قضايا راهنة

المعابر الحدودية.. الورقة المطروحة لتوازن المصالح في سوريا

في حالات النزاع المسلّح، تقوم وكالات المساعدات الانسانية، والمنظمات غير الحكومية، بتكييف هياكلها وعملياتها، لتناسب القيود المفروضة عليها، وذلك بهدف تأمين المساعدات، وإيصالها إلى السكان المتضررين، لكن رغم ذلك تتعرض تلك المنظمات إلى ضغوط أخرى، تتعلق في أسلوب تقديم تلك المساعدات، خاصة إن كان ذلك يتعلق بمشاركة الفاعلين المحليين، والجهات الخارجية الداعمة.

خلال الأزمة في سوريا، بات الدخول إليها عبر معابر استثنائية، يشكل اختباراً، ووسيلة ضغط للعلاقة بين القوى المتداخلة فيها، ففي كل عام تقريباً، تستأنف المفاوضات في أروقة مجلس الأمن، أو بشكل منفرد، لمناقشة قضية المعابر الاستثنائية، والسماح بإدخال المساعدات عبرها من الدول المجاورة، واجهتها روسيا مراراً بــ (النقض)، أو التهديد لمنعها، أو تقليلها لأكبر قدر ممكن.

فأصبحت هذه المعابر علامة بارزة في دراما الحرب السورية، لدرجة استخدامها كورقة ضغط للمساومة، ولغايات سياسية بعيدة عن الغاية الانسانية، حيث باتت بعض الدول، كالولايات المتحدة وروسيا، في حالة صراع وحرب باردة لكسب هذه الورقة.

ورقة ضغط أمريكية

رغم عدم ورود أي إشارة من الإدارة الأمريكية، إلى أن الأزمة السورية تشكل أولويةً بالنسبة لها، إلا أن الرئيس الحالي “جو بايدن”، حرص في اجتماعاته مؤخراً مع الرئيسين التركي والروسي، على إثارة قضية المعابر الإضافية، لإيصال المساعدات إلى الداخل السوري، والعمل على إعادة تفعيل بعض المعابر، كما كانت في الفترة ما بين يوليو 2014 ويوليو 2020، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2165، وخاصة معبري باب الهوى مع تركيا، واليعربية (تل كوجر) مع العراق. وهذا ما شدّد عليه وزير الخارجية الأمريكي في تصريحات عدة على ضرورة فتح المعابر، وتجديد تفويض الأمم المتحدة، لإيصال المساعدات الانسانية في شمال غرب وشرق سوريا.

فهي ترى الأهمية في قضية فتح المعابر لعدة أسباب، وهي:

  • دورها الحاسم في استمرار آلية عمل مجلس الأمن في تدفق المساعدات.
  • تحويل مسار المساعدات خارج إطار دمشق.
  • محور رئيسي لاختبار درجة التعاون مع روسيا، ورغبتها في الوصول إلى حل وسط.
  • تحقيق علامة بارزة في السياسة السورية، وإعادة الانخراط في بلد أسقط عن الرادار في ظل إدارتي أوباما وترامب.

يمكن القول إن خيارات الولايات المتحدة ضعيفة، فيما لو أرادت إجبار موسكو على فتح المعابر الانسانية، إلا أنها من الممكن استخدام اتجاه عدائي لها، في حال استخدام موسكو لنفوذها باستخدام الفيتو، واحتمال الرد الأمريكي للضغط، سيتمثل في:

  • زيادة العقوبات على النظام السوري.
  • الضغط على قوات سوريا الديمقراطية، لتقليص تعاونها مع القوات الروسية في مناطقها.
  • ربط فتح المعابر بتقدّم المسار السياسي، وتقديم المساعدة لإعادة الاعمار، وهذا وما وضّحه “بلينكن” للشرق الأوسط، بأنه لا حلّ عسكري يحقق السلام والأمن والاستقرار لسوريا والمنطقة، في غياب تقدم المسار السياسي، فبعض التحديات تأتي من إعاقة الفرق الإغاثية للوصول إلى المناطق خارج سيطرة الحكومة السورية. وهذا لن يتم دون إعادة المعابر الحدودية الأخرى للأمم المتحدة.

ورقة مساومة روسية

مثّلت عملية الوصول للداخل السوري، التحدي الأكبر للعديد من الجهات الفاعلة، فإغلاق الحدود سبّب عوائق لوصول أي مساعدات، خاصة مع إصرار النظام السوري على السيطرة على كافة المعابر، واحتكارها لمناطق سيطرته أكثر من الباقي.

ولتجاوز هذا الاحتكار، أسّس المجتمع الدولي نظام آخر للمساعدة عبر آلية الحدود، حيث وافق مجلس الأمن عام 2014، على خطة لإرسال مساعدات من العراق وتركيا والأردن، بشكل مباشر إلى مناطق المعارضة، وهذا ما رفضه النظام السوري، واعتبره انتهاكاً لسيادته، وبدأت موسكو بدعمه لإيقاف تلك المعابر، منذ تدخلها العسكري عام 2015، وتحديها باستخدام الفيتو في الأمم المتحدة، ونجحت في خفض عدد تلك المعابر الحدودية من أربعة إلى معبر واحد فقط، بهدف:

  • ربط المساعدات بالمناطق المتضررة عبر الحكومة السورية فقط، وليس عبر قنوات المعارضة.
  • منع الأمم المتحدة من تقديم أي تمويل لمنظمات غير حكومية، لإجبارها على الإغلاق.
  • تحويل مسار المساعدات إلى دمشق، مما يمنح الحكومة السورية حق معاقبة أي سلوك لا يتماشى مع تيارها، ومكافأة من يواليها، من خلال تخصيص المساعدات والعقود للأصدقاء فقط.
  • التشجيع على المعابر الداخلية، لإغلاق المعابر الدولية، وتعويم النظام السوري، للتطبيع غير المباشر معه عبر وكلاء باقي الدول، والتحكم بجميع المساعدات الواردة.
  • التحكم بملف المعابر، وسيلة ضغط روسية، لتقديم تنازلات من القوى الأخرى، ووسيلة لتخفيف العقوبات على النظام السوري.

إلا أن الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة والقوى الأخرى لفتح معابر إضافية، جعلت ولا تزال الخيارات ضيقة أمام روسيا لتحقيق مبتغاها، لعدة أسباب منها:

  • عدم تمكنها من فرض فتح معابر، لتكون متنفس للنظام، وفشلها في تعويمه، فضلاً عن تصاعد الضغط.
  • إغلاق المعابر بشكل تام، وخاصة في الجزء الشمالي الغربي منه، سيؤدي إلى عدم الاستقرار، وانهيار اتفاق وقف إطلاق النار الهش في إدلب، مما سيشكل سيناريو سيء لها وللنظام السوري.

ونتيجة لتصاعد الضغط مؤخراً، فلا خيار أمامها سوى القبول بحل وسط، والتي ربما تستغل هذه الورقة للمساومة على:

  •  تخفيف العقوبات من الجانب الأمريكي على النظام السوري.
  • السعي إلى صيغة جديدة مع كرد سوريا، لدفعهم إلى التفاهم مع دمشق، مقابل فتح معبر اليعربية، وعلى الرغم من عدم وجود تأكيد ملموس لذلك، إلا أن التطورات الأخيرة عزّزت هذه الاحتمالات.
  • الطلب من أنقرة بتنفيذ التزاماتها في اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب، كالدوريات المشتركة، التي أعاقها ميليشيات تابعة لتركيا، وسحب عملائها إلى جنوب الطريق الرئيسي من مدينة إدلب، مما يمنحها امتياز جغرافي ممتاز.
  • إظهار الجانب الإيجابي لها بالتعاون مع الولايات المتحدة، لإيجاد حلول للأزمة السورية معاً، بحيث يعزز موقفها بالمشاركة في أي مسار للحل، تحافظ فيه على مصالحها وحلفائها.

ضرورة فتح المعابر الإضافية “الاستثنائية”

         إن فشل مهمة المساعدات إلى سوريا، نتيجة الفيتو الروسي، والصيني أحياناً، عرّض المنظمات غير الحكومية لضغوطاتٍ شديدة، مما أجبرها لقطع امداداتها، سيما التي كانت تقدمها منظمة الصحة العالمية، فأصبحت المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية تواجه مهمات مستحيلة للحصول على مساعدات انسانية، أو إمدادات طبية، أو اقتصادية، خاصة في ظل الظروف الراهنة، وتقليص الروابط التقليدية بين المراكز الاقتصادية المحلية، والتعامل مع آليات اقتصادية جديدة. فبات التوجّه نحو المعابر الحدودية أمراً ضرورياً في ظل الظروف الراهنة، وما سبّب أغلاقها من أزمات على هذه المناطق.

ففي مناطق الإدارة الذاتية، عندما توقّف معبر اليعربية عن العمل عام 2020، شكّل ذلك وضعاً خطيراً بالنسبة للمنطقة، حيث أوقفت الأمم المتحدة عملياتها عبر المعبر، في الوقت الذي كانت تقدّم فيه إمدادات طبية إلى شمال وشرق سوريا عبر هذا المعبر، كل ثلاثة أشهر، حسب الحاجة؛ من خلال التعاون بين الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية ووكالات الإغاثة، التي تخدم المجتمعات المحلية. وفشلت جميع المهمات من هذا النوع، من حيث الكم والنوع، بسبب الفيتو. فكان من انعكاساتها:

  • منع وكالات الأمم المتحدة في دمشق من التواصل بحرية مع المنظمات غير الحكومية العاملة في هذه المناطق، والتدخل في عمليات التسليم.
  • تحويل أطنان من المساعدات الطبية من العراق إلى دمشق جوّياً، والتي لم تُشحن إلى مطار القامشلي إلا في وقت متأخر، وكانت نتيجتها انتهاء صلاحية الكثير منها، وفقدان أكثر من 20% من محتوياتها كمعدات، ومستلزمات، وأدوية طبية.
  • غياب التنسيق مع الإدارة والمنظمات على الأرض، سبّبَ في توزيع بعض تلك المساعدات بشكل عشوائي.
  • البيروقراطية بعد إغلاق المعبر، سبّبَ بتأخير شحنة المساعدات في ظل جائحة كورونا، كونها بقيت عالقة في الخارج، ونقص تلك الأدوية سبّب أزمة كبيرة نتيجة انتشار الجائحة، وفقدان العلاج.
  • تضاعف معدّل الوفيات في مخيمات اللجوء لعائلات عناصر تنظيم داعش، نتيجة تخفيض وصول المساعدات من الأمم المتحدة، وتقييدها بسبب قرار مجلس الأمن 2504، الذي حدّ من قدرة المرافق الصحية بنسبة تشغيل 40%.
  • صعوبة وصول اللقاحات، نتيجة قلق المنظمات غير الحكومية من التعامل مع الحكومة السورية.

إذاً، فالانتظار دون تحقيق أي نتائج في هذه القضية، يقوّض الاستقرار، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، ويتزامن معها تفاقم ظروف سكانها والمحتجزين في مناطقها. فإغلاق معبر اليعربية (تل كوجر) مثلاً، أوقف المساعدات عبر الخطوط التي شكّلت متنفّساً لسكان مناطق شمال وشرق سوريا، ورفع من درجة الخطورة، وأصبح يشير بشكل واضح إلى أن هذه المناطق وغيرها باتت أكثر ضعفاً، عندما تم تقليص هذه المعابر، أو تعتمد في خطوط امدادها على دمشق.

وفي الختام، يمكن القول إن الأمم المتحدة لعبت دوراً حيوياً عبر الحدود السورية، لتقديم المساعدات للمحتاجين، حسب حاجاتهم، وليس على أساس الوصول المحدود الذي تقدمه دمشق، فالأوضاع باتت هشّة مع غياب دور الأمم المتحدة، نتيجة إعلاق المعابر، والتي فقدت بموجبها الملاذ الآمن في شمال شرق سوريا، والآن في غربها، ومسار سدّ الثغرات والاستجابة للطوارئ والأزمات، مما يدفع المنطقة بسهولة إلى أزمة، ويضعها أمام كارثة انسانية، ويضغط على الدول المجاورة، بمزيد من النزوح، ويقوّي الجهات المتطرفة لاستغلال الوضع المأساوي.

فقضية فتح المعابر، لا بد أن تمتدّ إلى المزيد من المفاوضات رفيعة المستوى، والتنسيق بين الجهات لسبل أفضل لمساعدة المدنيين في بيئات الصراع، وفرصة للدول لتحقيق أهدافهم المتعلقة بتحسين الأمن الدولي والبشري، فتكيف الحكومات والجماعات المسلحة والمتطرفة مع تطورات الأحداث، واستخدام المساعدات لصالحهم، والتلاعب بها بشكل منهجي، جعل منها أداة للضغط، للوصول إلى أي هدف أو أي صفقة يرغبون بها، الأمر الذي يرسّخ اقتصاد الحرب على حساب المدنيين والاستقرار المحلي والإقليمي، ويساهم في سيناريو لصراع مستمر، وتهديد منتظم.

لذا، الضرورة باتت ملحّة لالتزام القوى الفاعلة للعمل ضمن هذه الحسابات، وزيادة الضغط، لفتح هذه المعابر، سواءً في شمال شرق سوريا، أو غربها. وعلى بعض القوى المؤثرة، كواشنطن وحلفائها من الدول، الضغط لتجديد التفويض عبر الحدود، فالأمر لا يتعلق بالمساعدات الانسانية فقط، وإنما الأمنية أيضاً، ويقوّض الاستقرار. ففي مناطق الإدارة الذاتية مثلاً، لا يكون التعامل على أساس عمل انساني فقط، وإنما تخاطر واشنطن بتعريض حلفائها على الأرض، ومناطق سيطرتها لخطر أكبر. فبإمكان هذه الدول تحويل المفاوضات إلى إجراء لبناء الثقة مع موسكو وحلفائها، ويفتح الباب للمزيد من المفاوضات السياسية في سوريا، وتجديد المصداقية الدبلوماسية لهذه القوى في المنطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى