قضايا راهنة

أزمة سوريا والمنطقة… رؤى وخيارات

متاح أيضاً في: ENGLISH

المقدمة:

تشهد منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وسوريا بشكل خاص حالة من التسارع العاصف، حيث بدأت الخطوات الأولية لإعادة صياغة المنطقة من جديد، لا سيما بعد اقتراب الانتهاء من “داعش” عسكرياً.
تحولت سوريا إلى مركز الصراع المتمحور أساساً على الهيمنة وترسيخ النفوذ، فهذه الحرب بدأت باسم محاربة القوى الإرهابية، من “داعش” و”النصرة” والفصائل التي تدور في فلكهما، ولكن سرعان ما تحولت إلى صراع التموضع وتحصين المراكز والنفوذ.
إن قرار انسحاب القوات الأمريكية من الشمال السوري أواخر العام المنصرم أدى إلى خلط العديد من الأوراق، وأوضح بشكل جليّ مدى قوة أو هشاشة تموضع كل قوة مشاركة في هذا الصراع.

تداعيات قرار الانسحاب الأمريكي:

قرار الانسحاب كان مقتصراً على الوجود الأمريكي في الشمال السوري، ولكن من يكون على دراية بمشاكل الشرق الأوسط وموقعها الجيوسياسي عالمياً سيدرك أن هذا الانسحاب لا يمكن أن يقتصر على الشمال السوري فحسب؛ بل ستكون بدايةً لانسحابها من الشرق الأوسط بأكمله، وما تصريحات حركة طالبان الأفغانية، وتهديدات فرقة النجباء العراقية بفتح جبهة حرب ساخنة أمام القوات الأمريكية في المنطقة، سوى دليل على صعوبة البقاء الأمريكي في المنطقة، إن انسحبت من الشمال السوري.

ماذا يعني انسحاب امريكا من المنطقة؟

فقدانها الدور الريادي بين القوى المهيمنة عالمياً، لأن الهيمنة العالمية تمرّ عبر التحكم، وتوسيع النفوذ في الشرق الأوسط.
تمهد لاندلاع حرب عالمية ثالثة؛ فالكثير من المعطيات تشير إلى نضج هذه الظروف.
إضعاف حلفاء واشنطن، وخاصة إسرائيل، التي تمثل خلية قوى الهيمنة العالمية الوحيدة في المنطقة، وتهديد أمنها بكل معنى الكلمة، وعلى الأرجح سوف تواجه مرحلة جديدة لتدخل مرحلة الوجود وعدمه.
سوف تواجه الكثير من الدول العربية، الكبيرة منها والصغيرة مرحلة حرجة، كما إسرائيل، خاصة المحور العربي الذي تقوده مصر والسعودية.
الحظ الأوفر سيكون في هذه الحالة لإيران التي تنافس إسرائيل في صراع الهيمنة الإقليمية، عبر مشروع الهلال الشيعي؛ فأي فراغ يتشكل ستملؤه إيران على حساب الطرف المنسحب، وستحاول استكمال مشروعها القائم أساساً في الشرق الاوسط.
سيفتح هذا الواقع الطريق أمام تحالفات جديدة في المنطقة، فالدول المتضررة من النفوذ والتوسع الإيراني سوف تتخندق على الأرجح في جبهة واحدة، وتفتح طريقاً سالكاً في دبلوماسية ما قبل إعلان الحرب بشكل خاص بين المحور المناهض (مصر، الأردن، إسرائيل، دول الخليج، عدا قطر) فهذا التحالف يبقى لضمان بقاء دول هذا المحور، إضافة إلى أن جزءاً كبيراً من العرب يعيشون تغييراً ذهنياً عميقاً تجاه اليهود وإسرائيل؛ حيث بدأوا بقبول الوجود الإسرائيلي في المنطقة، ففي الوقت الحالي نلاحظ أنه ما من دولة عربية بإمكانها تجييش شعبها، وبث روح الحماس والعنفوان على أساس معاداة إسرائيل، كما السابق، فإذا كانت هناك علاقات سرية بين هذه الدول وإسرائيل، فاليوم لا يجدون أي حرج في إظهارها.
من الملفت أن روسيا الاتحادية التي تصارع لتصبح قطب مهم في الهمينة العالمية، عبر تاريخها، وعلى الرغم من تدخلها المباشر، وحتى العسكري منها، في كثير من الدول، إلا أنها لم تحافظ على وجودٍ طويل فيها، واضطرت في نهاية المطاف أن تنسحب، وبخسارة منها.
تتمتع روسيا الآن بعلاقات جيدة مع طهران ودمشق، ومؤخراً مع أنقرة، وتدخلت بشكل مباشر في الحرب إلى جانب الحكومة السورية وإيران، ولكن لا يمكن الادعاء بأن روسيا هي الرابحة في الحالة السورية؛ فمصالحها تختلف عن مصالح إيران في سوريا، ولذلك فالانسحاب الأمريكي قد يؤثر سلباً على مصالح موسكو أيضاً، لأن إيران مترسخة أكثر منها في سوريا، حيث تربطها مع دمشق روابط إيديولوجية متغلغلة في تفاصيل الحكم، وتصبح في الكثير من الأحيان عائقاً أمام استقرار روسيا في سورية أكثر من الوجود الأمريكي فيها، لذا فالوجود الأمريكي كان ورقة ضاغطة بيد روسيا على إيران.

في حالة التريث والبقاء في الشرق الاوسط:

التخندق الحالي للنظام العالمي بقيادة أمريكا غير كافٍ لتسيّر وفقها خططها في إعادة صياغة خريطة الشرق الأوسط الجديد، ولا بد أن تقوم بتوسيع نفوذها أكثر، وطبعاً بالضرورة توسيع النفوذ سيكون على حساب طرف آخر، ولتؤمّن الحماية الكافية لأمن إسرائيل، لا بد لها أن تضغط بشكل كبير لتقليص نفوذ إيران، وإخراجها من مناطق نفوذها.

الخيارات التي تواجه إيران في هذه الحالة

القبول بالعدول عن مشروعها التوسعي والبقاء ضمن حدودها المرسومة، سيبقى هذا الخيار أصعب الخيارات، لأنه سوف يؤدي إلى استفحال المشاكل، ويمكن أن يصل الأمر إلى تقسيمها، وما العقوبات التي تواجهها اليوم إلا مؤشرٌ لذلك.
الإصرار في مشروعها التوسعي وحماية المناطق التي اكتسبتها (العراق ولبنان وسوريا واليمن) من خلال توتير بؤر الحروب خارج حدودها، وسيشكل هذا الخيار السبب الرئيسي لاندلاع حرب الهيمنة العالمية الثالثة.
أن تدخل مرحلة تغيير النظام عن طريق حل مشاكلها الداخلية بالطرق الديمقراطية وعلى رأسها قضايا الشعوب (القضية الكردية، وقضايا شعوب الأهواز، والبلوش وغيرها) وهذا الاحتمال هو الأضعف تحقيقاً من الناحية العملية.

أين ستكون تركيا “العدالة والتنمية” من هذه التطورات:

مارست تركيا منذ الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي سياسة التوازن بين الأقطاب، ولكن ظهور حزب العدالة والتنمية على حلبة السياسة التركية غيّر الكثير من تقاليد الحكم المتعارف عليها، والمتعامل بها في تركيا منذ نشوء نظامها الجمهوري، حيث طمح إلى ريادة “رأس المال الإسلامي” أو ما سمي بـ “رأس المال الأخضر” ونقل “الكعبة” من مكة إلى إسطنبول، للتنافس مع السعودية على ريادة العالم الإسلامي السني، مما خلق تجزئة كبيرة في البنية السنية في الشرق الأوسط، حيث التفّ حول حزب “العدالة والتنمية” حثالة المذهب السني من المتطرفين وقوى الإرهاب، وعقد علاقات قوية مع كل من حماس، الإخوان المسلمين، القاعدة، ومؤخراً “داعش”.
دخلت تركيا بقيادة “العدالة والتنمية” حلبة الصراع السوري محملة بالكثير من الأهداف، أولها بناء نظم عربية تحكمها الحركات  الإسلامية الراديكالية المرتبطة بها بدءاً من تونس، ليبيا، مصر، فسوريا، ولكن هدفها هذا اصطدم بالواقع العربي المتغير، الطامح إلى الحرية، والعدالة، والمساواة من ناحية، ومن ناحية اخرى تحالف القوى العالمية لمحاربة هذا الإرهاب.
أُحبِطت أهداف “العدالة والتنمية” إلى حد بعيد، والآن لم يعد يملك الكثير من الطموحات في الحالة السورية غير إحباط المكاسب التي حققتها شعوب الجزء الشمالي والشمال الشرقي من المنطقة بريادة الكرد، فالتطور الحاصل في هذا الجزء أدى بالحكومة التركية أن تفقد بوصلتها وتنتقل من مشروع “صفر مشاكل” إلى التيهور في المشاكل مع الجوار والعالم.
حافظت تركيا على سياسة التوازن بين القوى  المهيمنة عالمياً (أمريكا، بريطانيا، إسرائيل) والقوى الإقليمية (إيران، تركيا، سوريا) ومارست سياسة “الحركات البهلوانية” إلى أن انحرفت عن نهج الدولة العلمانية، العضو في الناتو، إلى عقد الكثير من الصفقات والاتفاقيات مع روسيا.

الخيارات التي تواجه تركيا في هذه الظروف:

تعيش تركيا حالة من الضيق المرفق بالضغط لتختار الطريق الذي سوف تسلكه، والتأكيد على أن مساحة التوازن تلك قد أزيلت، وهذا ما يطرحه الكثيرون، فالسيناتور الأمريكي “كريس هولن” أوضح فكرته بقوله: “على تركيا أن تختار ما بين (طائرات إف 35) و(منظومة إس 400) والواضح أن جميع الخيارات المطروحة أمامها صعبة للغاية، وهي كالتالي:
رضوخ النظام التركي للحلف الذي كان جزءاً منه منذ عام 1952 أي الوقوف إلى جانب القوى المهيمنة عالمياً، ولكن هذه القوى لديها ما تطلبه من تركيا حتى تسمح لها باستمرار العمل معها، وهي أولاً الإبقاء على مسافة في علاقاتها مع إيران وسوريا، وثانياً حل القضايا التي تثقل كاهل الدولة التركية ومنها قضايا الديمقراطية، وعلى رأسها القضية الكردية، التي هي السبب الرئيس في عقد هذا التحالف الإقليمي بين هذه الدول.
البقاء في الحلف الإقليمي، فهي لا تريد لإيران ما جرى في العراق، وما يجري الآن في سوريا، لأنه إذا دخلت إيران مرحلة شبيهة بما عاشه العراق بدايات القرن الحالي، فالنتيجة على الأرجح ستكون لصالح الكرد والشعوب المضطهدة الذين يعيشون حالة من الإنكار والإقصاء جراء سياسة إيران القمعية المعادية لجميع الحقوق الطبيعية لشعوبها، ولكن بنفس الوقت فإن العلاقات القوية لأنقرة مع طهران تخلق القلق لإسرائيل، وبالتالي للنظام العالمي، ففي هذه الحالة سوف تُفتَح لتركيا أبواب الجحيم الذي ضرب أفغانستان، باكستان، العراق، وأخيراً سوريا، لتتحول إلى ساحة حرب، وإن أضفنا إلى هذه الأوضاع الحالة الاقتصادية المتدهورة في الفترة الأخيرة، يظهر ما تنتظره تركيا بشكل أكثر وضوحاً.

الكرد والخيارات المطروحة:

أدى التعريف الخاطئ لقضيتين أساسيتين في الشرق الأوسط إلى أن يكون القرنين الأخيرين الأكثر دموية، وهي القضية الكُردية كشعب يعيش على أرضه التاريخية، وقضية الشعب اليهودي كأحد مكونات نسيج الشرق الأوسط الأصيلة، والملفت للنظر، وبدخولنا الألفية الجديدة، فقد طرأ الكثير من التغيير على التعريفات والمفاهيم، ومن ضمنها القناعة لدى الكثير من شعوب الشرق الأوسط وخاصة الحلف السعودي، والتي كانت تدعي أن الإقرار بحق تقرير المصير للشعب الكُردي سيتسبب في تغير خارطة 12 دولة في المنطقة، أما الآن فقد توصلوا لقناعة مفادها: إيجاد حل عادل للقضيتين. هذا ما تؤكده الظروف الحالية التي تمر بها المنطقة؛ فحل هاتين القضيتين سيكون بالضرورة لصالح التحالف السعودي.
قرار الانسحاب الأمريكي خلق ارتباك واضح بين الكرد، الذين ناضلوا، وضحّوا للتخلص من الإرهاب العالمي، وعند مقارنة القوة التي يملكها الكرد مع القوى التي تحاربهم من دول المنطقة وعلى رأسها تركيا، فيظهر للعيان بأنها أضعف حلقة في صراع الجبابرة هذا، ولكن الحقيقة تشير إلى أن وجود الكرد موزعين بين أربعة دول في جغرافيا استراتيجية من ناحية، وكذلك تضارب المصالح فيما بين القوى الإقليمية والعالمية من ناحية أخرى، إضافة إلى تيقظه الوطني، ومستوى التنظيم الذي يعيشه، يؤكد أن موقع الكرد الجيوسياسي قوي للغاية في المعادلة، وبالتالي فسوف يشكلون قوة كبيرة بإمكانها تغيير ملامح المنطقة.
لأول مرة في تاريخ الكرد تتداول قضيتهم وتأخذ بعداً عالمياً لهذه الدرجة؛ وقد أصبحت على طاولة كل النقاشات، إن كانت سلباً أو إيجاباً في المحافل الرسمية، وغير الرسمية.
الواضح في معمعان هذه المتغيرات أن الكُرد سيحافظون على مكانتهم كبيضة قبان في التوازنات الإقليمية والدولية، وسيحدد الطرف الرابح في نهاية المطاف.

الخيارات التي يمكن للكرد وشعوب الشمال والشمال الشرقي لسوريا أن تتبعها:

البقاء في التحالف المتشكل ضد داعش، والعمل على طرح الحل السياسي والدستوري لقضية المناطق المحررة.
عقد علاقات مع كل من إسرائيل والمحور السعودي.
اعتبار خيار العلاقة مع الدولة السورية “لا مفر منه” يمكن أن يأتي ببعض المغالطات، فالصحيح هو أنه الخيار الأنسب في حال توجهت الدولة إلى كتابة دستور ديمقراطي يعترف فيه بحقوق الشعوب، ومن ضمنها مناطق الشمال والشمال الشرقي
النظر إلى روسيا الاتحادية كأي دولة من الدول المهينة عالمياً، وهي دولة رأسمالية مثلها كمثل أي دولة أخرى، ولم تسجل لها أية مواقف إيجابية تذكر تجاه الكُرد في تاريخها القديم والحديث، والآن تقود حلفاً قد جمعهم معاداة الكرد، ولذلك فعند التعامل معها يجب ألا نغض الطرف عن جانبها هذا، ولكن بالمحصلة سيكون التعامل مع موسكو من الخيارات المتاحة لإيجاد الحل الأنسب.

ما الذي تتطلبه المرحلة من الكرد داخلياً؟

الاستفادة من الوقت الإضافي بشكل جيد، والقيام بالتحضيرات لخوض معركة انتخابية حقيقية، وتشكيل هيكلية فعالة، تعتبر حكومة المناطق المحررة، لكي تسنح للدول إمكانية الاعتراف بها رسمياً، مع الحفاظ على المبادئ التي بُنيت عليها هذه المؤسسات.
يجب تفعيل نظام الكانتونات، ومؤسسات الإدارة الذاتية في الأقاليم، من مجلسها التشريعي إلى التنفيذي، إلى حين تشكيل هذه الحكومة؛ لأن هذه المؤسسات غير فعالة.
إزالة كل النظم الموازية للإدارة، أي يجب أن تسير الأعمال والأمور بنظام واحد، وليست بعدة أنظمة.
دخول مرحلة التسامح، والتلاقي في المشتركات؛ للوصول إلى إعطاء فرصة المشاركة لكل التوجهات السياسية المختلفة، ورصّ الصفوف؛ فهي حاجة ملحّة في هذا الوقت.

النتيجة:

ما زال هناك جدل واسع حول انسحاب القوات الأمريكية، وعدمه، من الشمال السوري، لكن الوضع في كلا الحالتين سيكون لصالح المناطق المحررة، ففي حالة الانسحاب فإن أكثر المتضررين حسب المعطيات التي ذكرت آنفاً هي تركيا، فهي الصديقة العدوة لأمريكا في المنطقة، وقد ذهبت إلى حد اللاعودة في حلفها مع روسيا وإيران، فموسكو أعطت الضوء الأخضر لدخول تركيا إلى سوريا بهدف تضعيف وتقليص مناطق نفوذ أمريكا، طبقاً لمصالحهما، إذا فحجة إعطاء تركيا هذا الدور هو الوجود الأمريكي بحد ذاته، وإذا أزيل هذا السبب فلن يكون هناك حاجة لروسيا لتفتح المجال لدخول تركيا، فشرق الفرات هو العمود الفقري للدولة السورية من حيث غنى مواردها.
وفي حالة التريث، والتأني في الانسحاب، أيضاً يصعب على تركيا أن تقوم بالتدخل من دون التنسيق مع قوات التحالف، وإعطاءها الفرصة لكي تحارب  القوى التي تعتبرها أنقرة إرهابية (قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب)، وإن حدث ذلك فإن أمريكا ستكون، منذ أكثر من أربعة أعوام قد تعاملت مع قوى الإرهاب، وهذا ما لا تقبل به الولايات المتحدة.
من الواضح أن الإعلان عن الانسحاب دفع إلى تداول قضية مناطق شمال وشمال شرقي سوريا، أكثر من أي وقت مضى، وهذا مؤشر جيد لإيجاد حل نهائي لهذه القضية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى