قضايا راهنة

سوريا … ملفات ساخنة على طاولة بايدن

رياح التغيير في الولايات المتحدة بعد ترامب، ستحمل معها الكثير من الخيارات. فربان المركب الجديد، بخبرته السياسية، التي تمتد لأكثر من خمسين عاماً، حتماً ستكون له بصماته، ليس على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل وفي العالم أجمع. والرئيس، الذي ورث من سلفه الكثير من الإشكالات في السياسة العالمية عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً، قد تكون له خياراته الملزمة بالتصحيح حيناً، أو تلك التي قد تتماهى مع رغبات المؤسسات الأمريكية أحياناً أخرى. فالسياسي الديمقراطي المخضرم، هو ابن لتلك المؤسسات، وواحد من عرابي سياساتها في فترات متعددة.

احتواء النفوذ الإيراني هاجس أمريكي متلاحق

منذ بدء حملته الانتخابية؛ بدأت الأطراف المتصارعة في سوريا، وتلك الفاعلة على الأرض، بإعادة حساباتها بشكلٍ مضطرب، ولكن يبقى النفوذ الإيراني المتمدد في سوريا، ومن قبلها في العراق ولبنان، وإمداد حلفائها والجماعات غير الدولتية هناك بالمعدات والأسلحة، الهاجس الذي يقض مضجع الولايات المتحدة واسرائيل معاً، وقد يشعر الربان الجديد بأن هذا النفوذ قد يكون أحد أهم أوراق التفاوض حول الاتفاق النووي إذا ما قرر الرئيس العودة إليه بطريقة أو بأخرى، وفق خياراته السياسية في المنطقة.

إذاً، المسألة الأصعب التي قد تواجه الرئيس الأمريكي الجديد في سوريا، هي تمدد النفوذ الإيراني وانتشار مواقعه العسكرية على الجغرافية الجنوبية لسوريا، أي بمحاذاة حدود الحليف الارتكازي الأول للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط “اسرائيل”، ومما يصعب من هذه المسألة أكثر أن التدخل العسكري الروسي في سوريا ألزم موسكو بالتحالف مع إيران، ومن ورائها الميليشيات الطائفية التي تستخدمها، كجماعة حزب الله وميلشيا لواء القدس وغيرها.(……)

في التعامل مع سياسات موسكو على الأرض

مع تعقد المشهد السياسي والوقائع على الأرض، معاً في سوريا، نتيجة السياسات التي تنتهجها روسيا، والداعمة لإحياء الحكومة السورية من جديد، واللعب بالورقة التركية والمعارضة المسلحة، بعد أن أيقنت أنه لا يمكن تقليص النفوذ الإيراني في البلاد، فقد تكون المهمة أمام بايدن قد باتت صعبة، خاصة بعد البلبلة التي أحدثها سابقهُ ترامب، بقرار انسحابه من سوريا، ثم العودة مرة أخرى تحت ذريعة حماية المنشآت النفطية.

ومما يجسد هواجس روسيا تجاه خطورة النفوذ الإيراني، توافقها مؤخراً مع تركيا على مناطق شمال وشرق سوريا، للضغط عليها، إلا أن إيران ونتيجة لتحالفها القوي مع المؤسسة الرسمية في سوريا، وتغلغلها داخل أقبية القرار السياسي والعسكري السوري، لم ترضخ لمثل هذه الضغوطات، واستمرت في توسيع نفوذها، وفي دعمها للحكومة السورية التي ترى فيها واحداً من أهم أعمدة محور الممانعة، ويجب الحفاظ عليه كقوة رديفة لها إقليمياً. ولهذا الأمر جانبان متوازيان: الأول هو أن موسكو لا تريد أن يستعر الصراع الإيراني الإسرائيلي على الأرض السورية، وتريد الاحتفاظ بقيادة سورية موالية لها الآن، ولاحقاً بأي شكل كان كون سوريا أعادت موسكو نوعاً ما إلى المسرح الدولي كأحد مديري السياسات والقرارات الاستراتيجية الفاعلة. الثاني أن قضية التحكم بالصراع الاسرائيلي الإيراني ليست بيد موسكو وحدها، فلكل من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا استراتيجيات إلى جانب النوايا والغايات المرحلية، التي قد تخلق مواقف إشكالية تجاه هذه القضية. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل صعدت من حدة خطابها تجاه النوايا النووية الإيرانية وأنه إذا لزم الأمر فقد تشعل معها حرباً مباشرة، وهذا ما قد يدفع بالصراع نحو الأراضي السورية، وهو الأمر الذي لا تحبذه موسكو في سياق تدخلها الحالي في سوريا.

التقارب الخليجي ضمن الرؤية الأمريكية

من زاوية أخرى، يمكننا النظر إلى التقارب الخليجي الذي حصل منذ أيام أنه جاء ليدخل ضمن استراتيجيات المحاور التي اتبعتها القوتين الكبيرتين موسكو وواشنطن في سوريا، فنحن نتذكر أن إدارة ترامب كانت تسعى لتشكيل تحالف واسع من دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، بهدف مواجهة تمدد النفوذ الإيراني من جهة، ولمحاربة القوى التي تراها الولايات المتحدة قوىً إرهابية من جهة ثانية. لأنه بدون هذا التقارب، أو ما تمت تسميته بالمصالحة الخليجية بين قطر والمملكة العربية السعودية، لم تكن هناك أية نتائج مرضية لتقاربات الحكومات العربية واسرائيل بعد توقيع اتفاقية “ابراهيم”، وباعتقادنا فإن السيد بايدن سيعمل على تقوية هذا التحالف وزج اسرائيل فيه بقوة أكبر، حتى لا تترك الساحة فارغة لكل من تركيا أو إيران، اللتان تعملان بلا هوادة لتبوّء مراكز إقليمية عالية، على المستوى الاستراتيجي تارة، وتارة أخرى على مستوى حصد نتائج سياسية عريضة في تشابكاتها، سواءً الاقليمية أو عن طريق ابتزاز الولايات المتحدة الأمريكية حول الملفات ذات الرؤى المختلفة بينهم.

اشكالية قسد ما بين أمريكا وتركيا

وهنا يأتي ملف قوات سوريا الديمقراطية، كواحد من تلك النقاط المتشابكة والخلافية بين الولايات المتحدة وتركيا، فالأخيرة ترى في هذه القوات خطراً على الأمن القومي التركي، وامتداداً إقليمياً لحزب العمال الكردستاني؛ الذي تعتبره تركيا منظمة إرهابية، في حين ما تزال الولايات المتحدة، ومن ورائها قوات التحالف تدعم هذه القوات كشركاء حاربت الإرهاب معهم، وكانت إحدى أهم أعمدة إخفات نيرانه على الأرض، والتي تمثلت بالدرجة الأولى بتنظيم الدولة ” داعش”. وهذا الملف سيشكل واحداً من التحديات الهامة أمام السيد بايدن، فالاستغناء عن هذه القوة المنظمة، والتي تبلغ عشرات الآلاف، ليس بالأمر الهيّن، خاصة في ظل عدم توفر البديل في مناطق شمال وشرق سوريا، الأمر الذي إذا ما حدث؛ سيترك فراغاً أمنياً كبيراً، قد يفتح الباب أمام روسيا وإيران وميلشياتها للتمدد في المنطقة الأغنى اقتصادياً والأكثر أماناً في سوريا، مما قد يقوي من مواقعهما، ويحقق العديد من أهدافهم الاستراتيجية من وراء تدخلهم في الأزمة السورية.

وبالتالي فإن مجرد تفكير الولايات المتحدة، بالاستغناء عن هذه القوات، يجب أن يسبقها قرار بالانسحاب الكامل من سوريا، وترك الساحة فارغة أمام الفاعلين الآخرين، للتصرف فيها، وهذا أمر مستبعد، لأن استراتيجيات الولايات المتحدة في المنطقة، ومصالحها القائمة، والملفات ذات الخلاف بينها وبين كل من روسيا من جهة، وإيران من جهة ثانية، ما تزال ساخنة ومعقدة، كما أنها لم تحقق حتى الآن سوى هدفها الأول من التدخل في سوريا، وهو القضاء على “داعش” بالدرجة الأولى، أما الهدف المعلن الثاني وهو إيجاد حل سياسي للأزمة السورية كما تدعي واشنطن وحلفاؤها، ما يزال غير منجزٍ حتى الآن، إضافة إلى عدم تحقيقيها لبعض الأهداف الأخرى الجانبية، كقضايا اللاجئين، والمساعدات الانسانية، وعدم لجمها طموحات السيد بوتين في تحويل سوريا إلى قاعدة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية في شرق المتوسط خصوصاً، وعودته كلاعب دولي رئيسي من بوابة سوريا، سواءً في الشرق الأوسط أو العالم عموماً.

تخفيف للعقوبات الاقتصادية أم تشديدها

إن إحدى أكثر الملفات إلحاحاً بالنسبة لكل من روسيا وإيران، هي مسألة الاستمرار في دعم الحكومة السورية اقتصادياً، وتراكم فواتير مصاريفهما العسكرية عليها. خاصة بعد التدهور الاقتصادي الكبير للحكومة السورية، وتراجع قدراتها المالية، المتزامن مع تراجع العديد من المؤشرات الاقتصادية، وتزايد نسب التضخم والبطالة في كلتا الدولتين أيضاً، وبالتالي فإن استمرار دعمهما للحكومة السورية مرهون الآن أكثر من أي وقت مضى بإيجاد فسحة أمام الحكومة السورية وإخراجها من عنق الزجاجة، والعثور على وسيلة تضمن دفعها لفواتير المساعدات العسكرية والمالية التي تلقتها من موسكو وطهران، وهذا ما لا يمكن السماح به من قبل الولايات المتحدة، كونه يقوي من مواقف الدولتين داخل سوريا، ويزيد من فرص تقوية مواجهتهما مع واشنطن، كما أنها ترفع من القدرات المالية للحكومة السورية، وبالتالي العسكرية، ويجعل من موافقتها على الحل السياسي وفق الرؤية الأمريكية أمراً صعباً. لذلك فمن الأرجح أن السيد بايدن سيعمل على الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية على الحكومة السورية، وسيبحث عن آليات لفرض عقوبات جديدة، وتشديد لتلك المفروضة سابقاً، حتى إبان قانون قيصر الذي زاد من الصعوبات الاقتصادية والمعيشية في البلاد، وشكل ضغطاً اقتصادياً وسياسياً هائلاً على الحكومة السورية، وقلل من قدراتها في الإنفاق العسكري، ودعم العناصر الموالية لها، سواءً النظامية أو غير النظامية.

بؤر التوتر ومصالح شركات الأسلحة الأمريكية

السيد بايدن لن يهنأ أيضاً عندما يفتح ملفاً آخر من على طاولته التي ورثها من سلفه ترامب، وهو توريدات السلاح إلى منطقة الشرق الوسط، والتي بلغ نسبة الولايات المتحدة منها الثلث خلال السنوات السبع الماضية، وهي تشكل – إلى جانب إيراداتها المالية لشركات الأسلحة الأمريكية، وتقوية قدراتها التنافسية أمام كل من المملكة المتحدة وروسيا والصين والدول الأوربية الأخرى – وسيلة هامة للتأثير في القدرات العسكرية للمتخاصمين من جهة، ولتقوية قدرات الحلفاء أمام خصومهم من جهة ثانية، والمعضلة أن بعض هذه التوريدات من الأسلحة قد تصل عبر قنوات الفساد لجهات معادية للولايات المتحدة، وبالتالي فإن قرار عدم الاستمرار بها يحمل مضاراً مزدوجة، فهي قد تحد من قدرات الحلفاء على الأرض، فضلاً عن تخفيض الإيرادات المالية لشركاتها صانعة الأسلحة، الأمر الذي قد يعرض بايدن لضغوطات أصحاب تلك الشركات، الذين جلهم من الحزب الجمهوري. وفيما لو اتخذ الرئيس الجديد قرار السير في منحى سلفه، بخصوص توريدات السلاح، فإن ذلك أيضاً يحمل مضاراً مزدوجةً، فمن جهة ستزداد حدة الانتقادات التركية، كون بعض تلك الأسلحة تصل لأيدي قوات سوريا الديمقراطية، ومن جهة ثانية ستكون وسيلة لتأجيج الصراعات، ليس في سوريا فحسب، بل في جميع بؤر التوتر في الشرق الأوسط عموماً، بدلاً من تخفيض حدتها كهدف أمريكي معلن، ولو أن الأمر يقتصر على جانب الخطاب الإعلامي فقط. النقطة الأهم هنا هي إمكانية تأليب الرأي العام الأمريكي على القيادة الجديدة، واستخدام هذا الأمر وسيلة للضغط على الرئيس بايدن، لأن السنوات الطويلة من التدخل الأمريكي العسكري المباشر في العراق؛ جاءت بنتائج سلبية على الأرض، أكثر منها إيجابية، ففي اللوحة بات النظام الإيراني والميلشيات المدعومة منه، وخاصة الحشد الشعبي هي القوى الأكثر سيطرة على القرار، وعلى الأرض في العراق. وهنا هل سيكون مثل هذا الأمر مشجعاً لبايدن لتكرار التجربة في سوريا أم لا؟

ختاماً، يمكن القول ضمن هذا السياق، إن ترامب سيترك على طاولة الرئاسة أمام خلفه بايدن إرثاً من الاشكاليات، التي ألهبها بسياساته المتهورة، وملفات ساخنة وشائكة، ليس أصعبها هو التحالف الاسمي الروسي الايراني والمؤسسة الرسمية السورية، بل تعتبر كلها ملفات صعبة ومتداخلة، ولها تشعباتها الإقليمية والدولية، والتي من شبه المؤكد أنه سيتعامل معها وفق رؤى وخطوط واضحة، لا تتعارض مع السياسات الاستراتيجية الأمريكية، ومؤسسات القرار فيها، مع البعض من الحزم والشدة في العديد منها، كاحتواء النفوذ الإيراني والضغوطات الاقتصادية على الحكومة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى