قضايا راهنة

إصدار فئة الـ (5000 ليرة) بين مبررات المصرف المركزي وواقع الاقتصاد السوري

تشكل النقود واحداً من أهم عوامل الاستقرار الاقتصادي داخل البلدان المختلفة، وتعكس قوة النقد عادة قوة الاقتصاد الوطني للبلد المعني، فعندما نتحدث عن قوة الدولار الأمريكي؛ أو الين الياباني؛ أو اليورو الأوربي، فإن ذلك انعكاس واضح لقوة اقتصادات تلك البلدان، ومؤشر على أن النقود تؤدي وظائفها بالشكل السليم، وتشكل جزءً رئيسياً من المنظومة الاقتصادية، حيث يرتبط النظام النقدي للبلد بالجوانب الاقتصادية الكلية الأخرى، ويؤثر على العديد من مؤشرات الاقتصاد الكلي (Macroeconomic) كمستويات الأسعار، والتشغيل، وعجز الموازنة العامة، وقيم صفقات التبادل التجاري، وغيرها.

واليوم، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي تعيشها سوريا، بعد عشر سنوات من الحرب، والتدهور الكبير في قيمة الليرة السورية، والعقوبات الغربية الصارمة المفروضة على الحكومة السورية، يطرح المصرف المركزي عملة جديدة من فئة الـ 5000 ليرة سورية، ليؤكد بذلك مخاوف المجتمع السوري، من تهاوي قيمة عملته المحلية، وعدم قدرة هذه العملة على الصمود، جراء الواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد.

كيف برر المصرف المركزي عملية الإصدار

في بيانه الصحفي، حاول المصرف المركزي أن يقدم مبرراته غير المعقولة وغير المقبولة، لا وفق النظريات الاقتصادية الخاصة بالنقد، ولا وفق واقع الاقتصاد الوطني السوري المنهك تماماً. فقد جاء في بيان المصرف أن طرح فئة 5000 ليرة جاء “لتلبية توقعات احتياجات التداول الفعلية من الأوراق النقدية، وبما يضمن تسهيلاً في المعاملات النقدية، وتخفيض تكاليفها، ومساهمتها بمواجهة آثار التضخم” ورأى المصرف بأن “الوقت أصبح ملائماً وفق المتغيرات الاقتصادية الحالية لطرح الفئة النقدية الجديدة” كما أضاف البيان الصادر عنه، مبرراً آخر، وهو أن الإصدار الجديد جاء بهدف “التخفيض من كثافة التعامل بالأوراق النقدية، بسبب ارتفاع الأسعار خلال سنوات الحرب والحصار”.

ورغم تلك المبررات، التي ساقها المصرف المركزي، إلا أن الشمس لا يمكن حجبها بالغربال، فتهاوي قيمة الليرة السورية لأسباب كثيرة، بات أمراً ظاهراً للعيان، وواضحاً وضوح الشمس، وهو أمر يعكس ولا شك ضياع الاستراتيجيات الاقتصادية في البلاد، وضعف السياسات النقدية التي اتبعها المصرف المركزي، ومجلس النقد والتسليف، خلال سنوات الأزمة، بهدف الحفاظ على قيمة الليرة واستقرارها. فكيف لواحدة من أهم محفزات التضخم، وهو إصدارات نقدية جديدة بدون رصيد مالي من العملة الصعبة، أو تغطية إنتاجية من السلع والخدمات، كيف لها أن تواجه آثار التضخم، كما جاء في بيان المصرف، وهي إحدى أهم أسبابه أصلاً. فألف باء الأدبيات الاقتصادية تؤكد على أن أية اصدارات نقدية بدون رصيد، أو عرض إنتاجي مقابل، سيتسبب بزيادة في مستويات الأسعار، وبالتالي الرفع من معدلات التضخم، مما يدفع بقيمة العملة المحلية نحو المزيد من التدهور.

وهذا ما تؤكده النظرية الكمية للنقود، التي وضع أُسسها الاقتصادي الأميركي إرفينغ فيشر، والتي تقوم على معادلة رياضية عرفت “بمعادلة فيشر” (Fisher Equation)، والتي تنص على أن:

كمية النقود المتداولة × سرعة الدوران = الحجم الكلي للمبادلات × متوسط الأسعار

وفي الحالة السورية، والاقتصاد الذي يعاني من شبه توقف في الإنتاج، وقلة المعروض السلعي المحلي، فإن أية زيادة في كمية النقود لا شك سيقابلها ارتفاعات في مستوى الأسعار داخل الاقتصاد المحلي. وهذا ما شهده الاقتصاد السوري في أعقاب طرح الفئة النقدية 2000 في النصف الثاني من العام 2017 فقد وصل معدل التضخم من ذلك التاريخ وحتى الآن 480% على أساس حساب سعر الصرف اليوم بـ 2900 ليرة للدولار الواحد.

وفي كل مرة يطرح المصرف المركزي فئات نقدية جديدة، يكون الهدف الرئيسي منه هو تمويل عجز الموازنة العامة للدولة، ويقدم لذلك بأن هذه الفئات الجديدة ستحل محل العملة الورقية المهترئة التي سيتم سحبها من السوق تدريجياً، الأمر الذي لا يحدث في المستقبل القريب، بل يحدث كنتيجة تلقائية لقانون جريشام والذي يقول بـ ” أن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق”، ووفقاً للتحليل الذي قام به السير الانكليزي توماس جريشام، فإن هذا يحدث نتيجة انخفاض قيمة العملة، إذ تزداد سرعة دوران الفئات النقدية الرديئة في التداول، مع احتفاظ الجمهور بالعملات الجيدة. وأن تلك الفئات النقدية تختفي من التداول، لعدم قدرتها على إيفاء متطلبات عملية التداول، ذلك أنها لم تعد ذا قيمة بذاتها في السوق. ولو كان بنيّة المصرف المركزي القيام بذلك، لقام بسحب تلك الفئات، أو كميات كبيرة منها، قبل عملية الإصدار النقدي الجديد.

يبقى هنا أن نذكر، أنه ونتيجة للانخفاض الكبير في قيمة الفئات النقدية الموجودة في التداول، بات الناس يتكبدون عناء حمل ونقل كميات كبيرة من العملة، وأن الفئة النقدية الجديدة لا بد ستوفر جزءاً من ذلك العناء، وتسهل على الأفراد حمل ونقل النقود.

الأسباب الحقيقية وراء طرح فئة الـ 5000 ليرة

تشكل قوة العملة المحلية إحدى أهم عوامل الثقة بالاقتصاد الوطني من جهة، ومن جهة ثانية هي واحدة من أهم أسس الاستقرار الاقتصادي في البلد المعني. حيث تُشكل السياسة النقدية، إلى جانب السياسة المالية، الدعامتين الأساسيتين للسياسات الاقتصادية داخل الاقتصادات الوطنية لمختلف البلدان، وإن أي اختلال في السياسة النقدية، أو في استخدام أدواتها التقليدية أو الحديثة بالشكل غير السليم، لا شك سيفضي إلى اختلالات متعددة في بنية الاقتصاد، ومؤشراته الرئيسية، وخاصة في معدلات النمو والتضخم والإنتاج والتوظيف والتبادل، وغيرها.

وإذ يعاني الاقتصاد السوري ما يعانيه من ضعف كبير في مؤشراته الرئيسية، وعجوزات في الميزانين التجاري والمدفوعات، والعجز في الموازنة العامة، والتراجع الكبير في قيمة العملة المحلية، والتزايد في حجم الإنفاق العام، ومتطلبات الإنفاق الجاري، فإن كل ذلك هي عوامل دفعت بالحكومة السورية إلى إصدار نقدي جديد من فئة الـ 5000 ليرة سورية.

  • الانخفاض الكبير في المعروض السلعي من الإنتاج المحلي

شهدت معظم القطاعات الاقتصادية الرئيسية في سوريا، تراجعات هائلة خلال السنوات العشر الماضية من عمر الأزمة، بسبب توقف المشاريع، والأنشطة الإنتاجية، والكثير من المعامل، والمصانع داخل البلاد، الأمر الذي تسبب بشح كبير في السلع والمنتجات المتوافرة في الأسواق السورية. هذا، وقد انعكس التراجع في حجم الناتج المحلي، في عدم قدرة الاقتصاد الوطني على سد احتياجات الأسواق المحلية، من العديد من السلع، وخاصة الاستراتيجية منها، كالمحروقات، والقمح، مما كان يدفع بالحكومة السورية إلى الاستيراد، الأمر الذي شكل ضغطاً على ميزان المدفوعات، وزاد من مستوى العجز فيه، وساهم بانخفاض في قيمة الليرة السورية. وباتت معه الفئات النقدية الصغيرة غير قادرة على القيام بواحدة من أهم وظائف النقود، وهي أن النقد مخزن للقيمة، وهي المعادل العام للقيم في السوق، ذلك أن تلك الفئات لم تعد قادرة على المبادلة مع السلع الموجودة في السوق، والتي تفوق بقيمتها عن قيمة الفئة النقدية نفسها (كفئة المئة ليرة أو المئتي ليرة).

  • عجز الموازنة العامة للدولة

شهدت الموارد المالية للدولة تراجعات كبيرة، خلال سنوات الأزمة التي ألمت بالبلاد، فبعد أن كانت 660 مليار عام 2010، أي ما كان يعادل وقتها (13.2 مليار دولار) فقد وصلت هذه الإيرادات إلى 1.73 مليار دولار فقط، وفق موازنة السنة الحالية 2021، التي وصلت لـ 8500 مليار ليرة سورية، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم العجز في الموازنة، والبالغ 3.484 ألف مليار ليرة. ويعود ذلك طبعاً إلى انعدام الإيرادات المالية للنفط، وتراجع حجم التحصيلات الضريبية، والنقص الكبير في حجم الرسوم الجمركية، أو رسوم الخدمات الأساسية، وتراجع واردات السياحة للصفر، وارتفاع مستويات التضخم إلى أرقام قياسية، ودورها في تآكل موارد الموازنة العامة، وأخيراً العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الغرب والولايات المتحدة، على الحكومة السورية، والتي كان آخرها قانون قيصر.

وأمام هذا التراجع الهائل في إيرادات الدولة المالية، فإنه من المؤكد أن النسبة والقيمة العالية في عجوزات الموازنة العامة، تعكس بلا شك ضعف تلك الإيرادات، واتباع الحكومة سياسة توسعية في الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الجاري، والذي عادة ما يتم عن طريق ما يسمى التمويل بالعجز، أي الاستدانة من المصرف المركزي، والذي يقوم بدوره بإصدارات نقدية جديدة، وبدون أي رصيد من العملات الأجنبية، أو المعادن الثمينة، أو أية تغطية إنتاجية، والتي غالباً ما تذهب بمعظمها لتمويل العمليات الاستهلاكية، وبالتالي تحدث آثاراً تضخمية كبيرة داخل الاقتصاد الوطني.

  • تدهور قيمة الليرة وارتفاع مستويات التضخم

تهاوى سعر صرف الليرة السورية، بين بداية عام2011 وبداية عام 2021، بنسبة كبيرة، وصلت إلى 5700% حيث تجاوز سعر الصرف اليوم، الرابع والعشرون من شهر يناير كانون الثاني، مبلغ 2900 ليرة/ دولار، بعد أن كان بحدود 50 ليرة فقط عام 2011، وبذلك تكون الليرة قد فقدت 98.27% من قيمتها حتى الآن، وأعتقد أن هذا سبب كافي للاستغناء عن الفئات النقدية الصغيرة، التي لم تعد تحقق أي مقابل لها من القيم الأخرى في السوق، والقيام بإصدارات نقدية من فئات عالية، كمؤشر أو اعتراف ضمني من قبل الحكومة بالتدهور الكبير الحاصل في قيمة عملتها المحلية.

حيث لم تعد الفئات الصغيرة، قادرة على تلبية احتياجات التبادل النقدي، وباتت تشكل عبئاً على كاهل الحكومة، إذا ما أرادت إعادة طباعتها، وعبئاً على كاهل الأفراد في تحمل عناء حملها ونقلها، وذلك طبعاً بسبب ارتفاع مستويات أسعار السلع، والخدمات، ومعدلات التضخم العالية، التي بات معها الفرد بحاجة لحمل كميات كبيرة من النقد، لإتمام عميات الاستهلاك اليومي التي يقوم بها. الأمر الذي برر من خلاله الحكومة إصدار الفئة النقدية الجديدة، وبالتالي توفيرها لجزء من تكاليف طباعة الفئات الأقل، وتخفيف حزمة النقود التي يضطر الأفراد لحملها.

متى تطرح الحكومات فئات نقدية جديدة

تطرح الحكومات فئات نقدية جديدة في حالات معينة، ذلك أن عملية الإصدار النقدي تتصف بحساسية عالية، إزاء التوازنات المختلفة داخل الاقتصادات الوطنية للدول. وهذه الحالات تأتي في سياق استبدال فئة معينة بفئة جديدة، بسبب اهتراء الفئة الأولى، ويجب أن تكون الكمية المطروحة في هذه الحالة تساوي الكمية المسحوبة، حتى لا تحدث آثاراً تضخمية داخل الاقتصاد الوطني.

كما يمكن أن يكون الإصدار النقدي لدواعي تخفيض قيمة العملة، لغايات تحسين واقع ميزان المدفوعات، وتخفيض العجز فيه إن وجد، كنتيجة لزيادة حجم الصادرات، مقابل تخفيض حجم المستوردات، وهذه الحالة تتشكل نتيجة لملامح القوة في الاقتصاد الوطني، إذا ما شهد قطاعه الإنتاجي ارتفاعات ملموسة في معدلات الناتج المحلي، وتشكَّل فائض كبير من المعروض السلعي، يمكن توجيهه إلى التصدير.

كما قد تضطر الحكومات، إلى القيام بإصدارات نقدية جديدة، في حالة الأزمات المختلفة، كالحروب، أو الكوارث، ونتيجة لانخفاض إيراداتها المالية بسبب تلك الأزمات أو الكوارث، ولكن ذلك يجب أن يحدث ضمن ضوابط ومعايير محددة، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة الاقتصاد الوطني، وبنيته الإنتاجية، ومدى حالة الاكتفاء الموجودة فيه، وقدرته على تغطية الزيادة في الطلب الكلي، الناجم عن زيادة العرض النقدي، من خلال العودة السريعة للإنتاج، ورفع معدلات نمو الناتج المحلي، لتوفير العرض من السلع والخدمات، لمقابلة الطلب المرتفع في السوق. إضافة إلى ذلك فإنه من الضروري معالجة مستويات الدخول والأسعار، ومدى تناسبها مع العرض النقدي الجديد.

آثار إصدار فئة النقد (5000 ليرة)

القاعدة الأساسية في سياق زيادة العرض النقدي تقول: بأنه للحفاظ على قيمة العملة، يجب أن لا يزيد العرض النقدي عن حاجة الاقتصاد الوطني، وكمية المعروض الإنتاجي فيه، حتى لا يُحدث ذلك آثاراً تضخمية ترفع من مستويات الأسعار، وتخفض من قيمة العملة الوطنية، ويمكن أن نلخص الآثار بما يلي:

  • ضرب للثقة المتبقية لدى المواطن بالليرة

لا شك أن طرح فئة نقدية كبيرة (5000 ليرة) داخل اقتصادٍ، يعاني ما يعانيه من الضعف والتقهقر، سيُحدث ارتدادات اجتماعية، ويؤثر على الحالة النفسية للأفراد، تجاه فقدان ثقتهم بعملتهم الوطنية، خاصة وأن الورقة الواحدة من هذه الفئة تساوي فعلياً أقل من 2 دولار في السوق السوداء، وحوالي 4 دولارات وفق سعر الصرف الرسمي للمصرف المركزي. وهذا الأمر سيشكل حالة من التخوف، وزعزعة الثقة تجاه الليرة، خاصة وأن الأسعار داخل الأسواق تقيَّم بالدولار، ثم يتم تقريشها إلى الليرة. وفي جانب هام آخر فإن وسطي الرواتب والأجور اليوم، والبالغ تقريباً 50 ألف ليرة سورية، سيستلمه المواطن السوري 10 ورقات من فئة الـ 5000، مما سيشكل لديه حالة نفسية من الخوف إزاء قدراته الشرائية، ومدى امكانياته في تأمين مستلزماته الحياتية.

  • انخفاض أكثر في قيمة العملة المحلية، وتدهور القدرات الشرائية للأفراد

من الملاحظ جداً أن الليرة السورية استمرت بالانخفاض والتدهور، حتى بات الأمر خلال السنوات الماضية يشكل خطراً اقتصادياً كبيراً على الأفراد، ودفع بإمكانياتهم وقدراتهم الشرائية نحو الانخفاض الكبير، وزاد من معدلات الفقر بينهم، كما أنها شكلت تهديداً خطيراً للركائز الأساسية للحكومة القائمة، ولكيانها الاقتصادي، ولأحد أهم أسس ومقومات الحفاظ على بقايا الاقتصاد الوطني واستقراره. ولا ريب في أن الإصدار النقدي الجديد سيقود إلى تراجعات جديدة في قيمة العملة المحلية، نتيجة زيادة حجم الطلب الكلي، الذي سينجم من زيادة العرض النقدي، وعجز الاقتصاد الوطني عن تلبية احتياجات الأسواق من السلع والخدمات والمنتجات، وخاصة الاستراتيجية منها. ومما سيزيد من هذه الاحتمالية، أن جل استخدامات الزيادة في العرض النقدي تذهب عادة لعمليات الانفاق، نتيجة العجوزات الكبيرة في الموازنة العامة، بدلاً من استخدامها في العمليات الإنتاجية، حيث تراجع الإنفاق على التنمية بين عامي 2011 و2019 بنسبة 60.3%، كما تراجع الناتج المحلي بأكثر من الثلثين في عام 2019 مقارنة بعام 2010، وهذا يدل على أن النقد الذي يعرض في السوق، عادة ما يتم استخدامه في عمليات الاستهلاك، مما سيساهم في ارتفاع معدلات التضخم، التي تترك أثراً على انخفاض قيمة الليرة، وبالتالي ارتفاعاً في تدهور سعر الصرف، الأمر الذي سينعكس ولا شك ارتفاعاً في مستوى الأسعار، ويقلل من القدرات الشرائية للأفراد، ويدفع بدخولهم نحو التآكل، وبالنتيجة انخفاضات أكبر في مستويات المعيشة.

وقد تصبح هذه الأثار خفيفة، إذا ما عمل المصرف المركزي على سحب فئات نقدية أخرى، مقابلة لحجم النقد المُصدَر الجديد، لأن ذلك كفيل بالحفاظ على حجم الكتلة النقدية المتداولة، وضبط حركة الطلب داخل الاقتصاد الوطني.

خاتمة القول

يحضرني مثال، يمكن إيراده في هذا السياق، وهو أن عملية الإصدار النقدي بدون تغطية إنتاجية، أو أرصدة عملات صعبة، ومعادن ثمينة، تشبه إلى حد كبير كمن يصب الماء على الحليب لزيادة كميته، وبالتالي إيرادات بيعه، ولكن الاستمرار بسكب الماء من جهة سيفقد الحليب صفاته وقيمته لأنه سيصبح مغشوشاً، ومن جهة ثانية سيتوقف المستهلكون عن شرائه، وهذا المثال ينطبق تماماً على زيادة الإيرادات لتمويل الإنفاق العام، عن طريق الإصدار النقدي، فمع كل زيادة تفقد النقود جزءاً من قيمتها، ويفقد الناس ثقتهم بها، ويعرضون بالنهاية عن حيازتها، واستبدالها إما بعملات أجنبية أو شراء العقارات، والأصول الثابتة، أو المعادن الثمينة، لأن عملتهم مع الوقت ستفقد وظيفتها الأساسية كمخزن للثروة ومعادل للقيم.

وباعتقادي، ودائماً من الأجدى بالحكومة السورية، وبدلاً من معالجة مشكلة النقص في الإيرادات العامة، عن طريق رفع الأسعار، أو التمويل بالعجز (الاستدانة من المصرف عن طريق إصدارات نقدية جديدة)، حريٌ بها أن تبحث في خلق محفزات الإنتاج، ودوران عجلته من جديد، لتقوية الجهاز الإنتاجي، بما يعيد القدرة على إعادة بناء هيكلية جديدة للسياسات النقدية، باتجاه قيامها بدورها الاقتصادي، في الدفع نحو إحداث توازنات حقيقية في معدلات الإنتاج والتشغيل، والتوسع في الاستثمار، وإيتاء دورها في تحقيق قيم المبادلات التجارية، وقيام النقد بوظائفه الرئيسية، كمخزن للثروة ومعادل عام للقيم في السوق. كما يتوجب البحث في إمكانيات زيادة الإيرادات المالية للدولة؛ من منابع حقيقية، كزيادة حجم التحصيلات من الضرائب، والرسوم، والفوائض الاقتصادية للشركات العامة؛ التابعة للدولة، والعمل على رفع العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على البلد.

زر الذهاب إلى الأعلى