استهداف القنصلية الإيرانية، نهاية حرب الظل بين إسرائيل وإيران
دخلت المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية مرحلةً جديدة، بعد قصف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، والذي أسفر عن مقتل 7 من كبار ضباط فيلق القدس، بينهم محمد رضا زاهدي أهم ضابط في الفيلق بعد مقتل قاسم سليماني.
فحرب الظل التي كانت تديرها إسرائيل ضد إيران، منذ دخول الأخيرة على خطّ الصراع في سوريا، انتهت مع هذه العملية الكبيرة، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع الذي يستوجب حسابات فائقة الدقة في التعامل معه، لتجنب عدم الانجرار إلى المواجهة الشاملة، والتي لن تكون في صالح أي طرف، بحسب المعطيات القائمة على الأرض، والظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
توضّح هذه العملية، وعمليات الاغتيال السابقة للقيادات الإيرانية وقادة “محور المقاومة” ولا سيّما عقب اندلاع حرب عزة، عزم إسرائيل على تفكيك هذا المحور، والذي تعتبره الشريان الرئيسي الذي يغذّي حماس، ويشكل تهديداً رئيسياً لوجودها أيضاً في الوقت ذاته.
وعلى الرغم من أنّ سجل إسرائيل حافل بعمليات كبيرة ضد إيران، ومنها اختراقات أمنية كبيرة وسرقة وثائق سرية للغاية من منشآت نووية إيرانية، واغتيال العديد من العلماء الإيرانيين، ومن أبرزهم مهدي فخري زادة، مهندس البرنامج النووي الإيراني، واغتيال قاسم سليماني بتنسيق أمريكي-إسرائيلي وغيرها من العمليات، إلّا أنّنا لم نجد ردّاً موازياً لحجم الخسارة التي مُنيت بها إيران في كلّ مرّة. ولكن يبدو أنّ عملية استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، سيترتب عليها ردّ فعلٍ إيراني، بسبب فرادة هذه العملية والتي تعتبر بمثابة إعلان حرب صريح ضد إيران لأنّ العملية الإسرائيلية الأخيرة هي بمثابة استهداف الأراضي الإيرانية في الأعراف الدبلوماسية، على الرغم من أنّ إسرائيل أبدت حرصاً كبيراً لتجنّب حدوث إدانة دولية جامعة ضدها؛ إذ لم يُلحِق “القصف الذكي” الضرر بمبنى السفارة الملاصق للمبنى المُستهدف، والذي تقول إسرائيل إنه كان يستخدم للتخطيط من قبل قادة فيلق القدس وحماس لشنّ عمليات ضد إسرائيل، ولهذا لم يوجد من بين الضحايا أفراد من البعثة الدبلوماسية.
إذاً تواجه إيران تحدّياً كبيراً؛ فعليها توجيه ضربة لإسرائيل من الأراضي الإيرانية وليس عبر الوكلاء، لكن في الوقت نفسه يجب عليها أن تختار ضربة من شأنها حفظ ماء الوجه، وتضمن عدم حدوث رد فعل إسرائيلي وأمريكي في الوقت نفسه.
لكن هل سيكون هناك ردّ إيراني انتقامي بالفعل ضد إسرائيل؟ لعلّ هذا هو السؤال الكبير الذي يشغل بال الجميع، وبالنظر إلى تعقد الصراع الإقليمي الذي تعتبر إيران طرفاً رئيسياً فيه، فإنّ خيار الردّ أو عدم الردّ من قبل إيران بات ينطوي على خطورة كبيرة بالنسبة لها؛ فعدم الرد سيشجع إسرائيل على تنفيذ عمليات أكبر ضدها في المنطقة، وحتى في داخل أراضيها. من جانبٍ آخر، فإنّ الرّد ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة لإيران، وقد يدفع إسرائيل إلى اقتناص الفرصة وشن هجمات في العمق الإيراني لسحب قدم حليفها الأمريكي إلى هذه الحرب التي طالما تجنّبها، وعلى الرغم من النتائج المجهولة لهذه الحرب إنْ وقعت -وهي مستبعدة حتى الآن- فإنّ الضرر الأكبر سيلحق بإيران في ظل ما تعانيه من أزمة اقتصادية، والشرخ الكبير الحاصل بين نظام الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني.
النظام الإيراني مُطالبٌ بالردّ أكثر من أي وقتٍ مضى، وهذا ما لا يخفيه المسؤولون الإيرانيون ويصرّحون به علناً، وقد أكّد خامنئي خلال خطبة عيد الفطر حتمية الرد الإيراني وضرورة معاقبة إسرائيل.
ليست إيران وحدها في موقفٍ مربك، وإنّما الولايات المتحدة أيضاً، ولذلك تحاول احتواء المشكلة بطرق مختلفة. فالتوقعات الأمريكية والإسرائيلية أيضاً تقول بأنّ الرد الإيراني حتمي، وتحاول الولايات المتحدة إيجاد وساطة إقليمية لمنع إيران من الرد على العملية الإسرائيلية. وأفادت بعض التسريبات الصادرة عن مسؤولين إيرانيين أنّ الولايات المتحدة عرضت على إيران أنها ستعمل على إقناع إسرائيل وضمان عدم استهداف مواقعها في سوريا مرّةً أخرى، ووضع خطوط جديدة لمنع الاشتباك بينهما، لكن المسؤولين الإيرانيين رفضوا، واقترحوا الإيقاف الفوري للحرب على غزة مقابل عدم الردّ. وهذا ما تريده إيران من كلّ هذا التصعيد من خلال وكلائها في المنطقة، والهدف منه تثبيتُ الضرر الذي لحق بإسرائيل، والحفاظ على حماس، والبدء من جديد بسياستها الإقليمية من موقف أقوى، واستغلال الأزمات التي ستندلع في الداخل الإسرائيلي، بعد الفشل في تحقيق النتائج المرجوة من حرب غزة.
لكن على الأرض، يبدو أنّه يتم الاستعداد لحربٍ وشيكة، فالإسرائيليون متأهبون للضربة الإيرانية الانتقامية، وقد أجروا مناورات جوية مشتركة مع قبرص تحاكي هجوماً ضد أهداف في الداخل الإيراني، كذلك على الطرف الآخر يجري الحرس الثوري اختبارات لمنظومات الدفاعات الجوية تحسباً لعمليات إسرائيلية، وفي العموم فإنّ طبول الحرب بين الطرفين باتت تُسمع أكثر من أي وقتٍ مضى.
على الرغم من التفوق العسكري لأمريكا وإسرائيل على إيران، إلّا أنّ خوض هذه الحرب لن يحقق النتائج المرجوة، لأنّ الضربات الجوية وحدها غير كافية لاستهداف دولة كبيرة ومعقدة جغرافياً مثل إيران، كما أنّ خوض مثل هذه الحرب يحتاج إلى جيوش برية ضخمة وتحالف إقليمي ودولي أكبر من التحالف الذي تشكل ضد نظام صدام حسين. وبحسب اعتقاد الخبراء العسكريين والمحللين الإيرانيين فإنّ الضربات الأمريكية والإسرائيلية قد تُلحق الضرر بشكل جزئي ومؤقت بالمواقع الإيرانية، وهذا ما تطمح إليه إسرائيل، لأنه سيدرأ عنها الخطر الإيراني لسنوات، ويعرقل برنامجها النووي، ويتسبب بإضعاف المنظومات الدفاعية الإيرانية، لكن ذلك ينطوي على مخاطر كبيرة أيضاً، وقد يدفع إيران إلى الانسحاب بشكل كامل من معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وقد تتخذ حينها قراراً سياسياً بصنع القنبلة النووية التي باتت على مشارفها في الوقت الراهن، بعد أن تتمكن من ترميم الأضرار الحاصلة.
إلى جانب ذلك، فهذه الحرب ستصبّ بشكلٍ حتميّ في مصلحة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة، ولا سيما الصين، وروسيا التي تستغل انشغال العالم بحرب غزة وتستمر في التصعيد ضد أوكرانيا، وقد يكون بإمكاننا تصوّر كيف ستستغل روسيا الأوضاع، إذا اندلع هذا الصراع الكبير بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى.
إذاً الأنظار جميعها تترقب الردّ الإيراني القادم، وعلينا الانتظار لنرى أيّ حجرٍ ستحرّكه إيران على رقعة الشطرنج الذي برعت فيه في سياساتها واستراتيجياتها العسكرية، وكيف ستعيد الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، وتستمر في الحفاظ على قوة الردع التي تمتلكها، دون تغيير قواعد اللعبة.