قضايا راهنة

مضامين ودلالات رسالة “بايدن” العسكرية في سوريا

عند الحديث عن استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تبدو كسلسلة طويلة، لا سيما في المناطق الساخنة، إلا إن السياسات اختلفت في تنفيذ هذه الاستراتيجية، التي ارتبطت بالعديد من قضايا العالم. وتعد القضية السورية من أهم تلك القضايا، التي سادها الغموض في سياسة الرئيس الأمريكي الجديد قبل توليه الإدارة، حيث أثارت العديد من المخاوف والشكوك، وخاصة لدى الحلفاء؛ هذا الارتباك في السياسة الأمريكية سارع في وتيرة الأحداث؛ ومنح الفرصة للخصوم للسيطرة، لتعزيز مواقعهم، وتقوية نفوذهم إلى حد ما. فالرهان كان حول الضعف الأمريكي في سوريا، والوجود غير الكافي، والانسحاب التدريجي.

إلى أن جاءت الضربة الأولى من الإدارة الأمريكية الجديدة في سوريا، لتعطي إشارة حول طريقة تعاملها على الأرض، لتبديد مخاوف شركائها في المنطقة. ولتبدو كرسالة تأكيدٍ على قدرتها في حسم الأمور. ففي ليل الخميس 25 فبراير، نفذت الولايات المتحدة ضربة لمواقع الفصائل الموالية لإيران في شرق سوريا. استهدفت فيها البنى التحتية، التي تستخدمها ميليشيات مدعومة من إيران وخاصة كتائب حزب الله، أسفرت عن تدمير ثلاث شاحنات ذخيرة قادمة من العراق إلى نقطة حدودية غير شرعية، في مدينة البوكمال السورية. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، قُتل ما لا يقل عن 22 من عناصر المليشيات المسلحة، جميعهم من الحشد الشعبي. وقد تبيّن أن لهذه العملية أبعاداً أكثر من كونها رسالة موجهة لإيران كونها حملت رسائل ودلالات متعددة يمكن تحليلها كالتالي:

الفصل بين التصرفات التخريبية لإيران والنهج الدبلوماسي

كثيراً ما أُشيع عن رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة في إيجاد آلية لإحياء الاتفاق النووي الايراني عام 2015، إلا إن لجوء هذه الإدارة إلى القوة المسلحة كانت مفاجئة غير متوقعة لإيران، فهي بذلك أكدت استخدامها للقوة العسكرية، كأداة ردع أساسية في أجندتها للتعامل مع الملف الإيراني. وأوصلت رسائل أهم من الضربات نفسها، بأن إيران ووكلائها ليسوا بمأمن في أية منطقة كانوا، ولا يمكنهم فعل ما يريدون، مع إبقاء باب المحادثات مفتوحاً.

وتأتي هذه الضربة أيضاً بمثابة نهج أمريكي جديد للتعامل مع الملف الإيراني، فبالرغم من نهجها الدبلوماسي، إلا إنها لن تتهاون في معاقبة من يتجاوز الخطوط الحمراء، أي على أساس الفصل بين تصرفاتها التخريبية في المنطقة وملفها النووي.

لماذا سوريا…؟

الضربة الأمريكية الجديدة في سوريا نُفذت بالتزامن مع إجراءات دبلوماسية، ومساهمات استخباراتية للحكومة العراقية. وهي تبدو كأسلوب جديد للرئيس الأمريكي الحالي، باختيار مكان الضربة بعناية للتعامل مع “ايران”. بالرغم من أن القصف جاء رداً للانتقام على عمليات نفذتها الميليشيات الموالية لإيران داخل الأراضي العراقية على المصالح الأمريكية، إلا أن اختيار مكان الضربة في سوريا جاء لأسباب عديدة كتجنب أي رد فعل من الجانب الإيراني قد يخل بالتوازن القائم في العراق، ويؤدي إلى مواجهة أوسع، نظراً للتواجد الإيراني المكثف على الصعيدين السياسي والعسكري في العراق. كما أن الابتعاد عن الأراضي العراقية جاء لتجنيب الحكومة في بغداد أي إحراج سياسي أمام إيران والابتعاد عن إمكانية فتح جبهة جديدة قد يصعب احتوائها لاحقاً. كما حصل سابقاً عندما نفذت الولايات المتحدة ضربة عسكرية داخل الأراضي العراقية، أدت لمقتل قاسم سليماني، والتي نتج عنها توترات كبيرة بين الميليشيات الشيعية وحكومة بغداد. الأمر الذي ألقى بظلاله على المناقشات السياسية داخل البرلمان العراقي، والتي انتهت بمطالبة الحكومة لإخراج القوات الأمريكية من العراق. وهي بذلك تجنبت مثل هذه الهزيمة الدبلوماسية في الشرق الأوسط، فاختارت سوريا لتنفيذ ضرباتها ضد ميليشيات تابعة لإيران، الأمر الذي أظهر جلياً الاختلاف بين أسلوب إدارة بايدن وإدارة ترامب في التعامل مع الأهداف واختيار توقيت ومكان الضربات بعناية.

وفي رده على الضربة الأمريكية الأخيرة في سوريا، دعا وزير الخارجية الروسي “لافروف” إلى عدم استخدام الساحة السورية لتصفية حسابات جيوسياسية. في حين أن واشنطن بضربتها العسكرية في سوريا بعثت رسائل أخرى؛ أكثر من أن تبدو تصفية حسابات.

فالضربة الأمريكية في سوريا بالتحديد تأتي كرسالة سياسية وليست عسكرية. وبتنفيذها في سوريا، فهي تثبت أنها ليست بمعزل عن أجندة الرئيس الجديد. وهو ما أشار إليه لافروف في تصريحاته الأخيرة، بأن بعض التقارير تؤكد أن الولايات المتحدة لا تنوي الانسحاب من سوريا على الاطلاق؛ وتأكيداً منها على الاستمرار بالمشاركة في المنطقة، بما يضمن حماية مصالحها وحلفائها. كما أنها تختبر علاقة الولايات المتحدة مع القوى الأخرى في سوريا. وترتيب أي اتفاق برعاية أمريكية، بعد ما فشلت مفاوضات أستانا وجنيف، والتجاهل المتعمد للولايات المتحدة من قبل كل من الأتراك والروس، في أية مفاوضات. مع تراجع دورها في ظل الإدارة السابقة؛ وهنا يأتي الرد الأمريكي، بمضيّه في لعب دور أكثر حضوراً في الساحة السورية، في مواجهة القوى الأخرى، وبشكل خاص روسيا، ضمن إطار تحدٍ جديد لها، مرتبط بسياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، بإثباتها لسياسة فرض الأمر الواقع على الأرض، وتاكيداً لتحركها بالطريقة التي تختارها، وخاصة إذا كانت المنطقة المستهدفة، تقع خارج مسؤولية روسيا، وضمن نطاق المظلة الأمريكية. وهذا ما اعتبرته موسكو مؤشر سلبي لسياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، ودعت لاستئناف التواصل معها بشأن سوريا لتوضيح موقف هذه الإدارة؛ فالوجود الروسي حاضر جزئياً في المنطقة بتشكيلاتها العسكرية الموالية لها، كالفيلق الخامس، ولواء القدس، وعناصر تابعة لقواتها، وأي تحرك أمريكي من شأنه أن يترك عواقب غير إيجابية على التنسيق الروسي الأمريكي، الأمر الذي سيؤثر سلباً على الوجود الروسي في المنطقة، وأي رد من أحد الطرفين الأمريكي أو الإيراني سيؤثر على الوجود العسكري الروسي هناك، وقد يمتد تأثيره إلى باقي المناطق.

ومن الأسباب الأخرى لاختيار سوريا كمكان لتنفيذ الضربات الأمريكية، أنها منطقة تركز جيوسياسي لإيران، لذلك فمن المستبعد أن تغامر بتعريض مصالحها ووجودها هناك للخطر لغايات آنية. فالتواجد والنفوذ الايراني في شرق سوريا لا يزال ضعيفاً، نتيجة تعرض ميليشياتها المتمركزة هناك لضربات أمريكية واسرائيلية متكررة، كما أن هذه المنطقة تأثرت بالهجمات المتكررة لتنظيم داعش، مما أفقدها الكثير من قوتها. لذا فإن أي تحرك عسكري إيراني في هذه المنطقة التي تتميز بانكشاف عسكري للقوات الإيرانية سيكون هدفا سهلاً للولايات المتحدة.

أخيراً، يمكن القول بأن الضربة الأمريكية في سوريا حملت رسائل متعددة منها أن الساحة السورية بالرغم من تعقيدات مشهدها، إلا إنها أيضاً ليست المكان الآمن لأية قوى قد تهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها؛ وجاءت كدلالات لصياغة سياسة أمريكية جديدة في سوريا، بعدم ترددها في استخدام القوة، بعكس ما روّج له خصومها، بعودة سوريا إلى زمن المفاوضات، وانتهاء حقبة الضربات العسكرية التي كانت تنفذها الولايات المتحدة على وكلائهم في المنطقة سابقاً. وإظهار قدرة الإدارة الجديدة على تنفيذ أي عمل عسكري، ورسالة بأنها لم تخرج من المنطقة، وتعمل مع شركائها على الأرض لتوفير الخيار الأفضل لاحتواء أي تحدٍ في المنطقة، وخاصة التحديات الجيوسياسية؛ لذا قد تشهد موازين القوى في سوريا تغييراً في عهد الإدارة الامريكية الجديدة، لفرض رؤيتها للحل السياسي أو على الأقل تغيير قواعد اللعبة، والحضور، حتى من بوابة الضربات العسكرية.

زر الذهاب إلى الأعلى