قضايا راهنة

تفاهمات إسرائيلية روسية حول تنفيذ ضربات جوية في سوريا

تقوم إحدى الركائز الأمنية لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط على أساس تمتين علاقاتها مع روسيا، وتجزئة الخلافات، والتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك.

وعلى مدى عقدين سابقين، حافظت إسرائيل وروسيا على علاقاتهما التعاونية والودّية، عن طريق تجنّب تجاوز الخطوط الحمر، والفصل بين المواضيع الخلافية والمصالح المشتركة بين الطرفين. مع ملاحظة أن اسرائيل كانت دائماً حريصة على ألّا تؤثر هذه العلاقة على تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى إثارة حفيظتها تجاه العلاقة مع موسكو.

لذلك، فقد اتبعت تل أبيب سياسة متوازنة في علاقاتها مع موسكو، وطالما كانت لغة المصالح المشتركة هي التي تطغى عليها، مع تجنب الخلافات ما أمكن، الأمر الذي ساعد في استقرار العلاقات بين الطرفين، واستمرارها رغم الاختلاف في وجهات النظر تجاه بعض القضايا الاستراتيجية والمرحلية. وقد نشر مؤخراً موقع روسيا اليوم، الذي تموّله الحكومة الروسية مقالاً بعنوان: “لا شيء يعكّر صفوَ العلاقات الروسية الاسرائيلية”، ليعبّر عن المودة بين وزيري الخارجية الروسي والاسرائيلي، وأنه لا يوجد ما يعكر صفو العلاقات بين الطرفين، لا الملف النووي الايراني، ولا الملف السوري، ولا الفلسطيني؛ وأن موسكو لن تغير نهجها تجاه إسرائيل، التي حاولت استثمار هذه العلاقة لكسب روسيا إلى جانبها في بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك.

حرصت إسرائيل على إرسال إشارات، في إطار تصعيد حربها النفسية ضد إيران، وجاءت زيارات وفودها الرسمية لروسيا ضمن هذا التوجه. كما تم صرف مبلغ يقارب مليار ونصف المليار دولار على ميزانية الجيش لعام 2022، بهدف تعزيز قدراته في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، بالإضافة إلى تسريبات للبدء بتدريبات لمهاجمتها، والتعويل على موسكو في كبح التهديدات الإيرانية وخاصة في سوريا. وقد أكّد مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق “مئير بن شبات” أن روسيا تشارك إسرائيل وجهة نظرها في أن ايران قوة مزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، وموقف موسكو من إيران أقرب إلى موقف إسرائيل، وتلاه بيان رئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت” خلال اجتماع حكومي في اكتوبر 2021، الذي قال فيه بأنه وجد لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين آذاناً صاغية لاحتياجات اسرائيل الأمنية، وناقشوا البرنامج النووي الإيراني المتقدم، الذي يثير قلق الجميع”.

ومن القضايا الأخرى، وفي إطار تصعيدها العسكري في سوريا، تسعى إسرائيل أن تستثمر علاقتها مع روسيا لتحقيق عدة أهداف:

منع تحويل سوريا إلى جبهة ضد إسرائيل

نتيجة التطورات الأمنية والعسكرية في سوريا، انتقلت إسرائيل من موقف الحياد إلى تنفيذ هجمات عسكرية مباشرة داخل الأراضي السورية، حيث جاءت اول ضربة عسكرية لطائرات إسرائيلية في يناير 2013 في العمق السوري (مركز البحوث العلمية في جمرايا بريف دمشق)، استهدفت فيها قافلة تنقل أسلحة إيرانية إلى حزب الله، وهذا ما أكدته إسرائيل آنذاك.

ومع تزايد الوجود العسكري الروسي لدعم النظام السوري، بدأت اسرائيل إدارة تفاهماتها معها، لتواصل غاراتها في الداخل السوري، حيث اتفق رئيس حكومة إسرائيل السابق “بنيامين نتنياهو” مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عام 2015 على خطة لتفادي أي سوء تفاهم في سوريا،  في حين استهلت الحكومة الجديدة في إسرائيل عملها ضمن هذا السياق باجتماعات على مستوى عالي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي، اكتوبر 2021، كأول زيارة لرئيس الحكومة الجديد، بهدف استمرار التفاهمات السابقة، والإبقاء على علاقات متوازنة بين البلدين، وحلّ بعض المسائل الخلافية في سوريا، فيما يخص التنسيق كما في السابق، والتي صرح فيها رئيس الوزراء الاسرائيلي لاحقاً، أنه توصل مع الرئيس الروسي إلى تفاهمات جديدة ومستقرة بشأن سوريا” وإدارة تلك التفاهمات عبر:

استراتيجية “الحملة بين الحروب” لضرب التموضع الإيراني في سوريا

ينطوي أحد التحديات الأمنية الحالية لإسرائيل، على محاولات الهيمنة الإيرانية في الشرق الاوسط، سيّما مساعيها في بناء محاور نفوذ في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتحسين ترسانتها الصاروخية، وتصديرها إلى الفصائل الموالية لها في تلك المناطق. ولمواجهة هذه التحديات وإبطالها حافظت اسرائيل على روتين ما يسمى “الحملة بين الحروب”، وهي استراتيجية – بحسب تحليل لـــ “معهد واشنطن” نقلاً عن عسكريين إسرائيليين متقاعدين – تقوم على اتخاذ إجراءات هجومية استباقية بالاعتماد على معلومات استخباراتية سرية، الهدف منها:

  • تأخير نشوب الحرب وردع الأعداء، عبر آلية إضعاف قدراتهم وأصولهم العسكرية.
  • ترسيخ شرعية إسرائيل باستخدام القوة ضد الأنشطة العسكرية السرية التي تنتهك القانون الدولي، ومن ثمَّ فضحها.
  • تهيئة ظروف مثالية للجيش الإسرائيلي، في حال نشبت أي حرب.

وفي سوريا أدركت إسرائيل بأن الحرب الأهلية فيها تتيح فرصة، للعمل بحرية غير مسبوقة ضدّ التمركز الإيراني وميلشياته العسكرية في البلاد؛ فكانت من أبرز الملفات التي تفاهمت عليها إسرائيل مع روسيا وحافظت عليها، استراتيجية ما تسميه “الحملة بين الحروب” ضد أنشطة إيران التخريبية. كأحد العوامل التي ساهمت في:

  • إطالة فترة الهدوء النسبي على حدودها الشمالية.
  • إحباط أعمال الميليشيات التابعة لـــ “فيلق القدس”، و”الحرس الثوري الإيراني” إلى حد ما في تحويل الحدود السورية إلى قاعدة لنشر أسلحة متطورة، وتحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة لشن عمليات ضد إسرائيل.

عزّزت بشكل كبير قوة الردع الإسرائيلية ضدّ خصومه في المنطقة. وهي حملة يتم تيسيرها من خلال التفاهم مع روسيا، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، لضمان أمن إسرائيل، وعدم تحويل سوريا إلى مركز لإطلاق الهجمات ضدّها. وهو ما برز واضحاً في حديث وزير الخارجية الروسية بعدم استخدام الأراضي السورية لشن أية هجمات ضد إسرائيل، في رسالة واضحة لإيران.

تفعيل آلية تنسيق فضّ الاشتباك لمنع التصادم

في عام 2015، ومع تدخّل روسيا في الأزمة السورية، بدأت إسرائيل باستعراض قوتها، لإظهار خطوطها الحمر أمام روسيا، فعند قيام الأخيرة بمحاولة استطلاع للدفاعات الإسرائيلية على هضبة الجولان في يناير 2016، قابلتها إسرائيل والأردن بطائرات F16، الأمر الذي جاء بمثابة إنذار مباشر لموسكو، وهذا ما أكّده ملك الأردن “عبدالله الثاني” – بحسب ميدل ايست – للكونغرس الأمريكي: “رأينا الروس يطيرون بالقرب من حدودنا، لكن طائرات F16 إسرائيلية وأردنية واجهتهم”، وأضاف أن “الروس شعروا بالصدمة، وفهموا أنهم لن يتمكنوا من العبث معنا ونشر الفوضى”.

وبهذه الحركة تمكنت إسرائيل – وبالتعاون مع الأردن – في ضمان عدم حدوث أية تجاوزات روسية في المستقبل، وتوجيه رسالة تحذير مباشرة بشأن عبور الحدود المشتركة. وعلى إثرها قامت إسرائيل بإنشاء آلية “عدم التصادم” لمنع التشابك بين الجانبين، والتي استمرت مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة كضرورة، أكد عليها رئيس حكومتها “بينيت“، في اكتوبر 2021، مشيراً إلى أهمية إدارة الوضع الدقيق والمعقد مع روسيا بسلاسة، لضمان عدم وقوع أي تصادم معها في سوريا”. إضافة إلى تصريح وزير الإسكان الإسرائيلي “زئيف إلكين” الذي قال فيه: أن القمة الإسرائيلية الروسية ركّزت على آلية فض الاشتباك، لمنع وقوع حوادث بين العمليات الإسرائيلية والقوات الروسية في سوريا. لتصبح هذه الآلية خطوة رئيسية لإدارة التفاهم بين اسرائيل وروسيا في منع أي تصادم جرّاء عملياتها في سوريا، وتجسير الفجوة بين البلدين عبر آلية منع التصادم، والسماح لإسرائيل بتنفيذ ضربات عسكرية جوية داخل سوريا ضد الأهداف الإيرانية، وتوسيع دائرة ضرباتها، لتشمل جميع الأراضي السورية، وليس فقط المناطق الحدودية مع إسرائيل، وفقاً لآلية معينة تغض فيها موسكو الطرف عن تلك الضربات مقابل:

  • عدم استهداف إسرائيل لقوات النظام السوري.
  • توجيه الضربات ضد أهداف إيرانية فقط.
  • إخطار كل طرف للآخر عن المواقع المستهدفة، قبل تنفيذها.
  • قنوات اتصال، لإبلاغ الجيش الروسي عن اتجاه تنفيذ الضربات الإسرائيلية، لتامين القوات الروسية، وهي اتفاقية تعهدت فيها اسرائيل بضمان سلامة المواطنين الروس والمنشآت العسكرية في سوريا.

تصعيد مستمر رغم الإدانة

إن الموقف الروسي تجاه التحركات الإسرائيلية في سوريا باهِت ولا يتعدى صفة المراقبة، بحكم أن العلاقات الثنائية بين الطرفين جيدة، وموقفها من العمليات الإسرائيلية لم يتغير، فهي لم تعبّر عن تغيير نهجها تجاه اسرائيل في أي مكان أو مناسبة.

من ناحية أخرى، أظهرت موسكو عدم رضاها عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في بعض المواقف، فعندما تعرّضت طائرة استطلاع روسية، عائدة من قاعدة حميميم، وعلى متنها 15 جندياً، عن طريق الخطأ لصاروخ أرض – جو سوري، ألقت موسكو اللوم على إسرائيل في الحادث، لكن رغم ذلك لم يتجاوز الأمر الإدانة اللفظية، من خلال بعض التحذيرات، ولم تعمل على إيقافها أمام التصميم الإسرائيلي على شن الضربات.

فعلى الرغم من الإدانة الروسية، لم تأخذ إسرائيل ذلك على محمل الجد، واستمرت في تصعيدها العسكري، فالغارات التي شنتها مؤخراً وبكثافة ملحوظة قُدّرت وفق منصة بيانات بحوالي 28 ضربة عسكرية، طالت 57 موقعاً، واستهدفت فيها حوالي 187 هدفاً، توزّع على 11 محافظة تقريباً، جاءت دمشق وريفها في المقدمة، ثم درعا والسويداء، تلاها حمص ودير الزور وحلب وحماه وطرطوس، وآخرها في اللاذقية في 7 و28 ديسمبر 2021 بضرب منشآت في ميناءها.

ما سبق يوحي بأن إسرائيل تسعى لتأكيد جديتها في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا خلال المرحلة القادمة، وتجاوزاتها لم تؤثر على علاقاتها مع روسيا. فبالرغم من قدرة الأخيرة على منع إسرائيل من ضرب أهداف إيرانية في سوريا، إلا أنها تغضّ الطرف باستمرار عن النشاط الإسرائيلي في هذا السياق، وتكتفي بموقف المراقب والمتفرج والمدين.

في الختام.. يمكن القول أن سوريا هي الحلقة الأضعف في العلاقات بين روسيا وإسرائيل، فبالرغم من التحديات التي واجهتهما خلال الأزمة الحالية، إلا أن أحدهما يُعتبر أهم شريك للآخر، وقد برز ذلك في توقيع اتفاقيات تعزّز التعاون في مجالات مختلفة، كالاقتصاد والطاقة.

كما أن الكرملين أظهر أنه ليس على استعداد للإضرار بعلاقاتها مع إسرائيل من أجل تحالفها مع سوريا أو لشراكة استراتيجية محتملة مع إيران، فالأخيرة ليست في وضع يسمح لها بالضغط على موسكو لتمكين وكلاءها لاستخدام الأراضي السورية كقاعدة لشن هجمات على إسرائيل.

لذا رغم تشابك أو تضارب بعض التوجهات بين روسيا وإسرائيل في سوريا، إلا أن العلاقة تحكمها المصالح العميقة المشتركة بينهما، والتي نجحت إلى حد بعيد في منع التصادم بينها وبين وإيران، والسماح لها بحرية في تنفيذ ضرباتها داخل الأراضي السورية.

وبحكم هذه العلاقات، تميل روسيا لصالح إسرائيل، فمصلحة الأول أيضاً تأتي انطلاقاً من رغبتها في إخراج إيران، والحد من هيمنتها في سوريا، والتي تراها تهديداً لمصالحها، لذلك لا بد لها من تأمين الجبهات في سوريا وخاصة تجاه إسرائيل، عبر التنسيق معها لمواجهة أعدائها، وعدم الاعتراض على عملياتها في مواجهة التهديد الإيراني من سوريا، وبالمقابل إسرائيل لا تضرّ بمصالح روسيا فيها.

زر الذهاب إلى الأعلى