قضايا راهنة

إيران تهدد بأذرعها القريبة وتضرب بالبعيدة.. الأهداف والدلالات

على وقع الحرب المتصاعدة في غزة، والتي دخلت شهرها الثاني، باتت تتضح أجزاء من سياسات إيران واستراتيجيتها في إدارة الصراع مع إسرائيل وأمريكا، والتي يمكن استنتاج بعضها من خلال ملاحظة لجوء إيران إلى تهدئة أذرعها الموجودة على حدود إسرائيل في لبنان وجنوب سوريا رغم أنها تهدد إسرائيل بهما، وفي المقابل تدفع الميليشيات الشيعية الموالية لها في كل من العراق واليمن البعيدتين جغرافياً عن إسرائيل للتصعيد وتكثيف الهجمات على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق من جهة، وإطلاق صواريخ بالستية ومسيرات من اليمن صوب إسرائيل من جهة أخرى.

فما هي الأهداف الإيرانية من اتباع هذه الاستراتيجية؟

رغم أن بؤرة الصراع والحرب تتركز في غزة، إلا أن الميليشيات الإيرانية باتت تركز على استهداف الوجود الأمريكي في كل من العراق وسوريا، لتصل آخرها إلى إعلان “المقاومة الإسلامية العراقية” بتاريخ 1 نوفمبر 2023 ما أسمتها “حرب تحرير العراق من القوات الأميركية عسكرياً” فيما أعلن الحوثيون الموالون لإيران لأول مرة دخول الحرب بشكل مباشر عبر إطلاق صواريخ بالستية ومسيرات من اليمن صوب إسرائيل، وبينما يبدو العنوان الأبرز لهذه الهجمات التضامن مع “حركة حماس وغزة” إلا أن حقيقة الأمر هي توظيف إيراني لوكلائها في المنطقة لتحقيق عدة أهداف أبرزها محاولات إنهاء الوجود الأميركي في جوارها، ومنع إنهاء وجود حماس في غزة، عبر دفع أميركا الضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب في غزة. وهذا ما عبر عنه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بشكل صريح في تصريحه الأخير بتاريخ 12 نوفمبر 2023 “إن أميركا تخوض المعركة في غزة وتديرها وكل الضغط يجب أن يوجه إلى الأميركيين”.

والمؤكد بكافة الأحوال هو أنّ إيران لا تهدف إلى توسيع نطاق الحرب، ولا الدخول المباشر فيها. فإذا تابعنا خطاب المحور الإيراني الموجه إلى أميركا والغرب بداية من سلسلة لقاءات وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان خلال وجوده في نيويورك وزياراته للدول الإقليمية، وصولاً إلى خطاب حسن نصر الله الأخير، نجده يحمل رسائل لأمريكا بشكل خاص تدعوها لإيقاف حرب غزة، وطمأنة للغرب بأن إيران ترغب في إنهاء الحرب ولا نية لها لتوسيعها. وهذا ما عبر عنه حسن نصرالله أيضا في خطابه السابق في 3 نوفمبر 2023 حين قال: “لم يحن بعد وقت الضربة القاضية”. فخطابه مفاده أن وقوع حرب إقليمية بمشاركة إيران ما زال بعيداً، وأن إيقاف الحرب في غزة هو مطلب للجميع.

لاشك أن إيقاف الحرب في غزة دون إنهاء وجود حماس، سيعتبر انتصاراً لإيران، لأنها ترى أنها حققت في الواقع بعض الأهداف من هجمات “طوفان الأقصى”، من بينها عرقلة عملية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل التي كانت تجري برعاية الولايات المتحدة. كما أجبرت حرب غزة العديد من العواصم العربية للنأي بنفسها عن فتح علاقات مع إسرائيل بعد هذه الأحداث، وذلك نتيجة ازدياد الاحتقان الشعبي العربي والإسلامي ضد إسرائيل والتي سيكون له تأثير طويل الأمد في منع الحكومات العربية للتطبيع مع إسرائيل.

بالإضافة إلى أن حرب غزة أدت لزيادة (تقارب الضرورة) بين إيران والبلدان العربية، والذي تبلور مؤخراً في عقد القمة العربية الإسلامية بتاريخ 11 نوفمبر 2023 في السعودية بحضور كافة البلدان العربية وعدد من الدول الإسلامية على رأسها إيران، وخلالها حاولت إيران المزاودة على الدول العربية في الدفاع عن غزة وفلسطين، ولكن دون أن تكون هي رأس الحربة في مواجهة إسرائيل، بل تحاول دفع الدول العربية إلى الضغط على إسرائيل وأميركا لإنهاء الحرب.

وهذا يعني أن أحد الأهداف الاستراتيجية لطهران هو “إبقاء النزاع بعيداً عن حدودها” لكنها ترى أنه للدفاع عن موقعها في المنطقة، يتوجب عليها مواصلة دعم أذرعها خلال هذه الأزمة، لأن الحرب الشاملة في المنطقة ستؤدي إلى خلل في الاستراتيجية الإيرانية، وبالتالي قد يكون الثمن باهظاً، خاصة مع استمرار الولايات المتحدة تعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط.

استراتيجية إدارة الأذرع القريبة والبعيدة

من الواضح أن طهران باتت تستخدم الساحة العراقية لزيادة التوتر مع واشنطن كلما تقدم الجيش الإسرائيلي في شمالي قطاع غزة، وهذا يشير إلى أنّ إعلان الحرب ضد القوات الأمريكية في العراق باسم “المقاومة الإسلامية في العراق” جاء ليضم جميع الفصائل تحت هذا المسمّى، دون الاقتصار على فصيل واحد بعينه. ويحقق التحرك تحت هذه التسمية، هدفين اثنين: الأول، إظهار الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران في صورة تشكيل هلامي جديد ليست له هيكلية أو وجود محدد على الأرض، وهذا الأمر يساعد بالتالي في انكار كافة الميليشيات بشكل منفرد مسؤولية أي منها عن هذه الهجمات في حال أدت الهجمات لمقتل جنود أمريكيين.

والهدف الثاني، أنّه اسم جامع يتجاوز الرمزية الشيعية الضيقة ليفتح الباب أمام الجماعات السنية أيضا للانضمام إليها والتي يحتاج أن يُظهرها “محور المقاومة”، وهو ما ينسجم أيضاً مع محاولة “حزب الله” اللبناني تصدير جماعات سُنيَّة في جبهة المناوشات مع إسرائيل، لتحميلها مسؤولية أي رد فعل قوي من قبل إسرائيل على لبنان، ومنها إعلان “قوات الفجر” في لبنان (الجناح العسكري للجماعة الإسلامية –فرع الإخوان المسلمين في لبنان) الدخول على خط المواجهة مع إسرائيل في الجنوب اللبناني، عبر تبنيها بتاريخ 29 أكتوبر 2023 قصف “كريات شمونة” الإسرائيلية بالصواريخ.

وبالمثل شكلت إيران ميليشيات من القبائل والعشائر العربية السنية في شمال شرق سوريا تحت اسم “حركة أبناء الجزيرة والفرات” لمواجهة أميركا وقتال قوات سوريا الديمقراطية. ومع اندلاع الحرب في غزة باتت إيران تولي هذه الميليشيات القبلية المزيد من الأهمية، وتوجههم لاستهداف القواعد والمصالح الأمريكية في سوريا أو تبنّي هجمات صاروخية تنفذها الميليشيات الإيرانية على القواعد الأمريكية في شرق سوريا. حيث تبنت هذه الحركة عبر منصاتها على فيسبوك بتاريخ 26 أكتوبر الماضي قصفاً صاروخيا على القواعد الأمريكية في حقل كونيكو بدير الزور، بحسب تقرير (لمعهد واشنطن في 27 أكتوبر 2023).

ويمكن أن يكون من بين أهداف إيران دفع هذه الميليشيات “القبلية السنية” إلى تبني بعض الهجمات على القواعد الأمريكية، منح ميليشياتها الشيعية سواء في سوريا والعراق مساحة للمناورة والتنصل من أي هجمات قد تتسبب في مقتل جنود أمريكيين، وذلك لتلافي رد الفعل الأمريكي والادعاء بأن القبائل العربية المحلية هي التي شنت تلك الهجمات من تلقاء نفسها، ولا سيّما في ظل احتمالية أن تزيد الميليشيات الإيرانية هجماتها على القواعد الأمريكية في سوريا مع زيادة تقدم إسرائيل في غزة والتضييق أكثر على حماس.

ورغم تحريض إيران ميليشياتها الشيعية والسنية للتصعيد في شمال شرق سوريا، إلا أنها تدفع ميليشياتها في الجنوب السوري على حدود الجولان لخفض التصعيد، ويعود السبب إلى مخاوف إيرانية من أن يؤدي أي تصعيد على حدود إسرائيل لقطع أميركا الطريق بين سوريا والعراق وإنهاء وجود إيران وميليشياتها في الجنوب السوري، خاصة أنه قبل أحداث غزة كانت إيران تتحدث عن مساع أمريكية لقطع الطريق بين العراق وسوريا، وزادت حرب غزة مخاوف إيران لأن هذه الحرب قد تمنح أميركا حجة أكبر لمواجهة التمدد الإيراني في الجنوب السوري المتاخم لإسرائيل، وهذا ما أوقع إيران في معضلة، باعتبارها غير قادرة على التصعيد في الجنوب خشية الرد الإسرائيلي والتحرك الأمريكي لإنهاء وجود الميليشيات في الجنوب، ولاهي قادرة على التزام الصمت التام لأنها ترغب في إبقاء تلك الأذرع القريبة عنصر تهديد وتصديع رأس إسرائيل، كنوع من ممارسة الضغط، لمنع القضاء التام على حماس.

ومن جهة أخرى يبدو أن السبب الرئيسي في دفع إيران الحوثيين لإعلان التصعيد وإطلاق الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة صوب إسرائيل هو بسبب زيادة الانتقادات التي وجهتها قيادات من حركة حماس إلى حزب الله اللبناني، حيث وصفوا رد الحزب الموالي لإيران في “نصرة غزة” بأنه “كان مخيباً ودون المطلوب”، لذا يبدو أن إيران تحاول إخراج حزب الله من هذا الموقف المحرج، واستبدال جبهة الحوثيين بجبهة حزب الله في دعم حماس، وذلك لأن إيران تتخوف من دخول حزب الله بشكل مباشر في الحرب التي قد تؤدي إلى اجتياح إسرائيلي بري لجنوب لبنان وإلحاق ضربات قاصمة لحزب الله، وبالتالي فإن نقل المهمة إلى الحوثيين ستكون أقل خطورة وخسارة حتى لو ردت إسرائيل على الحوثيين، فسيبقى الرد مقتصراً على قصف جوي أو صاروخي لن يؤدي إلى القضاء على الحوثيين، ولهذا فإن حزب الله يُظهر حتى الآن أنه ليس بصدد تغيير قواعد الاشتباك الحالية بما يقود إلى حرب واسعة مع إسرائيل.

أضف إلى ذلك أنّ إيران لا تريد التضحية بحزب الله في صراع حماس وإسرائيل، في ظل استنفار القوات الأمريكية في المنطقة وحالة التحشيد والتضامن الغربية مع إسرائيل، وتريد إيران توفير ورقة حزب الله الاستراتيجية، لاستخدامها ضد إسرائيل في حال اعتزمت على نقل التصعيد إلى داخل إيران، واستهدفت المنشآت النووية.

كما يمكن أن يكون دافع إيران من وراء دفع الحوثيين إلى فتح هذه الجبهة وإطلاق الصواريخ والمسيرات من فوق البحر الأحمر صوب إسرائيل، رغم يقينهم أنها ستكون سهلة التصدي لها من قبل الدفاعات الجوية الإسرائيلية، هو محاولتها إيصال رسائل تهديد لأميركا والغرب مفادها بأن الحوثيين الذي يملكون هذه الصواريخ البالستية والمسيرات قادرة على تهديد الملاحة البحرية ومنع وصول البضائع وموارد الطاقة التي تصل إلى إسرائيل وأوروبا من الشرق، عبر مضيق هرمز والبحر الأحمر، وذلك لدفع أميركا والغرب الضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب في غزة ومنع القضاء التام على حماس.

وعلى غرار سياساتها في إشراك الجماعات العربية والسنية في الصراع ضد إسرائيل وأميركا في لبنان وسوريا، يحاول الحوثيون إشراك (حزب الإصلاح) ذراع تنظيم الإخوان في اليمن، في الهجمات التي تشنها على إسرائيل، حيث طالب عضو المكتب السياسي لجماعة “أنصار الله” الحوثية في اليمن، محمد البخيتي، “الإخوان المسلمين” بموقف داعم لهذا المحور “في اليمن وسوريا والعراق”، ووجه البخيتي رسالة إلى “الإخوان”، اعتبر فيها أن الصراع الدائر حاليا بين الجماعة السنية والمحور الشيعي “أضر بالأمة”، بعد أن “تجاوز حد الخلاف الفكري البسيط إلى صراع عسكري وسياسي وإعلامي”، على حد قوله. وشدد على أهمية “طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تسمح بتوحيد الصف على امتداد العالم الإسلامي لمواجهة العدوان الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، على فلسطين” بحسب (صحيفة العربي الجديد 7 نوفمبر 2023).

وهذا يخدم الاستراتيجية الإيرانية الراهنة في إدارة الصراع مع إسرائيل وأمريكا، والتي تعتمد على الاستفادة من أذرعها وحلفائها ضد إسرائيل وأميركا من دون الذهاب الى حرب مباشرة وشاملة.

ومع ذلك فإن اتباع إيران استراتيجية الاعتماد على الميليشيات لتصعيد الهجمات قد لا تخلو من المخاطر، خاصة إذا تسببت الهجمات في مقتل جنود أمريكيين، وحينها قد توجه أمريكا ضربة قوية أخرى لإيران على غرار الضربة التي قتلت قاسم سليماني وعدد آخر من قيادات الحرس الثوري، أي قد تستهدف هذه المرة قيادات أخرى بارزة للجم هذه الاستراتيجية الإيرانية، أو دفع إيران للانتقال إلى الحرب المباشرة وهذا يصعب على إيران خوضها حالياً مع انشغال حليفها الروسي بحرب أوكرانيا ونأي الصين بنفسها عن الصراعات العسكرية.

الرؤية:

من خلال ما تقدم يبدو واضحاً أن نظرة إيران لإدارة الصراع مع إسرائيل وأميركا هي أكثر واقعية وبراغماتية من أنصارها الذين تأثروا بخطابها الثوري، ثم صدمهم خطاب حسن نصر الله الذي لم يعلن الحرب الشاملة والنفير العام ضد إسرائيل، إذ تدرك إيران أن نجاح مصالحها الاقتصادية والتنموية تحتاج إلى الخروج من عزلتها، وليس خوض حروب مباشرة، كما تدرك طهران أن حرب غزة يجب أن تتوقف في ظل تعطل المحادثات النووية مع الغرب التي بموجبها حصلت إيران على انفراجه في مبيعاتها النفطية واستعادت بعض أموالها المجمدة في الخارج.

وقد يكون من بين مخاوف إيران الدخول في حرب مباشرة ضد إسرائيل في هذا الوقت، هو أن تدفع أميركا والغرب، تركيا لتُشعل حرباً في القوقاز في ظل الانشغال الإيراني بحرب غزة؛ إذ تطمح أنقرة لفتح ممر “زنكه زور” داخل جنوب أرمينيا لربط أراضيها بأذربيجان، وبذلك يصبح لدى تركيا ممر استراتيجي يربطها ببحر قزوين ومنطقة آسيا الوسطى الغنية بالطاقة والمعادن، التي تمثل جزءاً من معادلة الشرق الأوسط الجديد.

مع أن من أبرز أهداف إيران وميليشياتها من تكثيف الهجمات على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، هو دفع أمريكا الانسحاب من البلدين، إلا أن الحديث عن انسحاب أمريكي بسبب قصف قواعدها العسكرية واستهداف مصالحها، أو التفكير به على الأقل بسبب تعرضها لهجمات “محور المقاومة”، لن يكون منطقيا وفق استراتيجيتها الحالية والمستقبلية، كون العراق وسوريا أصبحتا جزءاً مهماً وحيوياً من منظومة الشرق الأوسط، وهما تمثلان مرتكزاً مهماً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة والتي تشمل (ضمان تدفق النفط دون مشاكل قد تؤثر على الاقتصاد الأمريكي). بالإضافة إلى ضمان أمن إسرائيل، والأهم من ذلك، أن أي انسحاب للولايات المتحدة من سوريا والعراق سيوجه ضربة قاصمة لنفوذها في الشرق الأوسط، لأن ذلك سيعتبر تهديدا مباشراً لمصالحها في دول الخليج وسوريا والمشرق العربي، وسيعزز نفوذ إيران في كل من العراق وسوريا ولبنان، وهذا بحد ذاته يعتبر تقويضاً للاستراتيجية الأمريكية وتهديداً لأمن إسرائيل. وفي المقابل من المرجح، بعد التصعيد الأخير في غزة، وإعلان الميليشيات الموالية لإيران التصعيد ضد الوجود الأمريكي، قد نشهد انتقالاً في السياسة الأميركية من مرحلة الاحتواء إلى مرحلة الردع، وهذا الردع قد يتحقق عن طريق شن أميركا غارات مكثفة بالطائرات الحربية على مواقع الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق، وتوجيه حاملات الطائرات الأميركية في البحر المتوسط، “جيرالد فورد وأيزنهاور”، ضربات إلى جماعة الحوثيين في اليمن.

زر الذهاب إلى الأعلى