مقالات رأي

حرب غزَّة من منظور “شعب الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الشعب الإيراني”

بعد اتساع رقعة الحرب في غزة، التي اندلعت بين حماس وإسرائيل، عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، شهدت الكثير من مدن وعواصم العالم تجمّعاتٍ حاشدة متضامنة مع أهالي غزة تطالب بإيقاف الحرب، وتدعو إلى إدانة قتل المدنيين، بعد انتشار مشاهد القتل والدمار.

ونظراً لاعتبار إيران من أهم داعمي حماس و”محور المقاومة” في وجه إسرائيل، تحدونا الرغبة في معرفة مدى تفاعل الشعب الإيراني مع مجريات الأحداث في غزة، وهل شهدت المدن الإيرانية تجمعاتٍ شعبية عفوية مماثلة لما شهدته مدن العالم لدعم غزة؟

إنّ النظام الإيراني هو كسائر الأنظمة الدكتاتورية في العالم، بإمكانه حشد مناصريه ومواليه، في أي حدثٍ يصبّ في خدمة عقيدته وأهدافه، وبالتالي فقد رأينا في العاصمة طهران ومدن إيرانيّة أخرى مسيراتٍ تدعو إلى نصرة غزة، وتندد بإسرائيل وتدعو لها الزوال، تناغماً مع التوجه العقائدي لنظام الجمهورية الإسلامية.

وكان العلم الفلسطيني، وعلم حزب الله، وصور قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، يتصدر المشهد في هذه المسيرات، كما كانت الهتافات عقائدية تمجّد حسن نصر الله وتدعو المسلمين إلى التوحد في مواجهة إسرائيل. وهذا يدل بوضوح على الانسجام التام لأهداف هذه المسيرات مع سياسات وأهداف الجمهورية الإسلامية بشأن القضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل، ويشير إلى عدم عفويتها وشمولها مختلف أطياف الشعب الإيراني المتنوع، ولا سيّما الشريحة المناهضة لنظام الجمهورية الإسلامية وسياساته، والتي تعيش قمعاً يومياً على يد الأجهزة الأمنية للنظام، وتختلف نظرتها وتطلعاتها لأسلوب الحياة الذي يعيشه الشعب الإيراني بشكل عام.

وتسعى هذه الشريحة إلى إعادة تعريف بنيوية للدولة القائمة التي يعيشون على أراضيها، ويقوم هذا التعريف على أساس الفصل بين مصطلح “الجمهورية الإسلامية” بملامحها وشكلها الثيوقراطي القروسطي الحالي، وبين إيران الدولة العلمانية المتصالحة مع دول الجوار والمنسجمة مع القيم الحداثوية العالمية.

وعليه، يمكننا مجازاً تسمية المواطنين الإيرانيين المؤيدين لسياسات النظام القائم بـشعب “الجمهورية الإسلامية”، الذين يأتي ولاءهم لعقيدتهم ومذهبهم الشيعي في الدرجة الأولى، والفئة الأخرى التي غابت عن هذه الحشود، لأسباب سنحاول إلقاء الضوء عليها وإيجازها في هذا المقال، بـ “الشعب الإيراني”.

على الرغم من أنّ الشعب الإيراني، كسائر شعوب العالم، تأثر بمشاهد القتل المروعة التي تطال المدنيين في غزة، لكنه لم يخرج في مسيرات تضامن تحمل رسائل سياسية أو تعبّر عن موقفه من هذه الحرب، منطلقاً في ذلك من معارضته لسياسات نظام الجمهورية الإسلامية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما أنه -على نقيض “شعب الجمهورية الإسلامية”- أدان ما قامت به حماس ضد المدنيين الإسرائيليين في هجومه الأخير، ويَعتبر حماس حليفاً مهمّاً للنظام الإيراني، الذي ينفق عليه وعلى سائر الفصائل الأخرى التي تعمل تحت إمرته، من مقدرات البلاد، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية التي تسببت في إفقار الشعب الإيراني، وحرمانه من العيش على أرضه حياةً حرة وكريمة. أضف إلى ذلك، أنّ الشعب الإيراني يعتبر أنّ حماس هي سبب معاناة الفلسطينيين، كما هو النظام الإسلامي سبب معاناتهم.

ينظر الشعب الإيراني، بشكل أو بآخر، إلى حماس كجزء من “فيلق القدس”، الذي يُعتبر الذراع الخارجي للحرس الثوري، وله سجّل أسود لدى الشعب الإيراني، حيث يقوم بتصدير العنف والاضطرابات الأمنية إلى الدول المجاورة، ويتسبب في المآسي التي يعاني منها شعوبها مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان، بسبب تدخلاته في هذه الدول، ووقوفه حجر عثرة أمام استقرارها، وربط سبل الحل في هذه البلاد، بأهداف النظام الإيراني التوسعية، والمساومة عليها لتحقيق هذه الأهداف، التي لن تخدم في نهاية المطاف تطلعات الشعب الإيراني نحو الحرية، والحياة العصرية، التي يطمحون إليها.

إنّ ما عزّز هذا الاستياء لدى الشعب الإيراني، من حرب إيران بالوكالة في المنطقة، ومنها في غزة، هو ازدياد الهوّة بينهم وبين النظام، بسبب القمع الكبير الذي يتعرّض له منذ أكثر من أربعة عقود، وازدياد حدته في السنوات الأخيرة، ولا سيما خلال الانتفاضتين الأخيرتين؛ حيث اندلعت الانتفاضة الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وقُتل فيها قرابة 1500 مواطن إيراني على يد سلطات الجمهورية الإسلامية، وفقاً لتقارير حقوقية دولية، بسبب احتجاجاتهم على الواقع المعيشي، والاقتصادي المتدهور.

في إطار التصعيد الأمريكي أيضاً ضد ممارسات “فيلق القدس” وأذرعه في الإقليم، جاء مقتل قاسم سليماني، ما انعكس بدوره على الداخل الإيراني، نتيجة عمليات التصعيد بين إيران والولايات المتحدة، التي حدثت بعدئذٍ، حيث أسقط الحرس الثوري، في غضون هذا التصعيد، الطائرة الأوكرانية التي كانت تقلّ ركاباً مدنيين، وكان من بينهم 82 راكباً إيرانياً، وما تزال شريحة واسعة من الشعب الإيراني تعتبر أنّ إسقاط الطائرة كان متعمداً من قبل السلطات الإيرانية.

هذا التصعيد المتبادل بين إيران وأمريكا، والقوى الغربية، أدّى إلى انغلاق الأفق السياسي الإيراني، وبالتالي كان لذلك دور كبير في تولي الأصوليين الحكم في إيران، وإنهاء أي بصيص أمل لحلحلة المشاكل الداخلية، أو الانفتاح على العالم.

أدى استلام الأصوليين بقيادة إبراهيم رئيسي دفة الحكم في إيران، وتغلغلهم في كافة المؤسسات الحكومية والأمنية، إلى تشديد فرض القيود على حياة المواطنين الإيرانيين، فكانت حادثة مقتل الشابة الإيرانية الكردية ژینا/مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، أحد نتائج هذا التزمّت الديني الذي أفرزه الأصوليون، وأعقب هذه الحادثة اندلاع ثورة “المرأة، الحياة، الحرية” في أيلول/سبتمبر 2022.

وتعتبر أحد أهم الشعارات التي يطلقها الشعب الإيراني في حراكه ضد النظام هو شعار” لا لغزة، لا للبنان، روحي فداءٌ لإيران”، ويعكس هذا الشعار مدى رفضهم لدعم الجماعات المسلحة الموالية له في المنطقة.

وإذا سلطنا الضوء أكثر على مجريات الأحداث في إيران، أثناء حرب غزة، نجد أنّ الشعب الإيراني يعيش حالة نقمة من النظام الإيراني، سيّما بعد وفاة الطالبة آرميتا غراوند ( 16 عاماً)، في 28 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بعد غيبوبة دامت 28 يوماً، وذلك بسبب تعرضها للضرب على يد “حرّاس الحجاب” في مترو الأنفاق في طهران، وممارسة السلطات الإيرانية التضليل في هذه الحادثة أيضاً.

كما أنّ مقتل المخرج السينمائي الإيراني، داريوش مهرجويي، الذي يُعتبر أحد أهم السينمائيين في تاريخ السينما الإيرانية، بطريقة مفجعة مع زوجته، أدى إلى تحوّل تشييعهما إلى مظاهرة تهتف ضد النظام الإيراني، وإلى مناسبة لإطلاق شعار “لا لغزة، لا للبنان، روحي فداءٌ لإيران”، وذلك بسبب وجود قناعة لديهم أنّ النظام يقف وراء مقتلهما، بسبب مواقفه المعارضة.

وأخيراً، فإن أهم الأسباب التي كانت عاملاً في عدم تفاعل الشعب الإيراني مع قضية غزة، هي قضية سيستان وبلوجستان، المحافظة النائية والمهمّشة، التي ما تزال تشهد حراكاً مستمراً ضد النظام، منذ انطلاق الثورة الشبابية الأخيرة في إيران، حيث تتعرض لأشد أنواع القمع والتنكيل بالمواطنين الإيرانيين البلوج. وبسبب الأحداث الدامية التي تعرضت لها مدينة زاهدان في “الجمعة الدامية”، ما تزال عمليات القتل والإعدام وحملات الاعتقال مستمرة ضدهم حتى يومنا هذا، مما دفع الشعب الإيراني إلى إطلاق شعار “زاهدان هي غزّةُ إيران” على وسائل التواصل الاجتماعي.

في المحصلة، نجد أنّ الشعب الإيراني، على الرغم من تأثره بما يجري من أحداث في غزة، إلا أنه يحجم عن المشاركة في أي مسيرات داعمة لها، بسبب إدراكه أنّ من يدير هذه الحرب هو النظام الإيراني، وأنّ حركة حماس تلتقي في الاستراتيجية الإيرانية مع الحرس الثوري، ومع “منظمة البسيج” التي تقتل الشعب الإيراني بدمٍ بارد في كل حركة احتجاجية يقومون بها، وهذا ما عبّر عنه صراحةً علي خياط، مدير الحوزة العلمية في خراسان، بقوله: “إنّ إحدى ثمار البسيج هي هجوم حماس على إسرائيل”.

كما أن الشعب الإيراني يدرك أكثر من غيره، أنّه في حالة حرب مستمرة مع نظام الجمهورية الإسلامية، الذي يفتعل الحروب في الشرق الأوسط لحماية نفسه من السقوط، وهو في حاجة دائمة لتغيير ميدان الحرب لتحقيق هذا الهدف، حيث جاء ذلك واضحاً في قول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، عندما قال: “إذا لم ندافع اليوم عن غزة، فإنّ علينا أن ندافع غداً عن أنفسنا في كلّ مدينةٍ من مدننا”.

زر الذهاب إلى الأعلى