قضايا راهنة

تجميد لعبة المصالح في سوريا، والمشهد في انتظار “بايدن”

مركز الفرات للدراسات

توالت على الأزمة السورية، خيباتٌ كثيرة، نتيجة مواقف الإدارة الأمريكية، ونهج رؤسائها السابقين، بدءاً من فشل إدارة أوباما، عند إعلانها عن خطوط حمر تم تجاوزها، والثقة المطلقة بموسكو، لإزاله الأسلحة الكيماوية في سورية، وتسليح المعارضة، تلاها فشل إدارة “ترامب” بالرغم من دورها في إنهاء تنظيم داعش الارهابي، لكنها خسرت الثقة، بخيانتها لحلفائها الكرد، وتفويضها للدبلوماسية في سورية إلى روسيا وتركيا، وما تبعها من هجمات، وهجرة، ونزوح، وإعلان الرئيس الأمريكي بانسحاب القوات الأمريكية مرتين من سوريا، وهو نهج مختلف عن سابقه، إلا إن ذلك لم يحرز أي تقدم لحل للأزمة السورية.

ما سبق أثار التساؤل حول سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، فيما إذا كانت ستستمر في انتهاج سياسات الإدارة السابقة، أم ستتبع سياسة مختلفة. وفي ظل عدم وضوح الرؤيا؛ يرى البعض إمكانية التبدل في بعض مواقف الإدارة الأمريكية تجاه سوريا، لإصلاح الأضرار السابقة، والمتراكمة، بناءً على وعود سابقة لبايدن، باستخدام القيادة الأمريكية، ونفوذها، لفرض نتائج أفضل في سوريا، الأمر الذي أثار حفيظة القوى النشطة في سوريا “محلية أو دولية”، حول سلوك الولايات المتحدة، وخططها تجاههم، خاصة مع توقعات تبني “بايدن” خطةً تحدُّ من النفوذ الروسي، والتدخلات التركية، وتحجيم الدور الإيراني في سوريا، فباشرت كل قوة نشاطها بما يضمن تأثيرها في المنطقة، أما بتعليق أجندتها، أو باستخدام أساليب أخرى، لفرض واقع جديد يمكن وصفه كالتالي:

حذر روسي

روسيا من القوى التي تنتظر نهج السياسة الأمريكية بإدارتها الجديدة، وتبعاته في سوريا، فهي من الدول التي استفادت من إدارة ترامب، ومن الطبيعي أن تبدو متوترة، في ظل الإدارة الجديدة. لذا قد ترى التغييرات في الإدارة الأمريكية القادمة تتعارض مع مصالحها، وترجح أن يكون تفاوض “بايدن” وفريقه معهم من موقع قوة، على عكس التقارب الغير مسبوق مع “ترامب”، فهم يتوقعون الأسوأ مع منافسه الفائز “بايدن”، لذا تستغل روسيا فترة “البطة العرجاء” لإدارة ترامب، لتعزيز نفوذها في سوريا، وفرض أمر واقع جديد؛ حيث تعتبر قواعدها الحديثة في مناطق شمال وشرق سوريا، أحد خططها، كقاعدتها العسكرية جنوب “عين عيسى / شمال الرقة”، كإحدى المهام، فيما يتعلق بالتكتيكات العسكرية، أما فيما يتعلق بالتكتيك الدبلوماسي، فهي تسعى إلى ذلك من خلال تعزيز منصاتها” موسكو والقاهرة” بتقاربها مع الكرد، وتشكيل جماعات ضغط قوية، لتقوية نفوذها في المفاوضات السياسية. الأمر الذي يفسح لها مجال للمناورة في ظل أي طارئ جديد، تفرضه واشنطن، أو تقاربها مع انقرة.

ومن ناحية أخرى لا تريد موسكو الحكم على سياسة الإدارة الجديدة في سوريا، على أنها جيدة أو سيئة بالنسبة لها، فمن ناحية تراها قادرة على خلق عقبات أمامها، ومن ناحية أخرى ربما توفر فرص جديدة لها، لذا فضلت موسكو تجنب أي سلوك من شأنه يثير غضب الولايات المتحدة وخاصة في سوريا.

وبالرغم من تنسيقها مع تركيا، لتقويض نفوذ الكرد في شمال وشرق سوريا، إلا إن الطرفان يسعيان قدر الإمكان تجنب استفزاز الأمريكيين، باستفزاز حلفائهم الكرد؛ خاصة مع زيارة قائد القوات الأمريكية “فرانك ماكنزي” للحسكة، ولقائه مع قائد قوات سوريا الديمقراطية،  “مظلوم عبدي” في ديسمبر 2020، لتبدو رسالة من واشنطن، بعدم رضاها عن سلوك الطرفين، ويتعارض مع سياستها، وتحركها في الملف السوري؛ فروسيا باتت تراعي أي تحرك ضد قوات سوريا الديمقراطية، لتجنب دخولها في صراع مع القوات الامريكية في مناطقها، الأمر الذي يعقّد أي تفاوض مع الإدارة الامريكية الجديدة في المستقبل، ويضرب مصالحها في المنطقة عموماً، وسوريا بشكل خاص.

قلق تركي

تركيا أيضا من الدول التي كانت تربطها علاقة وثيقة مع إدارة “ترامب”، الذي منحها الضوء الأخضر لفعل ما تريد في شمال وشمال شرق سوريا، كما أثنى بطريقة تعامل الرئيس التركي “أردوغان” مع محاولة الانقلاب، رغم قمعه لمواطنيه، بالإضافة إلى الإشادة بفوزه المثير للجدل للاستفتاء للحصول على صلاحيات واسعة ومطلقة؛ لكن مع إدارة بايدن يبدو أن الوضع مختلف تماماً، فبحسب المسؤول السابق في البنتاغون والباحث المقيم في معهد «أمريكان إنتربرايز» مايكل روبين، لشبكة «سي إن بي سي»: إن الشيء الوحيد الذي جعل العلاقة متماسكة على مدى السنوات العديدة الماضية هو علاقة ترمب الشخصية بأردوغان، مضيفاً أنه مع خروج ترمب يجب أن يشعر أردوغان بقلق شديد للغاية، هذا لأن نقاط الصراع بين أنقرة وواشنطن كبيرة وواسعة، وهي نقاط تكشف مواقف متناقضة تجاه الجغرافيا السياسية والتحالفات والحكم.” إضافة إلى تصريحات “بايدن” السابقة بدعم معارضة اردوغان، والاعتراف بالإبادة الأرمنية، ومنظومة صواريخ S-400 الروسية، ودعمه للعقوبات الأمريكية ضد تركيا نتيجة هجماتها على كرد سوريا، وتصريحاته المؤيدة للكرد، والتي أثارت حفيظة تركيا لدرجة اعتبرته مؤيداً للكرد ومعادياً لها. لذا فمن الطبيعي أن تشعر أنقرة بالقلق من مواجهة واشنطن لأجندتها في المنطقة، وخاصة في سوريا والتي ستُلحق ضرراً بمكاسب تركيا إذا ما عزمت واشنطن القيام بذلك.

لكن بالمقابل ترى تركيا إمكانية إيجاد أرضية مشتركة بينها والولايات المتحدة، كخروجها من الصف الروسي، وعودتها للحظيرة الأمريكية. ومراعاة التوازنات في شمال وشرق سوريا، فهي تحاول قدر الإمكان تقليص بعض المكاسب الكردية في المنطقة، قبل تولي الرئيس الأمريكي المنتخب “بايدن” الإدارة، وسط خلاف كبير معها، فتوجسها من سياسة مختلفة لهذه الإدارة في سوريا؛ خاصةً مع زيارة ” ماكنزي” ولقائه مع “عبدي”، ترجمتها أيضا كرسالة واضحة لدعم جهود الأخير، لكسب الوقت لحين وصول الرئيس الأمريكي “بايدن” للسلطة، الأمر الذي قابلته تركيا بتعليق أي تدخل مباشر لعملياتها في المنطقة، خشية أي تصعيد جديد مع السابق. فبادرت مع شركائها بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية، للهجوم على “عين عيسى” الاستراتيجية شمال شرق سوريا، عبر تكليف وكلائها بالسيطرة على البلدة؛ وإنشاء قاعدة جديدة لها شمال البلدة “عين عيسى”، على غرار القاعدة الروسية في جنوبها، في مسعى منها لتسريع جهودها لفرض واقع جديد على الأرض، بالوقت الذي ينشغل به الأمريكيون بسياستهم الداخلية.

تفاؤل ايراني مشوب بالحذر

إيران من الدول التي تعلق آمال عريضة على الرئيس المنتخب “بادين”، فسياسة سلفه تجاهها أدت لمشاكل اقتصادية كبيرة، والاقتراب إلى حافة الحرب بين البلدين؛ لذا تأمل طهران من الإدارة، العودة إلى الاتفاق النووي، التي انسحبت منها واشنطن في مايو 2018، للتخلص من الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها، وهو ما قاله ” بايدن” بالعودة إلى الخطة المشتركة ببرنامج إيران النووي؛ الأمر الذي يزيل بعض التوتر بين البلدين.

إلا إنه في حال عودة الاتفاق بين الطرفين، لاشك أن ذلك سيترافق مع مطالب أمريكية، وخاصة بشأن الأزمة السورية؛ “تلك الأزمة التي استغلتها واشنطن لاستنزاف موارد طهران، من خلال الضغوطات والعقوبات الاقتصادية”. واستمرارها بنهج الضغوطات، للحد من النفوذ الايراني في سوريا. فأي انفراجة للملف النووي الإيراني وتبعاته الاقتصادية لها، سينعكس سلباً على دمشق، أهمها استحالة تراجع الإدارة الأمريكية الجديدة في سوريا، فطهران تدرك في حال تم الاتفاق للوصول إلى تسوية 2015، بشان الاتفاق النووي، وغيرها من الملفات الشائكة، ستكون متزامنة مع شروط أمريكية، بينها الحد من فرصة تقوية نفوذها في الأزمة السورية، خاصة أن “بايدن” انتقد بشدة سياسة ترامب في سوريا، التي عززت الموقف الإيراني والروسي هناك. لذا فمحور التعاون بين طهران وواشنطن، لا يمنع المواجهة بالوكالة في مناطق أخرى، وخاصة سوريا، وهذا ما تسعى إيران إليه حالياً، باستغلال الفراغ الأمريكي قبل الانخراط في أية مفاوضات مع الإدارة الجديدة؛ وذلك عبر تكثيف التجنيد العسكري للسوريين في أماكن تواجدها في سوريا، بالإضافة إلى تعزيز نفوذها ضمن وحدات من الجيش السوري كالفرقة الرابعة، والحرس الجمهوري، وتنفيذ مشاريع حيوية كشبكة الطاقة، كل ذلك في مسعى تراه طهران ضرورة لتقوية موقفها في أية مفاوضات بشأن الأزمة السورية؛ وفي نفس الوقت تكون منفتحة للتعاون والعلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة.

تفاؤل كردي

رغم أن القضية الكردية في سوريا، لم تحظَ بالاهتمام الكافي من الولايات المتحدة في ظل إدارة “ترامب”، التي قوضت المصالح الأمنية الأمريكية، ووسع النفوذ الروسي، إلا إن الوجود الأمريكي في شمال وشرق سوريا، شكل محوراً مهماً للضغط العسكري بالنسبة للكرد، فقوتهم على الأرض، تعتمد على القوة الجوية للتحالف الدولي، التي تقوده الولايات المتحدة، لضرب أهداف داعش في مناطقهم، وبالمقابل فالوجود الأمريكي يعتمد على قدرات قوات سوريا الديمقراطية، والتي تضمن لها قوة برية فعالة على الأرض.

لذا ينظر الكرد إلى واشنطن كلاعب مؤثر، لحل قضيتهم في سوريا، وهم لم يتلمسوا أية نوايا حقيقية بشأن ذلك، في ظل الإدارات الأمريكية السابقة، وينتظرونها الآن من الجديدة، بما يضمن تجنب أية احتمالات، قد تؤدي لزعزعة استقرار المنطقة. كما يتطلع الكرد إلى إعادة تقييم وضعهم في سوريا، بما يرضي تطلعاتهم، ويوقف الهجمات العدوانية التركية على مناطقهم.

لتحقيق هذه المطالب، أو على الأقل جزءاً منها، بات الكرد أيضاً يفضلون لعبة “تجميد المصالح” عبر كسب المزيد من الوقت، أما بتعليق أية خطوات فاعلة على الأرض، أو إطالة أمدها، أو تجنب أية ترتيبات لتسويات أحادية الجانب في المنطقة، خشية أن تثير حفيظة الإدارة الأمريكية الجديدة، أسوة بباقي القوى التي جمدت أية أنشطة مباشرة لها، من شأنها أن تؤذي مصالحها؛ والسعي لفرض واقع جديد كما ذكرناه سابقاً، وهذا ما قابله الكرد بمحاولة الإبقاء على خطوط المواجهة كما هي؛ لضمان عدم فرض أي واقع جديد على مناطقهم، لحين وصول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض.

سوريا منصة تصحيح المسار الخاطئ للولايات المتحدة

رغم أن العديد من أعضاء إدارة بايدن الحالية، كانوا من “المحاربين القدماء” لحل الازمة السورية، إلا إنه مع بادين، ربما تخطو الأمور نحو تصحيح المسار الخاطئ لدورها السابق، والتي تآكلت فيه مصداقية الولايات المتحدة، ورفض وجودها في المنطقة، فتسعى الإدارة الجديدة لاستعادة مكانة الولايات المتحدة على المسرح الدولي، عبر مشاركة الحلفاء، ودعمهم، لذا يعتبر الملف السوري هو الأنسب، لتصحيح هذا المسار، كونها شكلت ساحة صراع وعدم استقرار، ودخلت مرحلة أكثر تعقيداً، وهي قضية لها أهمية لجيرانها الاقليميين في المنطقة؛ لذا يرجح أن تعمل الإدارة الجديدة إطلاق نهج الدبلوماسية متعدد الأطراف، ومتابعة سياسة تفاوضية، تسمح بتقليص مشاركة الولايات المتحدة إلى الحد الأدنى في “حروبها الخارجية “، أما في سوريا يرجّح أن تكون ضمن خطة الإدارة الجديدة، دعم استراتيجية “مكافحة الإرهاب الإضافية”، والتي من شأنها ترك وحدات صغيرة، مع قوات العمليات الأمريكية في الخارج، لتدريب ودعم القوات المحلية، التي تقاتل تنظيمي داعش والقاعدة؛ أما المسار الدبلوماسي، فمن الواضح أن الادارة الأمريكية القادمة، تعول على النهج الدبلوماسي والتفاوضي، وليس العسكري، للتوصل الى تسوية شاملة.

اذاً ففكرة التحرك بشكل أحادي، من قبل أي طرف أصبح صعباً، في ظل هذه الظروف، مما قد يعكس سلباً على مصالحها في المستقبل، فباتت صورة إبقاء الوضع على ما هو عليه، هي السائدة، وتعليق أية مغامرة، وتجميد الصراع فيها، لحين وصول الرئيس الجديد للبيت الأبيض وتتضح سياسته تجاه المنطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى