قضايا راهنة

الانتخابات التركية.. قراءة تحليلية

وُصِفت الانتخابات العامة في تركيا للعام الحالي 2023، على أنها من أهم الانتخابات التي مرّت بها الجمهورية التركية منذ نشأتها. لذلك، أخذت حيّزاً واسعاً من الاهتمام الإقليمي والدولي، لدرجة تشابه حجم الاهتمام بها بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد يعود هذا لأسباب عدة، تتعلق بموقع تركيا السياسي في الأحداث الإقليمية والدولية السائدة، وتأثيرها في مجريات الأحداث، والذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية، خاصة بعد موجة التغيير التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2011، والتي أظهرت نشاطاً كبيراً للدبلوماسية التركية في جميع بؤر الصراع والتوتر، بدءاً من تونس، وصولاً إلى سوريا، والتي كانت لها الحصة الأكبر من التدخل التركي العسكري والسياسي.

هذا، إلى جانب دورها في الصراع الغربي الروسي، والذي اُعتبِرَ من أكثر الأدوار إثارةً للجدل، بسبب ضبابية الموقف التركي، والمناقض للتوجه السياسي لمجموعة حلف شمال الأطلسي. فضلاً عن التطور غير الطبيعي الذي طرأ على العلاقة التركية الروسية، والذي أوصل بالتعاون السياسي والعسكري والاقتصادي بين الجانبين إلى أعلى المستويات، بما فيه المجال النووي، مما أظهر تركيا على أنها القوة الأكثر فعالية في صنع القرار الدولي والإقليمي، وهذا ما جعل منها موقع تعقب ومتابعة لغالبية الأوساط العالمية.

وجه الاختلاف بين النظام الحاكم والمعارضة

في العملية الانتخابية، التي جرت في 14مايو / أيار الجاري، وقبلها في فترة الدعاية الانتخابية بين الأحزاب والتحالفات السياسية، تركزت الأنظار حول مفصلية المرحلة بالنسبة لتركيا. وبالتالي، تأثيرها على محيطها الدولي والإقليمي، من حيث شكل العلاقة، وطبيعة توجهها السياسي، في ظل المتغيرات السياسية الجارية على الساحتين الدولية والإقليمية، اعتماداً على التعارض الظاهر بين المعارضة التركية وحزب العدالة والتنمية، الذي يحكم تركيا منذ عقدين من الزمن، سيما مسألة شكل الحكم الإسلامي والمحافظ، والساعي إلى “العثمانية الجديدة”، والنظام القومي العلماني الذي تأسست عليه الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وحزبه (الشعب الجمهوري)، والذي يترأسه الآن المرشح الرئاسي كمال كليجدار أوغلو، وتصوير المشهد من كلا الجانبين على أنه تصحيح لمسار الجمهورية التركية من منظورين مختلفين.

في واقع الأمر، كشفت مجريات العملية الانتخابية عن الكثير من المؤشرات غير المعلنة للسياسة الخارجية والداخلية لتركيا، ومنها صعود طرف ثالث في ظل التنافس الشديد بين الطرفين الرئيسيين (المعارضة، والنظام)، وهو الطرف القومي التركي المتطرّف، والذي استطاع قسم منه أن ينتزع صفة “صانع الملوك” من الحزب الكردي، حزب الشعوب الديمقراطي، ويحدد موقفه من المرشحين المتنافسين بناءً على من يعادي القضية الكردية أكثر في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وهذا ما صرح به – بشكل مباشر- سنان أوغان، المرشح عن “تحالف الأجداد”، ذو الطابع القومي المتشدد، في إحدى تصريحاته الإعلامية عقب انتهاء الانتخابات مباشرةً.

عملية توزيع الأدوار داخل الكتل الانتخابية وانعكاسها على النتائج

إلى جانب ما ذكرناه سابقاً، كان هناك جانب مخفي -أيضاً- للعملية الانتخابية، والذي يتعلق بشكل ومضمون التحالفات، حيث – ولأول مرة – نجد توزيع واضح لأدوار الحركة القومية المتطرفة، وحزب العدالة والتنمية في الكتل المنافسة.

ولكن قبل الخوض في عملية توزيع تلك الأدوار، من المهم تعريف حزب الحركة القومية التركية المتطرف بشكله الحزبي والفكري:

هذا النموذج من القومية التركية يهدف إلى إنشاء نظام أناضولي تركي مهيمن، منسوج بـ”التركياتية” الخالصة النقية، لا يقبل بأي عناصر إثنية في خارطتها السياسية، وغالباً كان نشاطاته توازي الفكر “النازي الهتلري”. وهو امتداد غير معلن لجمعية “الاتحاد والترقي” وحزب الشعب الجمهوري.

تحول هذا النموذج إلى حزب، بمبادرة من ألب أرسلان “توركيش” عام 1969، حيث تزعم الحزب “دولت بهجلي” بعد وفاة مؤسسها توركيش.

للحزب جناح عسكري، ونفوذ قوي في الجيش ومجلس الأمن القومي التركي، فضلاً عن قيادته لتنظيم “الذئاب الرمادية” الشبابي المتطرف، والذي قام بتنفيذ المئات من العمليات الإرهابية ضد الحركات اليسارية والكرد في الداخل التركي وخارجه.

هذا الحزب منفتح على الإسلام السياسي، لكن بشرط أن يكون بقيادة تركية دون غيرها، لذا تحالفَ مع حزب العدالة والتنمية. وفي الوقت الذي يعرّف الحزب فيه عن نفسه بأنه ينتمي إلى المعسكر المحافظ، فإن الغرب يصفونه بأنه أقرب للتوجهات “القومية المتطرفة”.

بالعودة إلى عملية توزيع الأدوار في الانتخابات العامة الأخيرة، فقد لوحظ أن هذا الحزب أو الحركة، وعلى خلاف المعتاد، كان له تواجد في غالبية الكتل الانتخابية، إن لم نقل جميعها، وهذا التواجد أو التوزع إن قلنا بأنه نابع من اختلاف سياسي، فأنه لن يكون بطبيعة الحال اختلاف فكري وإيديولوجي، قد يتعلق بعضه بالتوجهات السياسية للكتلتين الرئيسيتين، كمسألة اللاجئين السوريين وغيرهم، وشكل العلاقة مع المحيطين الدولي والإقليمي لتركيا، ولكن فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، فيبدو أن التوجهات الأيديولوجية تكون هي الحاسمة في العملية الانتخابية.

هناك تساؤلات ودلالات شبه واضحة في شكل التحالفات الانتخابية، خاصة داخل الكتلتين الرئيسيتين، والتي توحي بمسألة توزيع الأدوار، بهدف إبقاء تركيا على نظامها الحالي، ذو التوجه القومي الإسلامي المتطرفين.

بالنظر إلى تشكيلة “تحالف الأمة” ذات الاتجاه الكمالي، نجد أنها نسخة مطابقة لـ”تحالف الشعب” الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، خاصة من الجانب الأيديولوجي، وهذا ما أدى إلى ضعف وتشتت في هيكلية هذا التحالف، ففي نهاية المطاف يعود الابن لوالديه (حزب الحركة القومية – العدالة والتنمية)، فضلاً عن أنه من الصعب تغيير التوجه الفكري للقاعدة الشعبية في حالات التباعد السياسي، وهذا يعني أن الأحزاب الموجودة في كتلة “تحالف الأمة”، كـ (حزب الجيد) الذي تقوده ميرال أكشينار ذات الجذور القومية المتطرفة، والتي شاركت في تأسيس حزب العدالة والتنمية، وحزب السعادة المنحدر من حركة الفكر القومي “مللي غوروش”، بقيادة “تمل كاراملا أوغلو”، وحزب المستقبل بقيادة أحمد داوود أوغلو، والذي يُعتبر منظر العدالة والتنمية ومشروع “العثمانية الجديدة”، أو حزب علي بابا جان (الديمقراطية والتقدم). هذه الأحزاب وقياداتها، ربما لن يكون لهم إمكانية كافية لتوجيه ناخبيهم باتجاهات مختلفة عن توجهاتهم الفكرية، هذا إذا سلمنا بالأمر أن القادة نفسهم مقتنعين بموقعهم السياسي، مما يؤدي إلى ظهور حالة من الضعف وعدم التماسك في صفوف “الطاولة السداسية”، وكان هذا واضحاً عقب نتائج المرحلة الأولى للانتخابات، وإقالة حزب الشعب الجمهوري أهم الأشخاص الفاعلين في إدارة الحملة الانتخابية، وهم: أنورسال أديجوزال، نائب رئيس مجلس إدارة تكنولوجيا المعلومات، ومديري الحملة الانتخابية، أكان عبد الله، وعلي كرميتشي. طبعاً الأسباب المعلنة للإقالة، كانت بسبب الانتقادات التي وجهت لهم من قبل أنصار حزب الشعب الجمهوري، ولكن من غير المستبعد أن يكون هناك صفقات تواطئ تتعلق بأمور تقنية وإعلامية وإدارة مراقبة صناديق الاقتراع، خاصة فيما يتعلق بالمؤشرات الأولية للنتائج، والتي أظهرت تفوق تحالف الشعب بنسب كبيرة، عكس التوقعات والاستطلاعات التي سبقت العملية الانتخابية، سيما وأن هناك الكثير من الشكوك حول نزاهة اللجنة العليا للانتخابات، والحديث عن عمليات تزوير وتلاعب بالأرقام، وعدم قدرة “تحالف الأمة” بالحفاظ على صناديقهم الانتخابية، وبقاء أكثر من 20 ألف صندوق دون رقابة حقيقية، الأمر الذي أتاح للطرف الآخر سرقتها والتلاعب بها.

السبب الآخر الذي أضعف من موقف تحالف الأمة، بالأخص حزب الشعب الجمهوري، هو اختيارهم الخاطئ للمرشح الرئاسي كمال كليجدار أوغلو، المنحدر من أصول كردية علوية، وما زاد الطين بِلّة أنه أعلن عن ذلك خلال الحملة الانتخابية، ليعطي بذلك فرصة كبيرة لـ”تحالف الشعب” باستغلال ذلك واتهامه بالمذهبية، فضلاً عن عدم امتلاكه لـ”كاريزما” قوية تمكنه من التفوق على منافسيه، إلى جانب افتقاره لتمثيل غالبية الشرائح التركية، خاصةً بعد قرار حزب الشعوب الديمقراطي بدعمه، وعدم طرح مرشح من قبلهم.

فتح الله غولن الغائب الحاضر

إن غياب (حركة خدمة) التي يتزعمها فتح الله غولن، المتهم بالوقوف وراء “محاولة الانقلاب الفاشلة 2016″، عن عملية الانتخابات الأخيرة، كان محل استغراب، وعلى خلاف المعتاد، فقد ظهر نوع من توزيع للأدوار بين الأطراف السياسية، وقد ذكرنا بعض مؤشراتها، ولكن ظلت هذه الحركة بمعزل عن كل ذلك، أي لم يظهر لها أي موقف سياسي متعلق بالعملية الانتخابية، باستثناء تغريدة المرشح الرئاسي المنسحب محرم إينجه رئيس حزب “البلد” واتهامه لأنصار الحركة بالوقوف وراء الفضائح التي تعرض لها في مواقع السوشيال ميديا.

رغم طبيعة هذه الحركة البعيدة عن التحزب، ألا أنها – وبخلاف ما تدعيه بأنها ليست حركة سياسية، أنما هي حركة إسلامية اجتماعية، ناشطة في المجالات المدنية والتعليمية والتنموية – كان لها دوراً وتأثيراً واضحاً في عملية صناعة القرار السياسي، سيما دورها الكبير في صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002، بحكم نفوذها القوي داخل مؤسسات الدولة، وامتلاكها لعدد كبير من المؤيدين داخل وخارج البلاد.

من غير الممكن تصور حيادية هذه الحركة في الانتخابات الأخيرة، وما يدعم هذا الرأي هي نسبة المشاركة التي أعلنت عنها اللجنة العليا للانتخابات، والتي تجاوزت الـ 88%، وهي أعلى نسبة مشاركة قياساً بسابقاتها، وهذا مؤشر واضح لاتباع الحركة سياسة الظل المعتادة، ليبقى السؤال الأهم، أين ذهبت أصوات مؤيدي الحركة؟ وفق المعطيات، لم يتم ذكر اسم الحركة وزعيمها فتح الله غولن في الحملة الانتخابية من قبل المنافسين، خاصة أردوغان الذي لم يترك مناسبة إلا وتوعد بها فتح الله غولن، سيما بعد عام 2016 على خلفية اتهامه بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، ولكن تحديداً في مرحلة الدعاية الانتخابية خفض من وتيرة عدائه للحركة وزعيمها، وهذا يدل على إمكانية أن يكون قد جرى تواصل وتسوية بين الجانبين، قد نرى نتائجها بعد إتمام المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وبالتالي يضعنا أمام أسئلة أخرى تتعلق بالموقف الأمريكي، من التقارب المحتمل، بحكم العلاقة المتينة بين غولن وواشنطن، ومدى تأثير الأخيرة على توجهات غولن السياسية، فضلاً عن الموقف الغربي الحقيقي من حكومة العدالة والتنمية، أن كان ضد، أو مع استمرارية حكمها.

حزب الشعوب الديمقراطي والحسابات الخاطئة

في ظل تعرض حزب الشعوب الديمقراطي للملاحقات القضائية من قِبل حكومة العدالة وحزب الحركة القومية، وحملات الاعتقال الواسعة التي طالت قيادات الحزب، بدءاً من رئيس الحزب ووصولاً إلى البرلمانيين ورؤساء البلديات، إلى جانب سحب الدعم المالي المستحق، توجه الحزب نحو حساباتٍ خاطئةٍ، كقرار المشاركة باسم (حزب اليسار الأخضر) ذو الطابع اليساري، ومن ثم التوجه نحو تشكيل تحالف -أيضاً- بنفس الطابع (العمل والحرية) بالتشارك مع أربع أحزاب يسارية، كحزب العمل، وحزب الحركة العمالية، وحزب العمال التركي، إلى جانب حزب اتحاد المجالس الاشتراكية. وهذا -وفق الآراء- لم يكن معبراً بشكل شامل عن إرادة أنصار الحزب ذو الغالبية الكردية، ومتعدد الاتجاهات الفكرية، فرغم ولائهم لحزب الشعوب الديمقراطي، إلا أن هذا لا يعني أن جميعهم ذوي توجه يساري، ويعتقد أن هذا الجانب كان سبباً رئيسياً في تراجع أصوات الحزب، بالمقارنة مع النسبة التي حققها في الانتخابات العامة التي جرت في 2018، والتي وصلت لحدود 11،7%  بمجموع أصوات  تجاوزت ال 5 مليون و800 ألف صوت، بمعنى إن لم يتم التعديل الدستوري الخاص بنسبة تمثيل الأحزاب في البرلمان من 10% إلى 7% ، لما استطاع الحزب الوصول للعتبة البرلمانية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اتخاذ الحزب قرار عدم المشاركة بالانتخابات الرئاسية بمرشح رئاسي خاص بهم، وإعلانه عن دعم مرشح الطاولة السداسية كليجدار أوغلو، أدى إلى خلط في التوازنات وارتدادات سياسية، وانعكست سلباً على النتائج المأمولة لأسباب عدة:

  • عدم قبول غالبية أحزاب الطاولة السداسية بقرار حزب الشعوب، واعتبار ذلك تحالفاً مع حزب العمال الكردستاني، وهذا ما صرحت عنه ميرال أكشينار بشكل علني، بسبب وجود الأحزاب ذات التوجه القومي والمحافظة ضمن “تحالف الأمة”، وبالتالي ذهاب الكثير من الأصوات لمصلحة “تحالف الشعب”.
  • المراهنة على حتمية هزيمة “تحالف الشعب” وحكومة العدالة والتنمية، دون أخذ الواقع الحقيقي لشكل نظام الحكم في تركيا، ومستوى تمتعه بالديمقراطية بعين الاعتبار، سيما وأن حزب الشعوب له تجربة كبيرة مع النظام الحاكم في مسألة قمع الحريات العامة، وأن في ظل هكذا نظام لا يمكن للديمقراطية – بما فيها العملية الانتخابية – أن تأخذ مسارها الطبيعي.
  • ردة فعل شريحة لا بأس بها من الكرد، لتحفظها على شكل ومضمون التحالف (العمل والحرية) وضياع ما يقدر بنسبة 10% من أصوات الولايات الكردية، كان من المفترض أن تكون لصالح حزب الشعوب.
  • هذا التوجه الخاطئ في التعامل مع الانتخابات، أثر بشكل واضح على تمثيله البرلماني أيضا مقارنة بسابقاته، بسبب تركيز الحزب على الجانب الرئاسي من الانتخابات وإهماله الجانب البرلماني.

 

ختاماً.. إن الانتخابات الأخيرة في تركيا أظهرت الكثير من المؤشرات السياسية والفكرية، سواءً في الداخل أو في الخارج، وأن تركيا بمعارضتها وحكومتها وغالبية أحزابها وحركاتها، أثبتت انغلاقها شبه التام على مفاهيم التحول الديمقراطي، وعدم اكتراثها للقضايا الأساسية التي تواجه الدولة وتعجز عن حلها، وعلى رأسها القضية الكردية، التي ظلت العامل المقلق للدولة طوال عمرها الممتد لمئة عام، ذلك بسبب ما ذكرناه عن دور وتأثير الفكر القومي والإسلامي المتشددين على سياسة وإدارة الدولة التركية.

وما قيل عن أهمية ومفصلية الانتخابات، لم يكن إلا رؤية وقراءة ظاهرية مبالغة للواقع التركي، ففي الحالتين لم تكن لتركيا أن تتخذ سياسة مغايرة لما هي عليه الآن، باستثناء بعض التعديلات التي طرحتها المعارضة في حملتها الانتخابية، والمتعلقة بالتعديل الدستوري، وشكل السياسة الخارجية. أما بشأن اللاجئين، خاصة السوريين منهم، فليس هناك خلاف إلا على آلية إعادتهم لسوريا، وهذا ليس خلاف مصيري، فمن وجهة نظر النظام الحاكم أنه يجب إعادتهم، ولكن على مراحل و”بعد تأمين مكان آمن لهم في سوريا”، ولا شك أن الهدف من ذلك هو توطينهم في المناطق الكردية، بعد أن يتم تهجير الكرد منها، بحجة إنشاء “منطقة آمنة”، وهذا ما أكده أردوغان في لقاء تلفزيوني لأحدى القنوات التركية مؤخراً، حيث شكر ورحّب بقرار سنان أوغان بدعمه له في الدورة الثانية للانتخابات، وأنه شريك له في “مكافحة الإرهاب”، وأن قضية اللاجئين التي ركز عليها سنان أوغان سوف تحل عبر بناء مسكان لهم في الشمال السوري، تستوعب مليون لاجئ، وهذا سيتم في سياق الاجتماعات الرباعية بين موسكو وسوريا وإيران وتركيا.

لا شك أن هذا التوجه من حكومة العدالة والتنمية بشأن اللاجئين السوريين، له أبعاد أيديولوجية وتاريخية، تتعلق بمشروعي “العثمانية الجديدة”، و”الميثاق الملي”، الذي بموجبه تطالب به تركيا بكامل الشمال السوري وصولاً إلى موصل وكركوك. وهذا التوجه لم يكن ليتغير مع وصول المعارضة لسدة الحكم، حتى مسألة التطبيع مع حكومة دمشق لم تكن إلا مناورة سياسية لسحب البساط من تحت المعارضة.

حسب المعطيات من المرجح أن تكون المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية حاسمة لمصلحة أردوغان، بعد أن حقق الغالبية العظمى في نسبة تمثيل تحالفه في البرلمان، والذي تجاوز 320 عضو من أصل 600 مقعد برلماني، رغم عدم أهمية البرلمان في ظل النظام الرئاسي، ولكن ذلك سيعزز موقف الرئيس أكثر في أي مشروع سياسي يطرحه.

ستكون لهذه النتائج تبعات سياسية مؤثرة على المنطقة، فمن ناحية ستستمر تركيا في اتباع سياسة “الازدواجية” في علاقاتها الدولية والإقليمية، وقد تتجه نحو تعميق العلاقات مع روسيا الاتحادية بشكل أكبر، على حساب علاقاتها مع الغرب، ومن ناحية أخرى – وعلى المستوى الإقليمي- ستستمر في تهديد الشمال السوري بذريعة “محاربة الإرهاب” في سياق التفاهم مع القمة الرباعية التي جمعت كلاً من روسيا، وتركيا، وإيران، وحكومة دمشق، ولكن هذا ما سيعرّض أنقرة لمجابهة غربية أمريكية، دبلوماسياً واقتصادياً على أقل تقدير.

أما بالنسبة للداخل التركي، فأنه يتبين بأن جميع الفرص التي كان من المأمول منها أن تحول النظام التركي لنظام منفتح على الديمقراطية، لم تعد متاحة، ليس بسبب هزيمة المعارضة، إنما بسبب الفرص التي أتاحتها الأخيرة للنظام الحاكم لتوسيع نطاق دكتاتوريته أكثر من السابق، فإذا كان هناك بصيص من الأمل في صناديق الاقتراع، أو التوهم في ذلك، إلا أنه بعد العملية الانتخابية، لن يستطيع أي شيء أيقاف مسيرة الدكتاتورية في تركيا سوى ربيع تركي يسانده موقف دولي، وهذه الدكتاتورية ستطال الكرد بالدرجة الأولى، داخل الجمهورية التركية وخارجها.

زر الذهاب إلى الأعلى