قضايا راهنة

التلويح بعدوان جديد.. خيار تركيا غير المستساغ في سوريا

يبدو أن رياح التغييرات الحالية في سوريا تجري بما لا يشتهيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يجد نفسه الآن في مواجهة روسيا والنظام السوري معاً، وسط تجاهل حليفته الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الموقف يضعه أمام ضغوط سياسية وخارجية كثيرة، تؤثر بشكل كبير على وجود بلاده في سوريا، حيث تتضاءل خياراته بعد فقدان حلفاء غربيين وعرب، بالإضافة إلى التغير في معادلات القوى، كل ذلك يجعله وحيداً في الساحة، كما ستكون الانعكاسات كبيرة على تركيا.

وللهروب من المأزق الذي دخل فيه الرئيس التركي، لجأ إلى التلويح بعدوان جديد، تحت ذريعة فشل الدبلوماسية، وبهدف إبعاد قوات سوريا الديمقراطية عن حدوده، وتحميل الولايات المتحدة وروسيا مسؤولية الاعتداء على قواتها؛ وهو أسلوب التاجر المفلس للبحث عن أوراق تبيح له التدخل في الشأن السوري، عبر حضوره العسكري، والحصول على تنازلات سياسية، تبقيه كجزء أساسي في المعادلة السورية.

ويمكننا مناقشة أسباب رفع سقف خطابه، وتعبات ذلك، من خلال ثلاث نقاط:

أولاً: رفع حدّة التصعيد الروسي

تعدّدت الجبهات التي تواجهها تركيا في سوريا، نتيجة تعرض جنودها ونقاطها لهجمات متكررة، أدت لمقتل العديد منهم؛ بالإضافة إلى مصير إدلب، التي باتت كعقدة صعبة الحل بالنسبة لها، نتيجة سيطرة جماعات متشددة ومصنفة إرهابياً – مثل “هيئة تحرير الشام / جبهة النصرة سابقاً” – على المدينة، وتأثيرها الرادع على الدعم الغربي لتلك المنطقة، وتبريرها لتقدم النظام السوري نحو المدينة بدعم روسيا من منظور مكافحة الارهاب.

ولتخفّف تركيا من حدّة تأثير هذا الضغط، كانت قمة سوتشي، التي جمعت الرئيس التركي مع الرئيس الروسي في 26 سبتمبر 2021، والتي كانت فرصة لبحث ملفات مشتركة، من بينها:

ورقة إدلب: وهي ورقة الضغط الروسية، التي تسعى لإخراج الجماعات الإرهابية من المدينة، ويسمح للنظام السوري بالسيطرة عليها.

ورقة تل رفعت: وهي الخاصرة الرخوة لتركيا في شمال سوريا، والتي تدّعي تركيا بأن التهديدات القادمة منها كبيرة على مدينة إدلب، لأن هدف تركيا بعد احتلالها لعفرين، كان تحركها للحفاظ على وضعها الراهن في إدلب، وبالتالي يخفف حدّة الضغط على المدينة.

لكن رغم التصريحات المتناغمة بعد القمة، إلا أن المؤشرات أوحت بفشل الوصول إلى تسوية، وبات الملف السوري يتجه نحو المزيد من التعقيد. وجميع السيناريوهات متاحة على طاولة الصراع بعد هذا الفشل، لعدم الوصول إلى اتفاق بشأن المناطق الوارد ذكرها، فلم يفلح الرئيس التركي في تخفيف الضغوط تجاه إدلب، أو عقد أي صفقة للمقايضة، ليحقق مكاسب على الأرض.

وكخيار بديل، ورداً على خيبة الأمل من الجانب الروسي، لجأت القيادة التركية لخيار التهديد، ورفع حدته بعدوان عسكري على مناطق كـ “تل رفعت” و”منبج”، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وتنتشر في محيطها بعض النقاط لروسيا والنظام السوري.

لكن يبدو أن الخيار التركي البديل لم ينجح في تحقيق مبتغاه لعدة أسباب، يمكن مناقشتها كما يلي:

  • الرد الروسي، عبر شن غارات على محيط مدينتي مارع وسرمدا وما يحيط بهما، ضمن مناطق النفوذ التركي، وهو تصعيد جديد من نوعه، ويعزز احتمالية إرسال رسالة لتركيا، بفرض روسيا لأمر واقع جديد، يلغي كل التفاهمات معها، وأن النفوذ التركي وميليشياته في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون وحتى نبع السلام، لن تكون محصنة من الاستهداف.
  • فشل المناورات التركية في تخفيف حدة الضغوط الروسية، فقوات النظام السوري ما تزال تحشد على خطوط التماس في إدلب، بدعم من الروس، ولا تزال القوات الجوية الروسية تنفذ طلعات وبكثافة أكثر مما سبق. كما بدأت إيران أيضاً بحشد ميليشياتها في مناطق نبل والزهراء وأطراف تل رفعت، تمهيداً لعملية عسكرية ضد هيئة “تحرير الشام”، والفصائل الموالية لتركيا في ريف إدلب.
  • ورقة تل رفعت التي تسعى تركيا لاستغلالها كوسيلة ضغط عبر تهديدها المتكرر بالسيطرة عليها، ورقة غير مجدية، فأي تحرك تركي بمثابة إنذار لمعركة كسر العظم بين تركيا وروسيا، ووقوف إيراني مع الأخير، كون المدينة تقع بين ثلاث نقاط منفصلة تمثل مجال للنفوذ التركي والروسي والإيراني، والمدينة بدورها تعتبر عقدة توازنات عسكرية بين هذه القوى.
  • روسيا ترى نفسها الجانب الأقوى في المعادلة، مما يمكنها من فرض شروطها على تركيا، لدفعها بتنفيذ مخرجات أستانا بما يملي عليها مصالحها، وحل ملف هيئة تحرير الشام وغيرها من الجماعات المسلحة، فتصعيدها الأخير رسالة واضحة من “بوتين”، بقبول الإملاءات الروسية والخضوع لشروطها.

ثانياً: تجاهل أمريكي

بعد فشل أردوغان في قمة سوتشي مع “بوتين”، أصبح موقف الرئيس الأمريكي “بايدن” هو الحاسم، كبديل لحسابات “أردوغان”، إلا أنه فوجئ بمضمون رسالة لبايدن إلى مجلس النواب الأمريكي، مفادها تمديد حالة الطوارئ في سوريا، التي أعلن عنها ترامب في 14 اكتوبر 2019، وبإعلانه هذا، تم توجيه رسالتين، الأولى: طمأنة قوات سوريا الديمقراطية، والثانية: تحدّي لتركيا، ووضعها على الجانب الآخر من المصالح الأمريكية، كون الإجراءات التركية تزيد من تدهور الوضع الانساني والوقائع الديمغرافية في المنطقة. وتؤدي لتقلبات، وتوازن غير مستقر، وتعرض حياة المدنيين للخطر، وفق بيان أصدره البيت الأبيض في أكتوبر 2021.

وفي محاولة لتمرير أهدافها بدأت تركيا بالتلويح بعدوان جديد في سوريا، ولوم الولايات المتحدة على مقتل جنودها، وهي إشارة واضحة إلى حجم الخلاف بين الطرفين.

وهذه التصريحات تأتي كرد فعل تركي على التجاهل الأمريكي لمطالبها فيما يتعلق بسوريا. ومناورة بعد إخفاق الرئيس التركي في سياسته الخارجية القائمة على مستوى شخصي مع الرئيس الروسي “بوتين”.

لكن احتمالية تنفيذ الرئيس التركي لتصريحاته دون التفاهم مع الولايات المتحدة صعب، فتنفيذ أي عمل عسكري جديد لا بد أن يجري وفق تفاهمات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأي تجاوز تركي للأخير سيكون عواقبه معروفة، نتيجة ما مرّت به أسواق المال التركية، والتي أصبحت تواجه مخاطر التدهور السريع في ليرتها، الأمر الذي يعرض اقتصادها لكارثة أخطر من سابقتها التي عانتها عند تهديد ترامب بتدمير اقتصادها، وهو موقف صعب في الداخل التركي، ويزيد من تراجع شعبية أدروغان الأخيرة، والذي يتعرض أيضاً لهجوم من أحزاب المعارضة مؤخراً نتيجة سياسته الخارجية، وخاصة في سوريا، كما جاء في تصريح للمتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري “اوزتراك” في سبتمبر 2021، حيث حمّل حزب “أردوغان” مسؤولية التسيب الأمني في البلاد، وتسلل عناصر داعش إلى تركيا، كما أضاف بتأجيج “أردوغان للصراع على الحدود السورية، بدلاً من تهدئة الأوضاع، وجعل تركيا معبراً ومسكناً للإرهاب، وإنفاقه المليارات، مؤكداً أنه برحيله سيتنفس الأتراك الصعداء، ولن تصبح الدولة حكراً على عدة أشخاص”.

إذاً، فنبرة التهديد بعدوان تركي جديد على سوريا هي مؤشر لاحتمالية غياب أي بوادر لضوء أخضر أمريكي لتصعيد يخلّ بالتوازن بين القوى في سوريا، أو يفرض أي واقع جديد في المنطقة. فهي ورقة تركية غير مقبولة من الجانب الأمريكي أيضاً.

ثالثاً: تحركات دبلوماسية على مستوى الملف السوري تقوّض الدور التركي

أحد الاحتمالات حول إطلاق تصريحات بشن تركيا لعملية عسكرية جديدة في سوريا ورفع سقف خطابها، هو التخوّف من الموجة الدبلوماسية الأخيرة بين القوى الإقليمية والدولية، والتقارير التي تشير بالاتفاق الوشيك بينها فيما يخص الملف السوري، وما تخشاه أنقرة أن يكون شاملاً ويقوض وجودها في المعادلة السورية، وهذه التحركات هي:

تقارب روسي أمريكي

منذ لقاء مبعوثي الرئيسين الأمريكي والروسي في جنيف 16 سبتمبر، والمؤشرات تدور حول إمكانية التوصل إلى اتفاق بين البلدين، يؤدي إلى حلول للأزمة السورية، وتناول عدة ملفات، كضبط الوجود الإيراني وإيقاف تمدده، وملف المساعدات، وملف شمال شرق سوريا، ضد أي تحركات تقوّض استراتيجية الولايات المتحدة، بمنع التواصل بين القوات الإيرانية المنتشرة شرقاً وحزب الله في لبنان ومناطق غرب سوريا؛ وهي استراتيجية تقوض أي تحرك تركي جديد.

ومن ناحية أخرى، روسيا تستغل الخلافات الأمريكية التركية للحصول على تنازلات من الجانب التركي ومواليه من المعارضة السورية لصالح النظام السوري.

تقارب سعودي إيراني

منذ عام 2020 دخلت العلاقات بين السعودية وإيران في حيّزٍ يميل أكثر نحو التفاهم بين الطرفين، حيث صرّح ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” في نيسان الجاري: أن إيران دولة جارة، وكل ما نطمح إليه هو أن يكون لدينا علاقة طيبة ومميزة معها” كما أشار إلى رغبة المملكة لمصالح متبادلة بين البلدين.

ويتزامن هذا التقارب مع لقاءات غير علنية بين الطرفين، خاصة في مؤتمر “دول جوار العراق” والتي شهدت جولة حوار بين السعودية وايران، ثم اجتماع ثنائي بين الطرفين على هامش أعمال الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة. ويختتم ما سبق ما جاء على لسان وزير الخارجية الإيراني “حسن عبد اللهيان” في بيروت اكتوبر 2021، “أن الحوار الإيراني السعودي يسير على الطريق الصحيح”.

ومنذ إعلان هذه المحادثات، كانت سوريا على طاولة الحوار، ورغم الخلاف بين الطرفين في بعض الملفات التي تتعلق بالحالة السورية، إلا أن العامل المشترك والثابت هو عدم رغبة السعودية بوجود تركي في الشمال السوري، ومطالبتها بخروج القوات التركية من سوريا، وهو ما تتفق معه إيران أيضاً. فتهديدها بعدوان جديد، هو أحد الاحتمالات كرد فعل ضد أي تحرك أو توافق من شأنه أن يقصي دورها كمحاور أساسي في أي مفاوضات مستقبلية لسوريا.

وفي الختام.. يمكن القول أن التهديد بالقيام بعمل عسكري، كمتنفس للحصول على مكاسب سياسية في المفاوضات الدبلوماسية، خيار تركي غير مستساغ في الوقت الراهن، لغياب أي توافق مع القوى الأخرى، كما أنه رهان خاسر لاختبار ردود فعل تلك القوى، التي كانت واضحة قبل لهجة التهديد ولم تتغير بعدها، كرسائل الدعم الأمريكية لقسد، واستقبالها لوفدها في نيويورك، بالإضافة إلى تصعيد عسكري روسي في مناطق النفوذ التركي، والتي يمكن تصورها بمثابة انقلاب في التفاهمات.

إذاً، فغياب الغطاء السياسي الذي يمنح تركيا الضوء الأخضر للقيام بعمل عسكري، سيصعب عليها المهمة، كونه لن يخلو من صعوبات قد تفضي لانعكاسات سلبية نتيجة:

  • صعوبة التوافق مع كل من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت الحالي.
  • الكلفة والتداعيات المتوقعة للعملية العسكرية دون التنسيق مع باقي القوى.
  • عدم الحصول على موافقة للغطاء الجوي، لغياب التنسيق.
  • حالة النفور المتزايدة من المعارضة السورية ومسلحيها الموالية للجيش التركي.
  • ارتفاع وتيرة هجوم المعارضة التركية لسياسة “أردوغان” الخارجية، وتبعاتها السلبية.
  • الوضع الاقتصادي الهش في الداخل التركي، والتخوف من تبعات العملية العسكرية المنفردة عليه.
زر الذهاب إلى الأعلى