيران المسيّر، أو ضربات محدودة على الحدود، وهذه الأمور لم تتوقف أساساً ضد شمال وشرق سوريا، لذا ستتخلص الإدارة الذاتية متمثلةً بقواتها (قسد) من أعباء المواجهة العسكرية المباشرة مع تركيا وفصائلها، وسيكون الباب مفتوحا أكثر أمامها لإجراء حوار جاد مع النظام السوري، والحصول على تنازلات من النظام، الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، باعتبار أن الإدارة الذاتية التي تسيطر على أهم المناطق النفطية والزراعية، تمتلك أوراق قوية، تمكنها من فرض بعض الشروط على النظام، بعد التخلص من التهديدات التركية المباشرة، وفي حال التوصل لاتفاق مع النظام والتوافق على اعتبار “قسد” جزءٌ من الجيش السوري، فهذا سيفرغ بنود “اتفاقية أضنة” من مضمونها، وتنسف حجة تركيا بمحاربة القوات الكردية باعتبارهم إرهابيين تابعين لحزب العمال الكردستاني، وفي حال لم يتوصل النظام والكرد لأي اتفاق، فإن تركيا – حينها – لن تكون بحاجة لاتفاقية أضنة، وستواصل تهديدها لمناطق شرقي الفرات والمطالبة بـ”المنطقة الآمنة”، ولكن مطلبها هذا يصطدم حالياً مع الرفض الروسي، وعدم استعداد أمريكا لإقامة هذه المنطقة، وفي حال لم تنسحب، فلن يحصل أي تطبيع بين تركيا وسوريا، وفي كل الأحوال لن يكون لاتفاقية أضنة أي تأثير، أكثر مما يجري حالياً على وضع الكرد في المرحلة الراهنة على الأقل.

الرؤية

من الواضح – ومن خلال ما تقدم – أن حدوث أي مصالحة أو تطبيع للعلاقات بين تركيا ودمشق، سيكون لها نتائج سلبية على النظام التركي والمعارضة المدعومة من قبلها، أكثر من أي طرف آخر، ومع ذلك فإن أردوغان الذي لم يبق أمامه وقتٌ كثير على موعد الانتخابات، سيكون مستعداً للمغامرة، واستخدام كافة أوراقه، لاستخدامها كطوق نجاته الأخير، وبعد فشل مخططه في إحياء العثمانية، لن يتوانى عن استخدام المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري في صفقات خارجية، لتقوية دعايته الانتخابية الداخلية.

وسواء حصلت المصالحة بين أنقرة ودمشق أم لم تحصل، فإن مجرد الإعلان التركي عن استعداده للتصالح مع دمشق، سيعتبر ضربة لدور ووزن تركيا في الملف السوري، لأنها من جهة فقدت ثقة شريحة واسعة من المعارضة السورية والشعب السوري بها، وأثارت مخاوف الفصائل المسلحة والجماعات الجهادية من سياسات تركيا تجاهها من جهة أخرى، ومن غير المستبعد أن تبدأ المعارضة والجهاديون في البحث عن جهات داعمة لها كبديل عن تركيا، وقد تلجأ العديد من شرائح المعارضة إلى واشنطن، وتطالب بإجراء مصالحة بينها وبين الإدارة الذاتية، لتتمكن من الحصول على الدعم الغربي  والأمريكي.

فيما يشير تعيين أميركا لمبعوث جديد في شمال شرق سوريا في هذا التوقيت، والذي بدأ أعماله بإجراء لقاءات مع ممثلي الإدارة الذاتية من جهة، وزيارته لمكتب المجلس الوطني الكردي من جهة أخرى، إلى أن هناك محاولات جدية من قبل أميركا لإعادة إحياء المفاوضات الكردية ـ الكردية، وتشكيل كيان كردي موحّد، يكون تمهيداً لإجراء الخطوة الثانية، عبر دمج الأحزاب والقوى الكردية مع هيئات المعارضة، وذلك في حال تفكيك الائتلاف السوري المعارض، وتخلي تركيا عنه.

ستحاول إيران في المقابل دفع تركيا للتصالح مع دمشق، لأنه وفق الرؤية الإيرانية، فإن المصالحة السورية-التركية تضمن انسيابية الشبكة الإيرانية، التي تشمل اليمن وقطر والعراق وتركيا، وصولاً إلى “حزب الله” و”حماس”، مروراً بسوريا، ومن جهة أخرى تمهّد لمصالحة سورية- قطرية مستقبلاً، بالإضافة إلى منح الرئيس التركي ورقة سياسية رابحة للانتخابات المصيرية في يونيو 2023، وهي سد أحد أهم ثغرات نزيف أصواته، والمتمثل بملف اللاجئين السوريين بالتنسيق مع دمشق.

إن حكومة أردوغان مقبلة على أيام عصيبة ومفصلية في عمر سلطته وعمر تركيا برمتها، فأردوغان الذي أدخل تركيا في حروب خارجية واسعة، وتسبب بأزمة اقتصادية خانقة نتيجة هوسه بإحياء حلم العثمانية، فإن هذا الحلم سينتهي بمجرد رضوخ أردوغان لمطلب دمشق والانسحاب العسكري الكامل من سوريا، لأن هذا الانسحاب سيفرض عليه الانسحاب من العراق أيضاً، وبالتالي لن يكون لمخططاته وتدخلاته في الدول العربية الأخرى أي معنى، وبالتالي حتى إن فاز في الانتخابات القادمة لن يبق له وزن في المعادلات الإقليمية والدولية، وستخنقه المعارضة في البرلمان وفي الشارع التركي، وسيطالبون بمحاسبته على سياساته الخارجية الفاشلة، التي كلفت تركيا الكثير من الخسائر.

لذا قد يحاول أردوغان الخروج من سوريا بأقل الخسائر، وإغلاق كافة ملفات الجرائم التي ارتكبها في سوريا، خلال عقد من التدخل في سوريا، خاصة بعد مقتل 3 من زعماء داعش من الصف الأول في مناطق الاحتلال التركي، فهو يخشى أن يجري محاسبته في حال خسر الانتخابات، قبل أن يخرج الجيش التركي من المستنقع السوري.

أما اتفاقية أضنة – لو أعيد تطبيقها – فإنها تعتبر كانقلاب السحر على الساحر، وستكون بداية لنهاية المعارضة السورية، وكافة الفصائل المسلحة المدعومين من تركيا قبل الجميع، وإنهاء الاحتلال التركي لسوريا، وهدم حلم أردوغان في إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وإعادته لوضع ما قبل الأزمة السورية، والمستفيد الوحيد منها سيكون النظام السوري، وقد يستخدم النظام هذه الاتفاقية لاستفزاز الكرد مستقبلاً، بعد الاتفاق معهم والاعتراف بإدارتهم وقواتهم العسكرية، وذلك في حال جرى أي خلاف بين الطرفين بعد الاتفاق، فإنها ستتحجج بوجود هذه الاتفاقية للتملص من الدفاع عن المناطق ذات الغالبية الكردية، في حال تعرضت لأي قصف وهجمات من قبل تركيا.

زر الذهاب إلى الأعلى