قضايا راهنة

ادلب… رهان المعارضة الخاسر

يبدو إن قضية ادلب أصبحت المحور الرئيس الآن فيما يتعلق بالأزمة السورية، كونها شكّلت المحطة الأقوى لأقطاب المفاوضات بين الجانبين التركي والروسي. حيث تحولت المدينة إلى مركز تجمع لكافة الفصائل المعارضة للنظام السوري، والتي دعمتها تركيا وسلحتها، كسبيلٍ لاحتلال باقي المدن بما يخدم مصالحها، واستخدامها كورقة مفاوضات مع باقي القوى المشاركة في الأزمة السورية.

لكن يبدو إن هذه هي الورقة الأخيرة؛ والتي تعول عليها تركيا، والفصائل المسلحة الموالية لها، أو المناوئة قد لا تخرج هذه المرة بأية مكتسبات أخرى بل إنها تراهن على خسارة المدينة بأكملها دون أية عملية مقايضة أو صفقة، وعلى ما يبدو عليه فإنها سوف تخسر رهان تحديها لروسيا والنظام السوري بُغية استمرار احتلالها للمدينة وذلك لعدة أسباب نذكر منها:

الرهان التركي الخاسر

منذ بدء الأزمة السورية حاولت تركيا التموضع في الموقع المؤثر، والمحور الرئيسي (لحل) الأزمة فيها. وأخذت تسبح عكس تيار كل القوى الأخرى لتحقيق أهدافها. من خلال دعم المعارضة لاستخدامها كورقة ضغط كبيرة تحقيقاً لمصالحها.

إلا إن سياسة تركيا العشوائية واللامسؤولة كانت بمثابة الضربة الموجعة للمعارضة السورية من خلال سلسلة التنازلات التركية عن مكتسباتهم آخرها ادلب التي تتفاوض عليها حالياً.

بعد الأزمة السورية بعدة سنوات تنازلت تركيا عن مطلبها في الاطاحة بالنظام السوري، وسعت إلى العمل معه ضد الكرد، فأصبحت تقتنع بأهمية بقائها؛ غير آبهة بمطالب المعارضة وأولوياتها حول إسقاط النظام.

التحالف التركي الروسي

إن تدخُّل روسيا في سوريا شكّل معضلة عدم الاستقرار الأمني للمعارضة السورية التي تستغلها تركيا، وهو ما ادخل تركيا في مستنقع يصعب عليها المضي لتحقيق أهدافها، فاتجهت نحو سياسة التقارب والتحالف مع الروس عبر تقديم تنازلات على حساب المعارضة، مقابل بقائها لحسم ملف الكرد، خشية دفع أطراف أخرى منافسة لها لسد هذا الفراغ مكانها.

كانت تركيا بدخولها في تحالفها هذا مع روسيا بمثابة خروجها عن مسارها الداعم للمعارضة. في الوقت الذي تعتقد فيه المعارضة السورية أن تركيا تسعى من خلال تحالفها مع روسيا وسيطرتها على المواقع؛ دفع مصالح المعارضة نحو المفاوضات السياسية. إلا إن ما يجري على أرض الواقع عكس ما يحصل، فهدف أنقرة الحقيقي هو ضرب المشروع المتبلور في شمال وشمال شرق سوريا، وما يشير إلى ذلك دورهم السلبي تجاه عمليات هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) ضد الفصائل (المعتدلة) في الآونة الأخيرة، دون الدفاع عن المعارضين الموالين لها.

ادلب ورقة ضغط خاسرة

إن احتفاظ تركيا بإدلب له أهمية أكثر من أهمية باقي المواقع التي تنازلت عنها، لاستخدامها كورقة ضغط على موسكو حول منبج، لاستكمال عزل الكرد عن الجانب الآخر. حيث سبقتها مسألة تل رفعت وسط تكهنات بصفقة روسية تركية بتسليمها للأخيرة مقابل عملية مشتركة ضد المتشددين في ادلب. لكن يبدو إن صفقة تل رفعت قد اصطدمت بمعارضة من ايران، حيث تنشط ميليشياتها في أرياف حلب، وبالنسبة لها فإن المدينة تشكل نقطة حماية خلفية لبلدتي نبّل والزهراء الخاضعتين لها.

وتبقى إدلب ورقة الضغط الأكبر التي تسعى أنقرة للتنازل عنها مقابل مناطق تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية. وسبق إن قامت تركيا بذلك من خلال التنازل عن الغوطة الشرقية في ريف دمشق مقابل منطقة عفرين. ولكن هنا الوضع مختلف تماماً لأنه لم يعد لدى الجانب الروسي ما يفاوض عليه مقابل ادلب كون جميع المناطق الباقية التي ينشط فيها الكرد تشترك معها قوات دولية أخرى وخاصة منبج وشرق الفرات، فيبقى الخيار العسكري للنظام السوري مفتوحاً من جانب واحد فقط بالتعاون مع روسيا.

وبذلك تكون ورقة إدلب الأخيرة بمثابة الصفعة الكبرى للمعارضة، نتيجة سياسة داعميه الذين أوصلهم إلى هذا المصير المؤلم. كما إنها ستمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة التنازلات التركية، وبداية النهاية لهزيمة رهاناتها، وهذه المعركة ستكون الفاصلة، رغم ما سبقتها من سيناريوهات الغوطة وحمص ودرعا، إلا أنها ستضع الحد للطموح التركي في سوريا.

الاعتراف بشرعية النظام السوري

تشكل قضية الاعتراف بشرعية النظام السوري وسيادة أراضيها، اعتراف بحقه في استعادة كافة (أراضيه)، وبهذه الحالة سيكون له كامل الحق في استعادة ادلب، كون تركيا التي تمول الجماعات المسلحة في ادلب اعترفت مراراً وتكراراً بشرعية النظام السوري، فمطالبتها بتنفيذ اتفاق أضنة 1998، يعني اعتراف انقرة بشرعية النظام السوري، كونها تتطلب لجان مشتركة لتفعيلها، وهو ما يتناقض مع تصريحات أنقرة حول عدم شرعية النظام السوري الحالي.

ومن ناحية أخرى فإن تفعيل اتفاقية اضنة قد يتطلب إعادة فتح السفارة التركية في دمشق لتعيين امنيين فيها، للتنسيق مع الجانب السوري، وهو ما يمهد لتفعيل العلاقات بين الطرفين.

كما إن انتشار القوات الحكومية السورية على الحدود، اعتراف منها بالحدود القائمة بين البلدين، وعليه فإن تركيا عليها التنازل عن المواقع الحدودية التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في جرابلس إلى باب الهوى في ادلب، مما يوجه ضربة أخرى للمعارضة الموالية لها.

ادلب مركز لتناحر الفصائل

تركزت في ادلب العديد من الفصائل المسلحة والتي تزايدت نتيجة عمليات الإجلاء من مختلف المناطق عبر اتفاقيات بين الطرف التركي والروسي. حيث بلغ تعدادها ما يزيد عن العشرة فصائل مسلحة.

إلا إن تنوع هذه الفصائل سيسهل السيطرة على ادلب، كونها تحمل خلفيات دينية متعصبة ومتشددة، وهو ما أدى إلى اندلاع الصراع فيما بينها أكثر من مرة؛ سعياً منها لتولي دفة القيادة، وقد حاولت تركيا استئصال بعضها بإرسالها إلى مواقع أخرى والتخلص من الآخر. كون كثرة هذه الفصائل بمسمياتها المختلفة من أهم نقاط ضعفها في ادلب؛ من شأنها تسهيل عملية السيطرة عليها، فكل فصيل منه لا يرغب العمل تحت قيادة فصيل آخر.

لذلك تعتبر قضية وجود فصائل متنوعة، وبعضها خارج سيطرة تركيا، من الأمور الرئيسية التي تسهل سقوط ادلب، فقيادة العمليات المسلحة من طرف آخر خارج قيادة الجيش التركي، من شأنه أن يؤدي إلى التناحر فيما بينهم، قبل مواجهة القوات الحكومية السورية.

صعوبة التعامل مع جميع الفصائل

من العوامل الرئيسية التي تصعّب الأمور على تركيا، والفصائل المقاتلة المنضوية تحت لوائها، وجود قوات أخرى في ادلب خارج سيطرتها. أهمهما وأقواها ( هيئة تحرير الشام / جبهة النصرة )، حيث تمكنت بتأسيس قاعدة شعبية واسعة لها في ادلب، والنظر للجيش التركي كقوات احتلال. وفي مايو 2017 زار وفد منه العاصمة التركية لبحث قضية التدخل التركي، واستعدادهم لمواجهة تدخلهم. الأمر الذي قابلته تركيا بتنمية نفوذ الفصائل المسلحة الأخرى للقضاء على النصرة، والتي انتهت بالفشل نتيجة ردة فعل جبهة النصرة القاسية لمقرات تجمعها أهمها تجمع ” فاستقم كما أُمرت ” التي هاجمتها النصرة.

بالإضافة إلى إنها تسيطر على أكثر المناطق حيوية؛ وخاصة الشريط الحدودي والمنتجات العابرة، وتحكمها بالمحروقات، وفرض الضرائب، وبهذه الحالة ليس لدى تركيا أي فصيل يشكل قوة حاسمة ضد هيئة تحرير الشام.

استحالة جر تركيا إلى الصراع

وهي من الأمور الرئيسية التي تمهد لسقوط ادلب، كون رد الفعل التركي على التصعيد الأخير يبدو محدوداً ولا يخرج عن نطاق تصريحات خُلبية. إلا إنها تتدخل بشكل غير مباشر من خلال الدعم اللوجستي والعسكري. لكن يبقى صعوبة السيطرة على جميع الفصائل من قبل تركيا أمر يضعها في موقف المهزوم أمام بقية القوات الفاعلة.

كما إن خيارات تركيا حول التدخل العسكري محدودة من ناحية أخرى؛ كونها لا تملك الحجج والذرائع نفسها عند عملياتها الأخرى كغصن الزيتون ودرع الفرات. ومن ناحية أخرى فإن تدخلها يعني الدفاع عن منظمة ارهابية ” جبهة النصرة ” بشكل علني كونها تعهدت بتولي مسؤولية التصدي للإرهابيين في ادلب في اجتماع سوتشي بشأن ادلب. بالإضافة لعدم تمكنها في الدخول بمواجهة عسكرية مع روسيا والنظام السوري الذي يسعى لبسط سيادته، كما إن وجود حسابات ورهانات سياسية لتركيا مع الجانب الروسي، يزيد من حساسية الموقف، خصوصاً في اطار موقفها المتأزم مع واشنطن حالياً. وللحفاظ على ما تبقى لديها من مكتسبات كنقاط مراقبة والمناطق التي تجاورها والتي احتلتها تركيا كعفرين ومناطق الشهباء.

وأخيراً عدم وجود أية ذريعة تركية للتدخل عسكرياً بحجة أمنها القومي، على غرار باقي المواقع التي احتلتها. كون ادلب لا يقطنها الكرد فهي لا تشكل أي تهديد. وهو ما يضعها في موقف محرج مع الموالين لها من المعارضين.

ادلب كساحة وتجمع لتصفية الفصائل المعارضة للنظام السوري

لم تدرك المعارضة السورية المسلحة أن عملية دفع مقاتليها إلى محافظة ادلب، إما عن طريق المفاوضات أو المصالحات، ماهي إلا خطة نفذتها القوى الاقليمية المعنية، لتحويلها الى ساحة تصفية حسابات بين الفصائل بالبداية، تمهيداً لتصفيتهم بشكل كلي. وهو ما تجني ثمارها فصائل المعارضة بالعملية العسكرية على ادلب.

فقد استقبلت ادلب عدداً كبيراً من مقاتلي المعارضة بموجب اتفاق بينهم وبين النظام السوري يقضي بإجلاء المقاتلين مع عوائلهم. او باتفاق تركي روسي يقضي بإجلاء المقاتلين الموالين لتركيا. وقد شهدت العديد من المناطق السورية هذه الاتفاقيات منها مضايا والزبداني وداريا وقدسيا والهامة وحي الوعر بحمص والمعضمية وحلب والغوطة ودرعا الجنوبية.

وأصبحت ادلب مركزاً لتجمع كافة الفصائل المعارضة وأكثرهم شراسة، واكثر المناطق دعماً وتمويلاً لباقي الفصائل المنتشرة في مواقع اخرى من سورية، وهي من الامور التي اغرت روسيا والنظام السوري بشن هجوم على المحافظة وتصفية هذه الفصائل. من شأنه قطع الشريان الرئيسي الداعم للمناوئين للحكومة السورية من الفصائل المسلحة.

ومن ناحية أخرى فإن ظهور داعش مؤخراً في ادلب قد يزيد من خطورة الموقف بالنسبة للمعارضة، الأمر الذي يضعف موقفها كمعارضة (معتدلة) في ادلب وينهي سيطرتهم عليها بشكل نهائي. كون أطراف أخرى ستشارك في العملية العسكرية لضرب فلول تنظيم داعش الارهابي المنتشر فيها، مما يعطي شرعية للنظام السوري والقوى الأخرى لإنهاء ملف ادلب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى