ما هي خيارات الرّد الأمريكي على مقتل جنودها؟
أعلن الجيش الأمريكي، أمس الأحد، مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة 35 آخرين، في هجوم لطائرة مسيّرة على قاعدة أمريكية تسمّى (برج 22)، وهي قاعدة تضم عدداً قليلاً من الجنود الأمريكيين، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم؛ وذلك لوقوعها في المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق. وقد تبنّت ما تسمى بـ “المقاومة الإسلامية في العراق”، وهي تجمّع يضم عدّة ميليشيات موالية لإيران، مسؤولية الهجوم على هذه القاعدة.
وتُعتبر هذه الحادثة تحوّلاً خطيراً في مسار الأحداث الجارية منذ اندلاع حرب غزّة، وهي تمثّل ذروة التصعيد الإيراني والفصائل الموالية ضدّ القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة، حيث نفذت هذه الفصائل حتى الآن ما يزيد عن مائة هجمة بالطائرات المسيّرة على العديد من القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، لكن جميع هذه الهجمات لم تكن تتجاوز “الخطوط الحُمر” بالنسبة للولايات المتحدة، وهي مقتل جنود أمريكيين.
فالهجمات السابقة، لم تكن تتجاوز تشكيل الضغط المستمر على الولايات المتحدة وإسرائيل، سواءً من قِبل الفصائل المذكورة، أو من قِبل الحوثيين الذين ما فتئوا يطلقون الصواريخ والمسيّرات باتجاه الأراضي الإسرائيلية، واستهداف السفن الأمريكية والإسرائيلية وسفن الشحن في البحر الأحمر، من أجل حماية ورقة حماس، والحيلولة دون احتراقها، في صراعها الدائر مع إسرائيل.
لا ريب أنّ جميع هذه الهجمات التي تشنها الفصائل الموالية لإيران، يتمّ التخطيط لها من قِبل قادة “الحرس الثوري الإيراني”، وذلك على الرغم من إخلاء السلطات الإيرانية مسؤوليتها عن هذه الهجمات، وتأكيدها على “استقلالية قرار هذه الفصائل” في شنّ الهجمات التي تعتبرها ردود فعل على التصعيد الإسرائيلي والدعم الأمريكي لها، في غزة. وتزايد وتيرة هذه الهجمات، يأتي بعد سلسلة اغتيالات طالت قيادات بارزة، سواءً في “فيلق القدس” أو باقي فصائل “محور المقاومة”.
إنّ سياسة حافة الهاوية التي تدور بين كل من الولايات المتحدة وإيران، دخلت من قبل منحدرات خطرة، وكان أخطر منحدر بالنسبة للأولى هو اغتيال سليماني، العقل المدبّر للنفوذ الإقليمي لإيران، لكنّ الأخيرة حافظت على عدم الانجرار للهاوية حينها، ولم يتسبب ردّها الحتمي بمقتل أيّ جندي أمريكي.
والآن، مع حادثة مقتل الجنود الأمريكيين الثلاثة، تنزلق إيران نحو منحدرٍ خطير في هذه السياسة، لكن أيّة حسابات دقيقة تحتاج إليها هذه الخطة التصعيدية غير المسبوقة؟ وهل بالفعل هو حساب دقيق أم خطأ حسابي واستراتيجي كبير؟
إنّ صمّام الأمان الأول الذي تعوّل عليه إيران في تجنّب حتمية الرد الأمريكي المباشر ضدّها، هو تنصلّها من هذه الهجمات، وتنفيذ الهجوم بيد جماعاتها بالوكالة.
كما أنّ إيران تجيد قراءة الظروف المحيطة بخصمها التاريخي، أي الولايات المتحدة، وتدرك جيّداً أنّ فتح جبهة خطيرة ضدّها في هذا التوقيت الحرج، حيث لم تُحسم الحرب في غزّة بعد، ولا في أوكرانيا، وبدء حملات الانتخابات الرئاسية في أمريكا، سيكون له تداعيات مجهولة، وقد تكون كارثية على مختلف الصعد، سيّما وأنّ الولايات المتحدة لم تتمكن بعد من تشكيل التحالف المطلوب للبدء بشنّ هذه الحرب، أو حتى تهيئة الرأي العام الأمريكي في الداخل لمثل هذه الحرب، التي تجنّبها القادة الأمريكيون على مرّ عقود.
لكن على الرغم من مخاطر الردّ على مقتل الجنود الثلاثة في هذا التوقيت، فإنّ إدارة بايدن، التي عُرفت بمرونتها ومسايرتها لإيران، مُرغمة على اختيار الردّ الأنسب الذي سيتم حسابه في أروقة صناعة القرار الأمريكي بدقّة بالغة، للحفاظ على هيبة الدولة العظمى في العالم. فعدم الردّ سيعني أن تستعد الولايات المتحدة لمقتل المزيد من جنودها، بعد جسّ النبض الأخير والخطير من قِبل إيران لردّ فعلها، ومن المؤكد أنّ ذلك لن يكون مقبولاً بأي شكلٍ من الأشكال في الداخل الأمريكي. ولعلّ التَّأنّي في الردّ على مقتل هؤلاء الجنود حتى اللحظة، يفسّر مدى خطورة اتخاذ مثل هذا القرار القادم.
إنّ الخيار الأرجح والأكثر عقلانيّة بالنسبة للولايات المتحدة، سيتمثل في حصر الطرف الذي تسبب بشكل مباشر في مقتل الجنود الأمريكيين، دون الانجرار إلى حرب شاملة مع إيران، لذلك قد نشهد خلال وقتٍ قريبٍ، هجمات جويّة انتقامية موسّعة ضد “فصائل المقاومة الإسلامية”، في العراق وسوريا، ومما لا شكّ فيه، ستكون هذه الضربات مختلفة عن ردود الفعل السابقة للضربات الأمريكية التي كانت تأتي على نطاقٍ محدود. وفي المقابل، سيكون من المرجّح أن تمتصّ إيران الغضب الأمريكي، ولن تبادر بتصعيدٍ متزامنٍ غير متوقع، وستعود إلى ضبط إيقاع اللعبة مع الولايات المتحدة، كما كانت عليه الحال، قبل هجمات يوم أمس، والاكتفاء بالهجمات الصغيرة المتفرقة من قِبل الميلشيات الموالية لها في المنطقة. بالنتيجة.. قد تكون خيارات الردّ الأمريكي محدودةً بالفعل على هذه الحادثة، لكن أعتقد أنّ مقتل الجنود الأمريكيين، سيكون سبباً في تقريب وجهات نظر الديمقراطيين والجمهوريين حيال مواجهة إيران، وقد نكون أمام حزمٍ أكبر من قِبل الإدارة الأمريكية الحالية، حيال مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وقد يكون الردّ القادم بدايةً لتقليم أذرع إيران في المنطقة، والتفكير جدّياً في قطع الشريان الرئيسي الذي يغذّي هذه الأذرع، والمتمثل في الحدود العراقية-السورية. وهذا بدوره سيتطلّب تعزيز التواجد الأمريكي في المنطقة، على عكس التصورات التي شاعت خلال الآونة الأخيرة القائلة بتفكير الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ جدي في الانسحاب من المنطقة.