مقالات رأي

التطبيع التركي السوري.. حقيقة أم وهم؟

أدت التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأتراك، حول الرغبة في التوصل إلى حل وسط بين المعارضة السورية ودمشق، بالإضافة إلى الاحتجاجات الحاشدة في مناطق سيطرة تركيا في إدلب وشمال حلب، إلى تكثيف النقاش داخل تركيا بشأن المخرج المحتمل للمأزق السوري.

يشار إلى أن أصوات السياسيين والمسؤولين المطالبين – بشكل أو بآخر- بالتطبيع مع “نظام الأسد” تتعالى كل يوم، وتنتمي الكثير من تلك الأصوات – بشكل خاص – للحكومة التركية الحالية، وذلك بهدف جذب أصوات إضافية لصالح الحزب الحاكم (حزب العدالة والتنمية) والرئيس أردوغان، مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في حزيران/يونيو 2023.

يبدو من خلال بعض التصريحات، إن الاتصالات التركية السورية المباشرة (خاصةً على مستوى رؤساء المخابرات، بين هاكان فيدان وعلي مملوك) مدعومة أيضاً من قِبل روسيا، التي تبذل قصارى جهدها لحل الأزمة سياسياً، وتعارض بشكل قاطع الوجود الأمريكي في عدد من المناطق الشمالية الشرقية لسوريا، ومن جانبها، أنقرة غير راضية تماماً عن الدعم الذي يقدمه البنتاغون لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والتي تتعرض مواقعها لقصف تركي بشكل يومي تقريباً.

إن زيادة التواجد التركي العسكري في المناطق الشمالية لسوريا، تشير إلى إصرارها على القيام بغزو جديد؛ من أجل إنشاء “حزام أمني” بعمق 30 كم، على طول خط حدودها مع سوريا، فبعد اجتماعه في 19 تموز/ يوليو مع نظيريه الروسي والإيراني في طهران، طالب الرئيس التركي أردوغان – وللمرة الأولى علناً- بانسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، حيث تحاول أنقرة إقناع موسكو وواشنطن بإعطائها “الضوء الأخضر” للقيام بعملية عسكرية جديدة ضد مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في وقت تحاول موسكو إقناع هذه الإدارة بالتسوية مع دمشق، والتخلي عن مطالبها.

من الشخصيات التي أيّدت مسألة تطبيع العلاقات بين تركيا ودمشق، كان زعيم “حزب العمل القومي” دولت بهجلي، المتحالف مع “حزب العدالة والتنمية”، وكذلك نائب رئيس “حزب العدالة والتنمية” حياتي يازجي، عندما قال في إحدى اللقاءات التلفزيونية: “لا يسع “حزب الشعب الجمهوري” المعارض الرئيسي، والذي دافع منذ فترة طويلة عن السلام مع “نظام الأسد”، إلا أن يوافق على هذا الخط”.

إلى جانب ذلك، لقد أثارت احتجاجات المعارضة السورية – بعد تصريحات وزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو- في مناطق أعزاز وعفرين وجرابلس، ومناطق أخرى في شمال غربي سوريا، الخاضعة للاحتلال التركي، والتي رافقتها حرق العلم التركي “المقدس”، جدلاً وردود أفعال غاضبة في وسائل الإعلام والشبكات التواصل الاجتماعي، وجلبت معها خوف وذعر بين ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، وكذلك، زيادة العنف والأعمال العدائية من قِبل السكان المحليين في تركيا.

تبلغ تكلفة الاحتلال التركي لشمال سوريا نحو ملياري دولار سنوياً، بحسب صحيفة فايننشال تايمز. وبحسب تصريحات حكومية، فقد تم إنفاق ما لا يقل عن 40 مليار دولار على توطين قرابة 4 ملايين لاجئ سوري فقط، في حين تدّعي المعارضة التركية أن الرقم الحقيقي أعلى بعدة مرات.

وبالتالي، فإن مراجعة المسار المدمر السابق في “القضية السورية” تمليه إلى حد كبير الحاجة إلى البقاء السياسي للزعيم التركي الحالي في مواجهة المشاكل الاجتماعية، والاقتصادية الحادة، والاستياء المتزايد من المهاجرين السوريين، حيث باتت الهجمات “العشوائية” على السوريين شائعةً. تقول المعارضة التركية إنها إذا نجحت في الانتخابات، فإنها “ستعيد السوريين إلى بلادهم”.

من الواضح أن أردوغان، خلال إعطاء إشارات حول إقامة اتصالات مع الحكومة في دمشق، يتوقع إخراج إحدى الأوراق الرابحة المهمة من يد المعارضة. لكن رغم ذلك، سيتعين عليه مواجهة استياء كل من فصائل “الجيش الوطني السوري” وجماعات أخرى مماثلة، وكذلك جزء من النخب التركية.

حتى الآن، يكرر عملاء أجهزة المخابرات التركية على المدى الطويل في سوريا شعارات حول الطبيعة “القوية والعميقة” للعلاقات مع “الإخوة في تركيا”، والتي – كما يقولون – لا يمكن أن يهزها شيء. ومع ذلك، قد لا تنجح هذه الدعايات؛ لأن أردوغان معروف بتقلباته السياسية، حيث إنه بعد سنوات من العداء، اتخذ خطوات نشطة لبناء علاقات مع إسرائيل، ومصر، والمملكة العربية السعودية، التي اتهم زعيمها، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مثل جو بايدن، بالتورط في مقتل الصحفي جمال خاشقجي.

وفي سياق الأزمة السورية، نذكر كيف سلّم أردوغان – وبوساطة روسية – “العاصمة الشمالية” حلب لدمشق، عام 2016-2017. وتوجيه بعض الجماعات -التي تسيطر عليها تركيا- للقتال ضد الكرد السوريين، بدل “نظام الأسد”.

بالعودة إلى عام 2020، كان أحد أهداف رحلة  “مملوك” إلى أنقرة، التي أعلن عنها  نجل وزير الدفاع السوري السابق فراس طلاس، هو تنسيق الجهود في محاربة الكرد في شمال شرق سوريا، ولهذه المسألة تأثير كبير على الأمن الإقليمي؛ بسبب الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.

كان توقيع “اتفاقيات أضنة” عام 1998، بمثابة الانتقال من العداء بين أنقرة وحكومة حافظ الأسد (الأب) إلى النضال المشترك ضد “الكرد”. على ما يبدو، تأمل تركيا في تحديث هذه الاتفاقية تماشياً مع الواقع الجديد في سوريا، وبدورها، تصرّ دمشق على الانسحاب غير المشروط لقوات الاحتلال التركي من كامل أراضي البلاد، وأن أي تقدم في علاقات البلدين مرتبط بذلك، في وقت تظهر استطلاعات الرأي في تركيا تزايد شعبية مرشحي المعارضة.

ولكن بغض النظر عن جميع الأمور السابقة، إذا نجح أردوغان في انتخابات عام 2023؛ فمن الأرجح أنه سيعود مرة أخرى إلى دعم أصحاب الدوافع الأيديولوجية والدينية في المعارضة السورية المسلحة، بأشكالها الأكثر راديكالية.

من الواضح حتى الآن، أنه من السابق لأوانه الحديث عن تحول أساسي للقيادة التركية نحو سياسة خارجية أكثر توازناً بشأن “الأزمة السورية”، ومن غير المحتمل أن تكون أنقرة مستعدة لوضع حد غير مشروط لاحتلال الأراضي السورية، كما تطالب دمشق. من الواضح أن السلطات التركية تبحث بنشاط عن خوارزمية إجراءات في الاتجاه السوري، مصممة لضمان دعايتها وغيرها من النجاحات، مع التركيز على الانتخابات المقبلة. في الوقت نفسه، لا يقل اهتمام نظام أردوغان في البحث عن الأموال التي يمكن أن تغطي العجز المتزايد في ميزانية مدفوعات البلاد؛ لذلك، وبعد اجتماع رئيسي روسيا وتركيا في 5 آب / أغسطس في سوتشي، تناقش وسائل الإعلام التجارية التركية وصول الأموال “الساخنة” من روسيا (عبر Rosatom، وغيرها) بنشاط، وهو –بالتأكيد- ليس عمل خيري خالص، دون وجود مصلحة متبادلة.

زر الذهاب إلى الأعلى