قضايا راهنة

هل يعود أردوغان لـ”قُبّعة أتاتورك” بعد فشل ارتدائه “عمامة السُّلطان”؟

عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد فوزه “للمرة الأخيرة” في الانتخابات الرئاسية (2023)، لإثارة ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والذي كان مركوناً جانباً طيلة العقد المنصرم، ليثير هذا التّحول في سياساته الكثير من التساؤلات حول أسباب، وأهداف، ودلالات وضعه هذا الملف على الطاولة في الوقت الراهن.

تحتاج الإجابة على تلك التساؤلات لقراءة سياسات تركيا منذ انطلاق مفاوضات انضمامها عام 2005، ومن ثم تعليقها عدة مرات من قِبل الاتحاد الأوروبي، بسبب ما تعتبره بروكسل “تطورات غير مرضية” في سياسات تركيا؛ من بينها ملف الهجرة، والقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والديموقراطيات، والتوترات بين أنقرة وجيرانها، وتلك التي تتعارض مع مصالح الاتحاد الأوروبي.

أردوغان استبدل حلم تركيا بحلمه الشخصي

بسبب عدم التزام أردوغان بالشروط والواجبات التي تفتح له أبواب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، باتت تركيا أمام تلك الأبواب منذ نصف قرن، ليقوم أردوغان بتغيير وجهة البوصلة التركية من الغربِ نحو الشرق، واستبدال حلم تركيا بالانضمام للاتحاد بحلمه الشخصي، بأن يصبح سلطانا عثمانياً جديداً، حيث وجد في انطلاقة احتجاجات “الربيع العربي” عام 2010 فرصة لتحقيق هذا الحلم، وبدأ استعداداته لخوض مغامرته من داخل تركيا، عبر إزاحة كافة العوائق المحتملة، كتغيير نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، ووضع كل السلطات التنفيذية والتشريعية بيد الرئيس، بما فيها النظام القضائي، لتصبح كافة قرارات الحرب والسلم بيده.

وبهدف فتح الطريق أمام التدخل العسكري المباشر في الدول المجاورة، أنهى أردوغان “عملية السلام” مع الكرد عام 2015، ومن ثم أعدّ مسرحية الانقلاب الفاشل عام 2016 للتخلص من كافة القوى والشخصيات الرافضة لنهجه الجديد، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد، لتصبح الأبواب مفتوحة أمامه لخوض معاركه الخارجية معتمداً على الجماعات الإسلامية والجهادية بالدرجة الأولى، وعلى رأسها “الإخوان المسلمون”، ومن ثم تنظيم داعش، حيث كان هدفه الاستراتيجي أن يسيطر “الإخوان” على السلطة في كل من مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والسودان، إلى جانب سيطرة داعش وباقي التنظيمات الجهادية على سوريا والعراق، لتصبح كل تلك الجماعات بمثابة “جيش انكشاري” تابع للسلطان العثماني الجديد، ولينهي بذلك “إرث أتاتورك” العلماني في تركيا، واستبداله بحلمه في إحياء “الإمبراطورية العثمانية”.

السياسات التركية السابقة راهنت على تصور يسعى لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، لذا اتخذت “الإسلام السياسي” أداة للتمدد وفرض النفوذ. ورغم أن بعض التنظيمات والأحزاب والأنظمة الإسلامية، وخاصة التابعة لـ”الإخوان المسلمين”، حاولت التّرويج بشكل غير مباشر لمشروع “العثمانية الجديدة” في الدول العربية، إبان احتجاجات “الربيع العربي”، إلا أن شعوب المنطقة رفضته، وكان -في أقل التقديرات- قراءة غير متوافقة مع مطالبهم، خاصة بعد خروج التنظيمات الإرهابية كـ”داعش وجبهة النصرة” وما شابههم، من رحم تلك “الثورات”؛ نتيجة ركوب الإسلاميون أمواجها، لتتيقن الدول العربية أن هذا المشروع هو في أصله مولّد للإرهاب، مثل شجرة تتفرع منها تنظيمات مسلحة، بينما يزعم الجذع أنه “معتدل” و”مسالم”، وبالتالي كان مصيره السقوط.

أسباب استدارة أردوغان نحو الغرب مجدداً

بالنظر إلى المعطيات والمتغيرات الإقليمية والدولية، يمكن استنتاج عدة أسباب دفعت أردوغان لتغيير نهجه، والتوجه نحو الغرب، بعد أن كان يميل باتجاه المحور الروسي. ومن بين تلك الأسباب:

  • انهيار حلم أردوغان في إحياء “العثمانية الجديدة”، بعد فشل “الإخوان المسلمين” والجماعات الجهادية السيطرة على البلدان العربية.
  • فشل أردوغان في القضاء على الكرد، رغم توظيف العديد من الجماعات الإسلامية والمتطرفة لمحاربتهم، بعد أن أصبح الكرد قوة وطرف جديد في المنطقة، وتدخل “التحالف الدولي” لدعمهم في محاربة تنظيم داعش، الأمر الذي أدى لاستنزاف تركيا قوتها العسكرية والمادية والسياسية في محاولاتها القضاء على الكرد، وشكّلت عائق أمام أهداف أردوغان التوسعية نحو العالم العربي والإسلامي.
  • تدخل القوى الدولية العظمى كأمريكا وروسيا في سوريا، والعراق، وليبيا، وغيرها من المناطق التي كانت تركيا تعتبرها نقاط انطلاق هيمنتها على الشرق الأوسط، مما أدخلت تركيا في معضلة اللعب على حبال التوازنات، وأدى وجود هذين القوتين المتصارعتين في المنطقة لعرقلة تمرير مخططها.
  • الانهيار المتسارع للاقتصاد التركي، وعدم قدرتها وقف نزيف قيمة الليرة التركية؛ نتيجة خوض تركيا حروب الوكالة والحروب المباشرة في العديد من البلدان، وتدهور علاقات تركيا الخارجية مع الدول الغربية والعربية، والانخفاض الشديد للاستثمارات والعلاقات الاقتصادية لتلك الدول في تركيا.
  • الحرب الأوكرانية وتداعياتها التي أعادت رسم خريطة المحاور والتحالفات الدولية، ووسعت نطاق الصراع بين المحورين الغربي والروسي في الشرق الأوسط، وبالتالي تقليص مساحة المناورة التركية التي علقت على حبل التوازنات بين المحورين. كما أدى إلى ضعف المحور الروسي.

السياسة الخارجية التركية ما بعد الانتخابات الأخيرة

بعد خوضه، لأكثر من 10 أعوام، حروباً وصراعات عبثية في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتدخله العسكري في دول الجوار، والتي أدت لتدهور علاقات تركيا مع الغرب وأميركا واسرائيل والدول العربية والخليجية، عاد أردوغان للاستدارة نحو الاتحاد الأوروبي، والتي ظهرت بشكل صريح إثر موافقة إردوغان المفاجئة على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، واشتراطه قبول انضمام الدولة الاسكندنافية مقابل إحياء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

فهذا التغيير في المواقف يثير التساؤل حول ما إذا كانت هذه الاستدارة “تكتيكية” أم أنها مؤشر على تغير استراتيجي في سياسات تركيا الخارجية؟

يمكن الاجابة على هذا السؤال من خلال رصد أبرز المتغيّرات التي طرأت على سياسات تركيا، وتعاطيها مع محور أميركا والغرب من جهة، ومحور روسيا وإيران من جهة أخرى، بالإضافة إلى العلاقات مع الدول العربية والخليجية، والتعاطي مع تنظيم “الإخوان المسلمين” من جهة أخرى.

أولاً- تقارب تركيا من الغرب وتأزّم علاقاتها مع روسيا

باتت تتكشف بعضاً من ملامح سياسات أردوغان وحكومته، بعد الانتخابات الأخيرة، من خلال إعادة ضبط علاقاته مع كافة الدول الإقليمية والدولية. وكل المعطيات تشير بأنه ينوي العودة إلى “المحور الغربي” مع محاولات الحفاظ على بعض العلاقات التجارية والدبلوماسية مع روسيا، وما يرجّح ذلك أنه في الفترة التي سبقت أصعب معاركه الانتخابية، لم يتردد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مهاجمة حلفائه الغربيين ومبادئهم، واتهم واشنطن بـ”التدخل في الانتخابات”، وذلك سعياً منه -حينها- لتعزيز الدعم من الناخبين المحافظين والقوميين وإلهائهم عن أدائه الاقتصادي السيئ داخلياً في السنوات الأخيرة. وفي المقابل، ورغم أن روسيا هي التي كانت تدعمه في الانتخابات وترغب في فوزه، ووفر بوتين له طوق نجاة مالي خلال حملته الانتخابية، إلا أنه انقلب بعد الانتخابات على روسيا، وبات يتودد لأميركا والغرب.

هذه المواقف الجديدة بعد الانتخابات، تشي بتخلصه من ضغوط الانتخابات التي شكّلت تحدياً لسياساته ومواقفه المحلية والإقليمية والدولية، كما أنّه موقف يشير إلى احتمالية أنّه كان نتاجاً لمفاوضات سرّية بين تركيا وأمريكا، ويبدو أنّه تم التوصل خلالها إلى حلول وسط بين واشنطن وأنقرة، تم بموجبها موافقة واشنطن على استئناف صفقة طائرات (إف 16) لتركيا، مقابل انضمام السويد للناتو، ووعود أمريكية بدعم مطالب تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وهذا مؤشر على أن أردوغان لا يريد أن يخسر هذه المرة “صفقة إف 16” بعد أن خسر “صفقة إف 35″؛ نتيجة إبرامه صفقة صواريخ “أس 400” مع روسيا، والأهم من ذلك يبدو أنه لم يشأ إغضاب واشنطن في وقت تمرّ فيها بلاده بأزمة اقتصادية صعبة.

فيما كشفت مشاركة تركيا في قمة الناتو، الذي عُقِد بتاريخ 11 و12 يوليو/تموز 2023 في العاصمة اللتوانية فيلنيوس، العديد من المؤشرات الأخرى الأكثر وضوحاً حيال سياسات تركيا الاستراتيجية، وأسلوب تعاطيها مع أميركا والغرب، فبحسب صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، أنه «قبل بدء قمة الناتو، أبلغ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان نظيره الأميركي أنتوني بلينكن بأن تركيا ستضع قضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على رأس جدول أعمالها. وأن بلينكن، الذي دعم عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خلال إدارة كلينتون، جدد دعمه للقضية».

يبدو أن اختيار أردوغان لحقان فيدان لمنصب وزير الخارجية جاء ضمن سياساته الجديدة في التركيز على فتح أبواب الاتحاد الأوربي صوب تركيا، باعتبار أن فيدان يملك أوراق قوة تمكنه من تحريك “اللوبيات التركية” في أوروبا مثل “الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية في ألمانيا (ديتيب)، وشبكات “الإخوان المسلمين” في عموم أوروبا، ومنظمة الذئاب الرمادية وغيرها” للضغط على حكوماتها في سبيل تسهيل مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد.

ليقدم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تصوراً خلال لقاءه مع بعثات بلاده الدبلوماسية، يوحي بأن تركيا تتطلع إلى أن تكون “أحد مؤسسي النظام العالمي الجديد”. فيدان قال في كلمة له أمام المؤتمر الرابع عشر للسفراء الأتراك (5-9 أغسطس/ آب 2023): “سنعمل بلا كلل (خلال السنوات الخمس المقبلة) على تعزيز مكانة تركيا كلاعب مستقل تمامًا، ومؤثر يحدد الأجندة الدولية ويضع عند الضرورة قواعد اللعبة أو يغيرها، ورؤيتنا هي جعل تركيا أحد اللاعبين المؤسسين للنظام العالمي الجديد في قرن تركيا”.

وما يؤكد أن هناك توجه تركي جديد لترسيخ العلاقة مع الغرب، أنه وقبل توجّهه إلى فيلنيوس قال أردوغان: «منذ أكثر من 50 عاماً تركيا تنتظر على أبواب أوروبا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي باتوا أعضاء في الناتو… أقول لهذه الدول هنا، وسأقولها في القمة، تعالوا وافتحوا الأبواب أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، ونحن نفتح الباب أمام السويد للانضمام للحلف كما فتحنا الباب أمام فنلندا، وهذا ما قلته للرئيس الأميركي جو بايدن بالمحادثة الهاتفية أمس (الأحد)، وما سأقوله في القمة» بحسب وكالة الأناضول القريبة من الحكومة التركية. فالمراوغة السياسية لدى أردوغان في اللحظة الأخيرة قبل انطلاق القمة، تُعتبر جزء من استراتيجية طويلة الأمد للحصول على أقصى قدر من المرونة من أوروبا وأميركا، قبل رضوخ تركيا للضغوط، وخاصة من الولايات المتحدة، إذ يدرك أردوغان أن تعهدات مخرجات اجتماع الناتو ستفرض عليه ضغوطات جديدة حيال سياساته فيما يخص الحرب في أوكرانيا والعلاقة مع روسيا.

وهذا ما حصل بالفعل بعد أن تعهّدت “مجموعة السبع” بتقديم دعم عسكري “طويل الأمد” لأوكرانيا، حيث قالت “المجموعة” في بيان: “سنعمل مع أوكرانيا على التزامات أمنية محدّدة وثنائية طويلة الأمد، لضمان قوة مستدامة قادرة على الدفاع عن أوكرانيا الآن وردع أي عدوان روسي في المستقبل”، وهذه التعهدات ستفرض على تركيا -العضو في الناتو- التحرك بما يتماشى مع سياسات تلك الدول، إن كانت ترغب بالفعل فتح أبواب الاتحاد الأوربي على تركيا.

وهذه المتغيرات تشير بأن الدور التركي في المرحلة القادمة ستسير بموجب الحسابات الأميركية وخاصة فيما يتعلق بالصراع الروسي-الأوكراني، وحتى الملف السوري، حيث اعتبر أردوغان في تصريحات للصحفيين، لقاء بايدن على هامش قمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” بمثابة “مرحلة جديدة” في العلاقات بين البلدين، بحسب وكالة “الأناضول”، وقال: “لقاءاتنا السابقة كانت بمثابة إحماء، أما الآن فنحن نبدأ مرحلة جديدة”. يبدو أن ثمة تفاهمات ذات أبعاد استراتيجية تمت بين الطرفين بخصوص العديد من الملفات، خاصة أن الجانب الأميركي بات يبدي حرصا على كسب الموقف التركي الحازم لجهة حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، بما يعني تخلي تركيا عن تعزيز علاقاتها مع روسيا في المرحلة المستقبلية.

وغير مستبعد أن تدفع هذه المتغيرات تركيا إلى إبداء بعض المرونة في التعاطي مع الملف الكردي بشكل عام، والإدارة الذاتية وقسد بشكل خاص، إذ تدرك تركيا أنها بحاجة إلى تفاهمات وعملية سلام أكثر من أي طرف آخر، وهو ما بدا واضحاً في المؤتمر الرابع عشر للسفراء الأتراك، بالمجمع الرئاسي في أنقرة، حيث قال أردوغان: “إنّ هدف تركيا للفترة المقبلة التي نرمز إليها بـ “مئوية تركيا” هو إقامة منطقة سلام واستقرار وازدهار في جميع أنحاء بلادنا، وسيكون الحوار والدبلوماسية أهم أداتين تقودنا لتحقيق هذا الهدف، مضيفا “نحن مصممون على متابعة الأجندة الإيجابية التي وضعناها مؤخرًا مع دول المنطقة والاتحاد الأوروبي وحلفائنا في الناتو”، وهذا بمثابة إعلان صريح من أردوغان بأنه اختار العودة إلى “الحلف الغربي”، وهذه العودة -بطبيعة الحال- ستفرض عليه إجراء العديد من التغييرات على سياساته الداخلية والخارجية؛ لأن الملف الكردي يُعتبر من أبرز القضايا الخلافية بين تركيا والغرب وأميركا، لذا وباعتبار أن هناك توجه أميركي لإعادة تشكيل تحالفات إقليمية في المنطقة لمواجهة النفوذ الإيراني، فإن تشكيل هكذا تحالف يحتاج لتذليل العقبات التي تحوّل دون تشكيله، ومن بينها خفض التصعيد أو فتح أبواب الحوار بين تركيا والإدارة الذاتية وقسد، لتتمكن أميركا من توحيد حلفائها الإقليميين للتركيز على مواجهة إيران ونفوذها، وخاصة إن كانت الخيار العسكري من بين الخيارات الموضوعة على الأجندة الأمريكية، فهذا سيحتاج إلى الكثير من الدعم الإقليمي لتقليل حجم الخسائر التي ستتكبدها الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا الصراع في حال نشوبه. بالتالي، يمكن اعتبار وجود وبقاء القوات الأمريكية في شرق الفرات جزء من هذه الاستراتيجية، ويمكننا تصوّر أنّ إزالة التوترات وحلّ المشاكل القائمة بين حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة سيكون من ضمن أولوياتها، ومنها (الكرد- تركيا).

ويبدو أنّ تركيا بدأت بالفعل التحرك بموجب حسابات أمريكا ودول حلف الناتو، ومن أبرز تلك المعطيات، ما كشفته وسائل إعلام غربية عدة بأن مساهمة تركيا في تزويد أوكرانيا بالأسلحة لم تتوقف عند تقديم طائرات “بيرقدار”، بل أنّ تركيا قدمت قنابل عنقودية وقذائف أخرى للجيش الأوكراني من مخزونات الجيش التركي، في إطار التزامها بمتطلبات عضويتها في الناتو، بالإضافة إلى زيارة الرئيس الأوكراني (زيلنسكي) إلى تركيا ولقائه مع الرئيس التركي، والإعلان المفاجئ للرئيس التركي بـ”أنّ أوكرانيا تستحق عضوية الناتو”، إلى جانب سماح تركيا بمغادرة (5) من قادة كتيبة (أوزفستال)، الموجودين في تركيا باتفاق مع روسيا، ما اعتبرته روسيا “خرق” أنقرة الاتفاق الذي توسّطت فيه قبل أكثر من عام لإنهاء حصار معمل الصلب “آزوفستال” في مدينة ماريوبول، وينص على نقل قادة الجماعة، التي قاومت الروس أسابيع طويلة، إلى تركيا وعدم عودتهم إلى أوكرانيا حتى انتهاء الحرب، إلا أن أردوغان لم يلتزم بالاتفاق بعد نجاحه في الانتخابات الأخيرة، وهذا يدل على تغير جدي في الموقف التركي تجاه روسيا.

هذا الموقف التركي الجديد يحمل جملة معطيات؛ أبرزها أن ميل أردوغان نحو الغرب وتحسين العلاقات مع جيرانه في الشرق الأوسط يظهر أن لديه الآن خيارات أخرى غير روسيا لمساعدته في الخروج من أزماته الاقتصادية.

فأنقرة تدرك الحدود التي يمكن أن تصلها ردود موسكو، فموقف القيادة الروسية في الوقت الراهن أضعف من أن تتخذ إجراءات عقابية ضد تركيا -منقذها الحالي- للالتفاف على العقوبات الغربية ضدها، وهي الوسيط المتبقي الذي يمكن أن يحقق الحّد الأدنى من مصالح روسيا في أيّ مفاوضات قادمة حول ملف أوكرانيا وتداعياته، كما أنّ الدور التركي في الملف السوري سيبقى مهمّاً لروسيا.

وضعف الموقف الروسي بدا واضحا من خلال الارتباك في المواقف الروسية تجاه خطوات أردوغان ما بين وصفها بـ “الاستفزازية، وأنّ تركيا تتحول إلى دولة غير صديقة، وأنّها وجهت طعنة بالظهر لموسكو”، كما ورد في تصريحات رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف، بعد زيارة الرئيس الأوكراني لتركيا، وما بين تبرير مواقف أنقرة بأنّها “خضعت لضغوط من قبل حلف الناتو،  وأنّ الوعود الأوروبية والأمريكية بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي مجرد خداع، وعلى أنقرة ألّا تتوهم تحقيق ذلك”، كما ورد في تصريحات المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، في 11 يوليو/تموز 2023.

ورغم ارتباك المواقف الروسية عبر تصريحاتها، إلا أنها -عملياً- فقدت الثقة بتركيا، واتخذت عدة إجراءات يمكن اعتبارها رد على التغيّرات في السياسية التركية، مما أدت إلى تأزم علاقات الطرفين:

  • رد الكرملين السريع على إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أن بلاده قد تلعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب إذا وافق البلدان على ذلك، حيث جاء الرد من الكرملين بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “ليست لديه خطط للتحدث مع نظيره التركي في الوقت الراهن”.
  • استخدام روسيا حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي في شهر يوليو 2023 لمنع صدور قرار يمدّد لـ9 أشهر آلية إدخال المساعدات الإنسانية لسوريا عبر الحدود التركية.
  • عودة دمشق للتصعيد ضد تركيا وفشل مسار تطبيع العلاقات بين الطرفين بقيادة روسية.
  • انسحاب روسيا من “اتفاق الحبوب” الذي توسطت فيه الأمم المتحدة وتركيا.
  • بحث روسيا عن طرق ومناطق اقتصادية بديلة عن تركيا، حيث وجهت روسيا ثقلها مؤخرا صوب الدول الإفريقية وآسيا الوسطى، وبدأت بمنافسة النفوذ الغربي هناك وخاصة بعد “الانقلاب العسكري” في النيجر، الذي أنهى أخر منطقة نفوذ لفرنسا في دول الساحل الإفريقي، لتحل محلها روسيا عبر “مرتزقة فاغنر”.

ثانياً- التعاطي مع الدول العربية و”الإخوان المسلمين”

حاولت تركيا في العشر سنوات الأخيرة تعزيز حضورها الإقليمي بالمنطقة اعتماداً على العامل العسكري في سوريا وليبيا والعراق، وهو ما تسبب في توتر علاقاتها مع دول رئيسية في المنطقة كالسعودية والإمارات ومصر؛ بسبب تحريك جماعات الإسلام السياسي ضد تلك الدول. لكن بعد فوز أردوغان في الانتخابات، سعت تركيا إلى تعزيز علاقاتها مع دول الخليج إلى جانب مصر، بسبب إدراك أردوغان أن الأولوية أضحت للمصالح الاقتصادية، وليس للأيديولوجيا.

وما يشير بأن هذه السياسة التركية الجديدة تجاه الدول العربية هي استراتيجية هذه المرة، وليست تكتيكية ومرحلية، هو أن أردوغان، الذي لم يعد يملك سوى 5 أعوام في السلطة، يعلم أنه لا يمكنه تحقيق حلم العثمانية الجديدة في هذه الأعوام، لذا سيحاول بدلا من ذلك إيلاء الأهمية لرفع الاقتصاد التركي عبر عقد استثمارات ضخمة وطويلة الأمد مع الدول الخليجية والعربية، وهذا ما كان واضحاً خلال الجولة الأخيرة لأردوغان في الدول الخليجية واتفاقيات التعاون التي أبرمها مع تلك الدول.

وبهدف الحفاظ على تلك العلاقات والاستثمارات كان لابد على تركيا من تغيير سياساتها تجاه تنظيم “الإخوان المسلمين”، لأن هذا الملف يُعتبر من أكثر الملفات الخلافية بين تركيا وكل من مصر والإمارات والسعودية، كما أن الانتخابات التركية الأخيرة بقدر ما أعطت لأردوغان من تأييد، إلا أنها أثبتت أن التراث “الأتاتوركي” فيما يتعلق بالعلمانية والقومية لا يمكن تجاهله، وأن نسبة المؤيدين للعلمانية والقومية هم أكثر من الإسلاميين، مما يخلق مسافة بين النظام التركي وجماعة “الإخوان المسلمين”.

رغم أن أردوغان استغل “الإخوان المسلمين” كورقة لحشد الدعم حول نظامه، لكن مثل هذا الخطاب لم يعد يقدم نفس القيمة بعد الآن، إذ يعاني أردوغان من تراجع نسبة شعبيته؛ نتيجة الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم والبطالة. ومع إدراكه أن سياساته الخارجية باتت غير آمنة، اضطر إلى البحث عن طرق للخروج من عزلته السياسية، وشمل ذلك إجراء تعديلات مع قوى معادية لاحتضانه “الإخوان المسلمين”، مما يحتم عليه إظهار تخليه عن جماعة “الإخوان” أو إبداء حسن النية لتلك الدول، عبر التضييق وملاحقة أعضاء تلك الجماعة، وكتم أصواتهم ونشاطهم داخل تركيا في الوقت الراهن، وهو ما يخدم تطوير العلاقات التركية-المصرية، حيث تزامنت تلك الإجراءات (الملاحقات والتضييق) مع إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مستوى السفراء، بعد انقطاع دام عقدًا من الزمن.

ومن جهة أخرى فإن وجود “الإخوان” في الصورة السياسية التركية لن يكون مُستحباً، وسط محاولات أردوغان إعادة تلميع صورته أمام الغرب، خاصة أنه عاد ليطالب بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، لكن هذا لا يعني بأن أردوغان سوف يحرق ورقة “الإخوان المسلمين” بشكل نهائي، بل سيبقى على علاقاته معهم ولن يتخلى عن هذه الورقة لأسباب أيديولوجية، وأن التضييق على بعض عناصر وقيادات الإخوان داخل تركيا هي مؤقتة، فرضتهما تطورات إقليمية معينة، وأن هناك إمكانية لتوظيفها في ظروفٍ معينة، وهذا ما كشف عنه استقبال أردوغان بتاريخ 8 أغسطس/أب الجاري وفدا من “اتحاد علماء المسلمين” الذي يعتبر “الواجهة السياسية للإخوان”، ضم قيادات إخوانية من مختلف أنحاء العالم.

الرؤية

من الواضح أنه بات أردوغان يبحث عن دور له في “النظام العالمي الجديد”، بما يتوافق مع الرؤية الأميركية والغربية، باعتبار أن مشروع أردوغان في إحياء “العثمانية الجديدة” لا يتوافق مع مشروع “النظام العالمي الجديد”، الذي يبدو أنه يتجه نحو الحفاظ على تبعية دول الشرق الأوسط للقطب الأمريكي، وذلك عبر إنهاء دور الأنظمة الديكتاتورية، سواء القائمة على أساس الدين أو القومية وغيرها، وخلق أنظمة جديدة أكثر مرونة، تعتمد في الغالب على أنظمة حكم لامركزية أو فيدرالية وما شابه.

ورغم كل مساعي تركيا ومحاولاتها بالانضمام للاتحاد الأوروبي، إلّا أن سجل تركيا السيئ في مجال حقوق الإنسان سيكون أكبر عقبة أمامها للمشاركة في مفاوضات العضوية، لا سيما استمرارها في تجاهل أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بخصوص عدة قضايا هامة، كـ”القضية الكردية”.

لكن موافقة تركيا على انضمام السويد إلى حلف الأطلسي، ومن قبلها فنلندا، فضلاً عن دعم حق أوكرانيا في الانضمام إلى الحلف، من شأنها -على أقل تقدير-أن تُعيد فتح بعض الملفات العالقة بين الجانبين، مثل تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وتسهيل عملية حصول المواطنين الأتراك على تأشيرة دخول دول الاتحاد.

أما بشأن مستقبل علاقات تركيا مع روسيا، فإن مواقف أردوغان الأخيرة لا توحي أنه في وارد التخلّي عن سياسة التوازن التي يتبعها في علاقته بموسكو والغرب، ففي اللحظة التي يفعل فيها ذلك يفقد أهميّته باعتبارها بيضة القبّان في العلاقة بين معسكر “بكين-موسكو” ومعسكر “بروكسل-واشنطن”، لذا أعلن أردوغان مؤخراً أنه ينوي زيارة موسكو واللقاء ببوتين الذي رفض زيارة تركيا بعد المتغيّرات الأخيرة في السياسة التركية.

بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال التحولات في العلاقات وفتح صفحات جديدة مع الحكومات العربية، يحاول أردوغان الحصول على امتيازات اقتصادية لسد الثغرات في تركيا بالأموال العربية. إلا أن ذلك سيتطلب إجراء تغيرات سياسية وعسكرية في مناطق النزاع مثل سوريا وليبيا، الأمر الذي قد يجبر تركيا -مستقبلاً- تقليص نفوذها في كل من ليبيا وسوريا؛ للحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع البلدان العربية.

إلى جانب الامتيازات الاقتصادية العربية، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا، ومساعيها لإنهاء المسائل الخلافية مع أوروبا وأميركا، فإن كل ذلك قد يزيد من احتمالية أن تتمكن أميركا وبعض الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا، من الضغط على تركيا للدخول في مفاوضات مع الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا، وخفض التصعيد ضدها، مقابل فتح علاقات اقتصادية بين تركيا ومناطق شمال شرق سوريا.

وبالنهاية، فأن أردوغان الذي فشل في ارتداء “عمامة” السلاطين العثمانيين، رغم تكريس كل طاقات تركيا لأكثر من عقد في خدمة إحياء “العثمانية الجديدة”، يدرك أن الأعوام الخمسة الأخيرة المتبقية له في الحكم، في ظل الكثير من الأزمات التي تحاصره، لن تكون كافية لمواصلة نهجه. وبالتالي، يحاول هذه المرة العودة لارتداء “قبعة أتاتورك” عن طريق السعي لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ليسجل أردوغان بذلك مجداً شخصياً لنفسه، ويخلّد اسمه بجانب “أتاتورك” على أنه أول رئيس استطاع ضم تركيا للاتحاد الأوروبي.

زر الذهاب إلى الأعلى