قضايا راهنة

التقاربات الأخيرة في المنطقة وتداعياتها على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا

تشهد منطقة الشرق الأوسط – مؤخراً – زخماً في حركة المصالحات، والتطبيع بين القوى والحكومات المتصارعة والمتنافسة، وأبرزها عودة العلاقات بين السعودية وإيران، وما رافق ذلك من إعادة الكثير من الدول العربية النظر في علاقاتها مع دمشق، والتي أدت إلى إعادتها – بعد 12 عاماً – إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى التوجه التركي لتطبيع العلاقات مع كل من دمشق ومصر، والدول الخليجية وإسرائيل.

كل ذلك يُعتبر تحولاً كبيراً في العلاقات، التي لها تداعيات وتأثيراً مباشراً على الصراعات الإقليمية، وتفرض المتغيرات على كافة الحكومات والقوى الموجودة في المنطقة.

وبما أن مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، هي جزء من سوريا، التي تعتبر بلداً عربياً، لذا فإن لهذه المصالحات، وتطبيع العلاقات بين الحكومات العربية وكل من تركيا وإيران، وإعادة الحكومات العربية علاقاتها مع دمشق، تأثيراً مباشراً على الإدارة الذاتية والكرد في سوريا، لذا سنسلط الضوء في هذه المقالة على تداعيات هذه المصالحات على الإدارة الذاتية.

مقارنة بين تداعيات المصالحات على الكرد سابقاً والإدارة الذاتية راهناً

حين بدأت الاستدارة التركية نحو دمشق، وما رافقها من عقد اجتماعات ثلاثية بوساطة روسية، ومن ثم رباعية بمشاركة إيران، لم يختلف المراقبون على تقييمها، بأنها ذات تداعيات سلبية على مناطق الإدارة الذاتية والملف الكردي في سوريا، باعتبار أن الملف الرئيسي الذي وضعته تركيا على طاولة هذه الاجتماعات، هو محاربة الإدارة الذاتية والكرد في سوريا، ولكن هل ينطبق هذا التقييم على موجة الانفتاح العربي الأخير على دمشق ومصالحاتها مع إيران وتركيا؟

الإجابة على هذا السؤال يستدعي العودة إلى تاريخ المصالحات المماثلة بين الدول العربية وكل من إيران وتركيا، وما أفرزته – سابقاً – من تداعيات على الكرد في سوريا حينها، ومقارنتها بالوضع الراهن، واستخلاص التداعيات الممكنة بموجب الظروف والمعطيات الحالية على المستوى الكردي والإقليمي والدولي.

تاريخياً، تذكرنا موجة المصالحات هذه، بالوساطات العربية في إنهاء النزاعات والأزمات التي شهدتها كل من العراق وسوريا مع إيران وتركيا، والتي كان لها تداعيات سلبية على الكرد في البلدين.

أولها: اتفاقية الجزائر، في السادس من مارس/آذار 1975، حين قام الرئيس الجزائري هواري بومدين بمبادرة لحل الخلافات العراقية الإيرانية، حيث جمع بين صدام حسين، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، وتم الاتفاق على أن تجري المباحثات بشأن قضيتين أساسيتين، هما: إنهاء المساعدة الإيرانية للكرد. وترسيم الحدود البرية والنهرية للبلدين بشكل نهائي. وتعد هذه الاتفاقية من النكسات الكبيرة التي ألمّت بالكرد، وأدت لانهيار الثورة الكردية.

والثانية: اتفاقية أضنة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، حين تصاعد التوتر بين سوريا وتركيا في فترة حكم الرئيس السابق حافظ الأسد، عقب أزمة أدّت إلى حشد تركيا جنودها على الحدود السورية، بهدف تنفيذ عمل عسكري، إلا أن وساطة شاركت فيها جامعة الدول العربية ومصر وإيران، حالت دون ذلك، وحينها أيضاً لعب الرئيس المصري حسني مبارك دور الوساطة بين أنقرة ودمشق، وأفضت إلى إبرام اتفاقية أضنة، والتي كانت ولا زالت تستخدمها تركيا لضرب الكرد في سوريا.

من الواضح أن وساطات الدول العربية حينها في إنهاء الصراعات ما بين كل من إيران وتركيا مع البلدين العربيين “سوريا والعراق” كانت على حساب الكرد، ولكن هل المصالحات العربية الحالية مع إيران وتركيا، وانفتاحها – بعد أكثر من عقد من القطيعة – على دمشق، يمكنها تكرار سيناريو اتفاقيتي “الجزائر وأضنة” ضد الكرد والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا؟

يمكننا استنتاج تداعيات هذه المصالحات على الإدارة الذاتية من خلال تقييم ثلاثة عوامل، وهي “أسباب وأهداف العودة العربية إلى سوريا، والوضع الكردي ومشروعهم في الوقت الراهن، والموقف الأمريكي والغربي مما يجري في سوريا”.

أولاً- أسباب وأهداف العودة العربية إلى سوريا

إن كانت الدول العربية لجأت سابقاً إلى تقديم الكرد كـ “كبش فداء” للمصالحات مع تركيا وإيران، لحماية الأنظمة الحاكمة في سوريا والعراق، فإن الوضع الراهن أكثر تعقيداً، ولم تَعُد الورقة الكردية وحدها كافية لذلك، وبالتالي فإن عودة الدول العربية بهذا الزخم إلى دمشق، وخاصة بعد المصالحة السعودية الإيرانية، مردّه إلى خشيتها من فقدانها لسوريا كجزء من الوطن العربي، لأنه لم يتبق من سوريا أي رابط مع الدول العربية، سوى اسم “الجمهورية العربية السورية” الشكلية، ولكن عملياً فإن سوريا مقتطعة جغرافياً وسياسياً عن الوطن العربي – منذ أكثر من عقد – على يد إيران وتركيا، والمفارقة، أن القسم الوحيد المتبقي من سوريا خارج خطر الاحتلالين الإيراني والتركي هذه المرة هي مناطق الإدارة الذاتية، والتي يتشارك فيها الكرد مع العرب وباقي المكونات إدارتها.

ويبدو إن التصالح، الذي حصل بين السعودية وإيران زاد من مخاوف الدول العربية على سوريا لأنهم بعد هذه المصالحة، إن لم يثبتوا حضورهم في الملف السوري، ولم يلعبوا دوراً في مستقبل الحل السوري، فسيكون ذلك بمثابة إقرار “غير مباشر” منهم بشرعية الوجود الإيراني وميليشياته في سوريا، لأنهم سيتوقفون – في إطار المصالحات الجارية – عن التصعيد ضد إيران ووكلائها في سوريا – ولو على المدى القصير- وهذا يعني أن إيران وتركيا وروسيا، الذين يعقدون القمم الرباعية حول سوريا، سيتحكمون في مصير الحل السياسي، ويرسمونه بموجب مصالحهم، وسط الغياب العربي.

وبالتالي، فإن العودة العربية لدمشق، والإسراع في خطو خطوات لإعادة السفارات إلى دمشق، وإعادتها بتاريخ 17 مايو 2023 إلى الجامعة العربية، تدخل كلها في إطار مخاوف الدول العربية من هيمنة إيران وتركيا على سوريا، وهذا مؤشر بأن المصالحات بين الدول العربية وكل من تركيا وإيران، ما هي إلا مصالحات تكتيكية فرضتها متغيرات الأوضاع الدولية والحرب الأوكرانية، وتصاعد الصراع الإسرائيلي الإيراني في المنطقة، وفي الواقع لا تثق الدول العربية بإيران وتركيا، لذا يرغبون في إعادة سوريا لمحيطها العربي، أو إعادة حضورهم في سوريا على الأقل.

وهذا ما يمكن التماسه من بيان اجتماع الرياض، حيث “أكد الوزراء وفق البيان، أن الحل السياسي هو الحل الوحيد في سوريا، وأهمية أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء “الأزمة”، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور”. وأن بيان الرياض، الذي ركز على ضرورة وحدة سوريا، ومكافحة المخدرات، وعودة سوريا لمحيطها العربي، يؤكد ما ذهبنا إليه. حيث شدد البيان على أهمية مكافحة الإرهاب بكافة أشكاله، ومكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها، لافتاً إلى أهمية دعم ما أسماها “مؤسسات الدولة” للحفاظ على “سيادة” سوريا، لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري.

وبما أن الدول العربية تدرك حقيقة أن كل من تركيا وإيران لديهما أطماع احتلالية مستدامة في هذا البلد “العربي” وليست مجرد أطماع لمد النفوذ، كما في الحالة الروسية والأميركية، لذا كان ملاحظاً أن الدول العربية، وخلال لقاءاتهم مع ممثلي النظام السوري أو الجانب التركي والإيراني لا يهاجمون في بياناتهم وتصريحاتهم الإدارة الذاتية أو الكرد، بل وحتى حين حديثهم عن ضرورة محاربة “الإرهاب” في سوريا فإنهم يتركون هذه الكلمة فضفاضة دون تحديد من هم “الإرهابيون”، الذين يجب محاربتهم، ولكن المعطيات تشير بأنهم لا يقصدون بها بكل الأحوال قوات سوريا الديمقراطية، لأنه لم تصف أي من الدول العربية، لا قبل موجة المصالحات ولا بعدها، “قسد” بأنها “إرهابية”، فيما يصفون العديد من الجماعات والفصائل والميليشيات المدعومة من تركيا وإيران بأنها “إرهابية”، والمواقف العربية هذه تحسب لصالح الإدارة الذاتية، حتى وإن لم تفتح الدول العربية علاقات مباشرة معها.

وهذا كله يعني أن الدول العربية ترغب هذه المرة في الحفاظ على سوريا، وليس على النظام السوري، والدليل أن اجتماع الرياض، وبعده اجتماع عُمان لم يفضيا إلى اتخاذ قرار عربي بإكمال عملية التطبيع مع النظام، وإعادته إلى الجامعة العربية، فيما لم يكن مستغرباً رفض الأردن ومصر إعادة النظام للجامعة العربية قبل إظهار تقدمه نحو الحل السياسي، فالأردن التي قررت فتح معبر مع النظام للتبادل التجاري مقابل أن يكافح النظام تهريب الكبتاغون إلى أراضيها، لم تحقق من ذلك إلا زيادة في عمليات التهريب، حيث أحبطت السلطات الأردنية قبل يوم واحد من عقد الاجتماع التشاوري في عُمان محاولة جديدة لتهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن، وهذا ما دفع وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بأن يُلمح إلى إمكانية قيام بلاده بعملية عسكرية داخل سوريا لوقف تهريب المخدرات، في حال أخفق النظام السوري في الوفاء بتعهداته، بحسب شبكة CNN في 6 مايو 2023.

لذا لن تقبل الأردن بتعويم النظام، ما لم يتخذ خطوات عملية في مكافحة تهريب المخدرات، وحل ملف اللاجئين، وضمان عودة آمنة لهم إلى سوريا.

أما عودة مصر إلى سوريا، فهي أيضاً عودة مشروطة، وبدا ذلك واضحاً من تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري، قبل يوم من لقاء “جدة”، حين أكد بأن على النظام الالتزام بالحل السياسي، وفق القرار الأممي 2254، وهذا يشير بأن القاهرة لم تلتمس من دمشق ما يطمئن حيال هذا الشأن خلال زيارَتَي شكري إلى دمشق، والمقداد إلى القاهرة.

فيما يمكن أن يكون من بين أهداف مصر غير المباشرة من إعادة العلاقات مع النظام السوري رغبة منها في استغلال الظروف الراهنة، لتشتيت وإضعاف الإخوان المسلمين، الذين هيمنوا على “المعارضة السورية”، وهذا ما جعل مصر والإمارات والسعودية،  رغم كل تحفظاتهم، على مواقف الأسد السلبية من الدول العربية، أن يفضلوه على المعارضة “الإخوانية” وباقي التنظيمات الإرهابية، التي تدعمها وتمولها كل من تركيا وقطر، وبما أن الأخيرين يحاولان تطبيع العلاقات مع الدول العربية، وهذا ما فرض عليهما تهميش تنظيم الإخوان في هذه المرحلة، لذا قد تكون مصر وجدت الفرصة سانحة لإخراج الإخوان من المعادلة السورية، خاصة أن التنظيم الدولي للإخوان يعاني حالياً من التشتت والانقسامات بعد وفاة “إبراهيم منير” القائم بأعمال المرشد، والذي خلق صراعاً بين قيادات جبهتي إسطنبول ولندن على خلافة “منير”، ولأول مرة في تاريخ الإخوان تعلن كل جبهة قائماً بأعمال المرشد، ولا يعترف كل منهما بشرعية الآخر، وبالتالي فإن كل هذه الظروف مناسبة لتحركات الدول العربية لإجهاض كافة مشاريع الإخوان في الدول العربية.

ولا شك، أن إعادة تعويم الأسد، سيعني سحب الدول العربية الشرعية من “الائتلاف السوري المعارض” الذي يقوده الإخوان، وهذا أيضاً سيُعتبر ورقة، تُحسب لصالح الإدارة الذاتية، التي ستبرز كقوة سورية معارضة وطنية، يمكن إشراكها في الحل السوري.

فيما يمكن للموقف المصري، الذي يصرّ على الانسحاب التركي من سوريا، أن يكون له تداعيات إيجابية على الإدارة الذاتية أيضاَ.

ثانياً- الوضع الكردي ومشروعهم الراهن 

إن كانت بعض الحكومات العربية شاركت سابقاً كل من تركيا وإيران في إبرام اتفاقيات ضد الكرد، فإن من بين أسباب هذا التوجه العربي ما هو متعلق بالكرد أنفسهم، وخاصة ما يتعلق بأوضاعهم السياسية والعسكرية التي كانت ضعيفة جداً، ومشاريع أحزابهم وطروحاتهم، كالدعوة “لإنشاء كردستان الكبرى”، وإقامة وطن قومي للكرد، “ورغم أنها مطالب محقة” إلا أنها منحت الدول المعادية للقضية الكردية حججاً لشرعنة محاربتهم، بوصفهم الكرد انفصاليين ومتمردين على الحكومات الشرعية المعترفة بها دولياً، وبأنهم يشكلون خطراً على الأمن القومي لتلك الدول، منها سوريا، وبالتالي فإن محاربة تلك الحكومات للكرد وثوراتهم، تعتبر بموجب القوانين الدولية شأناً داخلياً لتلك الدول، لذا لم تكن القوى الدولية تتدخل، لحماية الكرد، باعتبار أن دعواتهم لا تنسجم مع مصالح الدول العظمى، وهذا ما شجعت حينها الحكومات العربية ذات التوجه القوموي والديني بشكل خاص للمشاركة – بدون حرج – في اتفاقيات معادية للكرد.

ولكن الظروف الكردية اليوم مختلفة، والأوضاع السياسية والعسكرية، والخطاب السياسي للكرد في سوريا بات مختلفاً، وأكثر قوة ونضجاً من كافة النواحي، مقارنةً بما قبل عقد من الآن، حيث يمكن أن نختصر ذلك بالبنود التالية:

1-عسكرياً

تمكن الكرد من كسر كافة القيود ونمطية الجيوش، التي تخدم السلطات القومية والدينية في المنطقة، عبر إشراك العرب والسريان وباقي المكونات والطوائف بتشكيل “قوات سوريا الديمقراطية”، والتي أصبحت شريكة لقوى التحالف الدولي بقيادة أميركا، وهذه القوات أثبتت قدرتها في حروب مكافحة الإرهاب، وحماية شعوب المنطقة، ومثّلت نموذجاً لقدرة الكرد والعرب للتكاتف في وجه المخاطر والتهديدات التي تواجههم.

وبالتالي، ورغم أن الدول العربية والخليجية لا تتعامل بشكل مباشر مع “قسد”، إلا أنها تدرك حقيقة أن هذه القوات باتت النموذج المشرق الوحيد في سوريا، المختلف عن “الجيش السوري” ذو الطابع الطائفي، والذي يهمين عليه إيران وميليشياتها، ويختلف عن “فصائل المعارضة وباقي الجماعات الجهادية” ذات الطابع الديني المتطرف، والتي يهمين عليهم تركيا والإخوان المسلمين، وكلاهما يعتبران تهديدا للأمن القومي العربي، وبالتالي، فإنه ليس من مصلحة الدول العربية هذه المرة المشاركة في أي اتفاقيات جديدة مع تركيا أو إيران للقضاء على “قسد”، التي يمثل أبناء العشائر العربية الغالبية فيها، لأن أي انهيار لقسد سيعني تسليم ما تبقى من سوريا للميليشيات الإيرانية أو الفصائل والجماعات الإرهابية المدعومة من تركيا، وهذا ما لا ترغب به الدول العربية.

2- سياسياً

من الناحية السياسية، أثبت الكرد في سوريا صوابية رؤيتهم، وذلك عبر تبنيهم “الخط الثالث” من الصراع والأزمة الدائرة في سوريا. فلا هم وقفوا مع النظام ضد الثورة السورية، ولا أصروا على مطلب إسقاط النظام، وفي نفس الوقت لم يرتهنوا لتركيا مثلما فعلت المعارضة السورية، التي تجد نفسها اليوم في موقف حرج بعد عودة تركيا للتطبيع مع النظام.

فيما تبنى الكرد نهجاً جديداً، يختلف عن نمط تفكير الأحزاب الكردية الكلاسيكية، إلا أن طرح وتبني الكرد في سوريا لأول مرة لمشروع الإدارة الذاتية، ومشاركة كافة المكونات في إدارة شمال شرق سورياً، بعيداً عن الإقصاء والعنصرية، كانت هذه خطوة سياسية أثارت مخاوف الأطراف المعادية للكرد، والتي دفعتها لمحاولة إلصاق تهمة “الانفصالية” بهم في مسعى لشرعنة محاربتهم من جهة، وإبعاد باقي المكونات عن مشروعهم الجديد.

والمفارقة التي أثبتت أن هذا المشروع الذي طرحه الكرد يربك الأنظمة المعادية للكرد أكثر من المشروع القومي الكردي، أنه حين كان الكرد قبل الأزمة السورية يطالبون بحقوهم القومية كانت الحكومة تنكر وجود الكرد أو القضية الكردية برمتها في سوريا، ولكن حين استبدل الكرد تلك المطالب بمشروع الإدارة الذاتية، التي يتشارك فيها كافة المكونات في إدارة مناطقهم وحمايتها، بدأت الأنظمة والأطراف المعادية للكرد الإصرار على إلصاق الصفة “الكردية” بالإدارة الذاتية، ووصفهم حتى قسد “بالوحدات أو الميليشيات الكردية”، وذلك في محاولة لإضفاء الصبغة القومية على مشروع الإدارة الذاتية، لإبعاد العرب وباقي المكونات عنها من جهة، ولإبقاء تهمة التمرد والانفصاليين ملتصقة بالكرد، ووصفهم بأنهم يشكلون خطراً على الأمن القومي لسوريا والدول المجاورة، للاستمرار في شرعنة قتلهم ومحاربتهم، ومنع المجتمع الدولي والدول العربية في إبداء أي اعترافٍ سياسي بهذه الإدارة الذاتية،  أو التعامل الرسمي معها.

إلا أن النضج السياسي لممثلي الإدارة الذاتية، دفعهم إلى الإسراع في سد الطريق أمام تلك المزاعم وإثبات زيفها، والتأكيد على أن الإدارة الذاتية هو مشروع سوري وطني وبأنه لا يتعارض مع المقررات الدولية، وذلك عبر إطلاق الإدارة الذاتية – بتاريخ 18 أبريل 2023، وبالتزامن مع زخم الانفتاح العربي على دمشق – مبادرة للوصول إلى حل سياسي سلمي للأزمة التي تعيشها البلاد، وتشمل جميع الأطراف، ولا تتعارض مع المقررات الدولية، لا سيما القرار 2254.

وتعتبر بنود هذه المبادرة – في هذا التوقيت – خطوة ذكية من قبل الإدارة الذاتية، أحرجت النظام السوري وتركيا، حيث تضمنت المبادرة تسعة بنود، أبرزها الاعتراف بوحدة الأراضي السورية، واعتماد نموذج اللامركزية في الحكم، وتوزيع عادل للثروات بين كل المناطق السورية، والاستعداد لاستقبال اللاجئين السوريين في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، ومكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وكل ذلك من خلال حوار سوري- سوري بدعم عربي ودولي، يفضي إلى تحقيق الاستقرار في البلاد واستعادتها عافيتها.

كما أن حديثها عن الاستعداد لاستقبال اللاجئين السوريين، وسط تحول قضية اللاجئين في تركيا ولبنان إلى معضلة يصعب حلها، وتهديد البلدين بطرد اللاجئين، دفعت الكثير من القوى السورية والعربية والدولية، لإعادة النظر في حقيقة هذه الإدارة، ورؤيتها على أنها يمكن أن تمثل الحل للكثير من مشاكل السوريين، ومن أبرزها قضية اللاجئين، وهذه بطبيعة الحال ستحسب كورقة سياسية قوية للإدارة الذاتية أمام الدول العربية والمجتمع الدولي.

وما يُكسِب هذه المبادرة الأهمية، هو تبنيها أيضاً للقرار الأممي 2254، والتي جاءت متوافقة مع مواقف الدول العربية من الأزمة السورية، إذ يمكن ملاحظة التطابق في الرؤية بين المبادرة وبين مخرجات اجتماع عُمان التشاوري من أجل سوريا، الذي عُقد بداية شهر مايو 2023، حيث جاء في البيان الختامي: “أنّ الاجتماع بداية للقاءات ستتابع لإجراء محادثات تستهدف الوصول إلى حل الأزمة السورية، بشكل ينسجم مع قرار مجلس الأمن 2254، ويعالج جميع تبعات الأزمة الإنسانية والسياسية والأمنية”.

وبما أن القرار الأممي رقم 2254، الذي صوّت عليه مجلس الأمن يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، ينص على بدء محادثات سلام بسوريا، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، ووقف أي هجمات ضد المدنيين، لذا فإن توافق موقف الإدارة مع الموقف العربي يعني أن التطبيع العربي مع دمشق سيكون له تداعيات إيجابية على الإدارة الذاتية، لأنه أولاً سيفتح المجال أمام بعض الدول العربية لفتح حوار جاد بين دمشق والإدارة الذاتية، والأمر الثاني أن إصرار الدول العربية على تبني القرار الأممي لحل الأزمة السورية يعني أن التطبيع مع دمشق لا يعني إعادة تعويم النظام وتثبيت حكم الأسد على سوريا، باعتبار أن القرار الأممي يركز على “فترة انتقالية” وعلى انتخابات “حرة” بإشراف الأمم المتحدة بعد الفترة الانتقالية التي مدتها 18 شهراً،  لذا، يمكن ملاحظة أن النظام يهرب من القرار رقم 2254، كونه يعرف جيداً أنّه يعني نهايته بشكل تدريجي.

وفي المحصلة، حتى عودة دمشق لجامعة الدول العربية لن يكون لها أي تأثير على واقع الإدارة الذاتية، باعتبار أن عودة دمشق للجامعة العربية لا تعني التوافق العربي على استدامة حكم النظام على سوريا، بل ستكون إعادتها إلى مقعدها خطوة للأخذ بيد سوريا نحو الحل السياسي.

ثالثاً- الحضور والموقف الأمريكي

لا شك أن للحضور الأمريكي المباشر – هذه المرة – على الأرض السورية، وشراكته ضمن التحالف الدولي مع قوات سوريا الديمقراطية، له دورٌ كبيرٌ في دفع الدول العربية لإعادة حساباتها في اتخاذهم أي قرار يخص مناطق الإدارة الذاتية، فاتخاذهم أي اتفاق مع تركيا وإيران ودمشق فيما يخص الكرد ومناطق الإدارة الذاتية يجب أن يمر بالموافقة الأمريكية، لأنه بدون تلك الموافقة، كل الاتفاقيات لن يكون لها أي تأثير مع استمرار الوجود الأمريكي.

وما يشير بأن هذا الانفتاح العربي على دمشق يحظى بشكل ضمني بموافقة أمريكية، هو أنه في وقتٍ اعتبرت الولايات المتحدة أن النظام السوري لا يستحق العودة إلى الجامعة العربية، إلا أنها أشارت إلى أنها لم تمارس ضغوطاً على حلفائها، لمنعهم من التطبيع معه، فيما قال المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا “جويل ريبرون” إن مسؤولين كباراً في الإدارة الأميركية الحالية أعطوا دولاً عربية “ضمناً” الضوء الأخضر للتطبيع مع النظام، مشيراً إلى أن إدارة بايدن فضّلت التطبيع مع النظام على أن ترعى روسيا “صفقة” بين دمشق وأنقرة.

وما يؤكد ذلك التوافق بين أميركا والدول العربية، ما قاله نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية “فيدانت باتل” للصحافيين، بأنه في ظل “غياب تقدم واضح نحو حل سياسي للصراع في سوريا، نواصل توضيح ذلك بشكل سرّي وعلني مع شركائنا”.

وقال باتل: “هناك خطوات ملموسة، نعتقد أنها يجب أن تحدث، وتشمل وصول المساعدات الإنسانية بشكل مستدام، ويمكن التنبؤ به ومستقل، وتقليص دور الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وإنهاء تجارة مخدرات الكبتاغون المدمرة، وتقدم حقيقي على المسار السياسي”. هذه المطالب الأمريكية تشبه مطالب مخرجات اجتماع “جدة” في السعودية، ما يعني أن هذا الانفتاح العربي، وخاصة السعودي الأخير، جاء بموافقة أمريكية، وبالتالي فالانفتاح العربي على دمشق سيكون إيجابياً على الإدارة الذاتية.

أما تفسير العديد من المراقبين زيادة الزخم في تحركات كل من روسيا وإيران وتركيا والدول العربية وحتى روسيا في منطقة الشرق الأوسط، وإعادتهم ترتيب علاقاتهم وتطبيعهم للعلاقات، وسط ثقل التحرك الأمريكي والغربي في المنطقة بأنه مؤشر على ضعف أميركا في المنطقة، وحتى توقع أن تنسحب أميركا من سوريا والعراق نتيجة هذه المتغيرات، هي تفسيرات غير دقيقة، لأن زخم المصالحات جاء أساساً نتيجة ضعف كل تلك الأطراف، وخاصة في المجال السياسي والاقتصادي، الذي يهدد كافة الحكومات، فأردوغان – الحالم بإمبراطورية تعيد المجد العثماني-  أدرك فشله، وحكام طهران الحالمون بأمجاد الإمبراطورية الفارسية أدركوا فشلهم، وبوتين الغارق بالمستنقع الأوكراني يدرك صعوبة مأزقه، والكل بات يبحث عن مخرج يحفظ له ماء وجهه.

لذا، وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإن أميركا تثبت وجودها على المدى الطويل في المنطقة، وتؤكد مواصلتها دعم حلفائها، لمواجهة كافة التهديدات، وخاصة التهديدات الإيرانية، وهذا ما كشف عنه تصريح قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي (سينتكوم)، الجنرال “مايكل كوريلا: خلال زيارته لإسرائيل، بتاريخ 27 أبريل 2023، حيث قال: “إن التحدي المركزي الذي يواجهه، كقائد «سنتكوم»، هو نفي الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تغادر الشرق الأوسط، وتهدئة حلفاء أميركا، بشأن التزام إدارة جو بايدن تجاه أمن حليفاتها، مؤكداً أنها تسعى إلى تعزيز التعاون بين هؤلاء الحلفاء لمواجهة الهجمات التي تشنها إيران ومنظمات موالية لها بصواريخ وطائرات مسيّرة، والتي أصبحت التهديد المركزي على الولايات المتحدة وإسرائيل ودول عربية”.

وفي المحصلة، لم يعد سراً أن أميركا واسرائيل والغرب لن يشنوا حروباً تقليدية ضد الدول التي ستفشل في اللحاق طوعاً بالتغيرات الحاصلة على المستوى الدولي “كروسيا وإيران وتركيا” ليغيروها. فالحرب بالنسبة لهم خيار عفا عليه الزمن، وبدائله متوفرة وسهلة ورخيصة؛ وهو الحصار الاقتصادي، والإهمال وزجهم في حروب استنزاف مع جيرانهم، أي وكأن أميركا تتركهم ليذبلوا ويجفّوا ليتساقطوا من تلقاء أنفسكم.

الرؤية والتوصيات

من الملاحظ أن الانفتاح العربي على دمشق يهدف إلى حل سياسي، والانتقال إلى الانتخابات، وفق دستور جديد، يحدد فترة ولاية الرئيس وصلاحياته، وإجرائها تحت مظلة دولية أو عربية أو مشتركة، وسيعني محدودية دور النظام في مستقبل البلاد.

ويبدو أن النظام يعتقد بأن أي تقدم نحو الحل السياسي وفق المرجعية الدولية، ولو بنصف خطوة، سيقربه نحو نهايته وزواله دون شك، وبالتالي فإن مبدأ “خطوة مقابل خطوة” عربياً، سيصطدم بالكثير من العراقيل المحلية للحل السوري، هذا عدا عن عشرات العقبات القانونية والسياسية على المستوى الدولي والعربي، في مقدمتها ثلاث إدانات بحق النظام باستخدام السلاح الكيماوي والمطالبة بمحاسبة النظام بعد الحل السياسي.

إن عودة مساعي التطبيع بين تركيا وإيران ودمشق والدول العربية يشير في أحد جوانبه إلى فشل مشاريع تلك الأطراف في حل أزمات المنطقة، فالقوميون حاولوا تسويق الأيديولوجيا وفشلوا، تركيا والإخوان وإيران حاولوا التسويق للمشاريع الدينية وفشلوا. فيما يبرز مشروع الإدارة الذاتية كنموذج يمكن اتخاذه كقاعدة للانطلاق نحو الحل السياسي، عبر اعتماد النظام اللامركزي في سوريا.

إن كان هناك في دمشق – أو خارجها – من ينتظر أن يعيد الصراع التجاري القائم بين الصين والولايات المتحدة ثنائي القطب إلى العالم، فإن انتظارهم سيطول، لأنه لا الصين ترغب بالمواجهة، بعد أن قطفت ثمار الانفتاح والعولمة، ولا الولايات المتحدة راغبة هي الأخرى بتصعيد التوتر. فالصين التي تصالحت مؤخراً مع كورونا لإنقاذ اقتصادها، تبحث عن شركاء اقتصاديين وأسواق لمنتجاتها، ولا يهمها لون وديانة وعقيدة هؤلاء الشركاء.

وسط كل هذه المتغيرات وهذه الظروف التي تمر بها المنطقة، يجب على كافة القوى والأحزاب الكردية في سوريا وخارجها إعادة النظر في خطاباتهم السياسية والإعلامية تجاه بعضهم البعض، والإسراع في التوافق على رؤية موحدة، ليتمكنوا من لعب دور فعال في بدء أي خطوة نحو الحل السياسي في سوريا.

كما يجب على الكرد التخلص من عقدة “المظلومية” والاعتقاد بأن كل العالم يقف ضدهم، لأن الوقائع أثبتت أنه كلما تمكن الكرد من تطوير أنفسهم سياسياً وعسكرياً يزداد معها فرص حصولهم على الدعم الدولي والإقليمي، فتشكيل الكرد لوحدات حماية الشعب والمرأة، وإثبات قدراتهم على محاربة الإرهاب وحماية مناطقهم، هو ما دفع أميركا والتحالف الدولي لاتخاذهم شركاء لهم، لذا فإن المطلوب من الكرد تقوية وتطوير وضعهم السياسي ليتمكنوا من الحصول على دعم سياسي دولي وإقليمي أيضاً.

إن ما يميز مبادرة الإدارة الذاتية، ويجعلها قابلة للتطبيق، هو عدم وضعها شروط مسبقة لأي خطوات نحو الحل، فالحل بموجب المبادرة هو ما يتفق عليه السوريون عبر الحوار. إن هذا الموقف للإدارة الذاتية هو أهم ما جاء في نص المبادرة، ويبين عدم صحة ما ينسب لها من وجود خطوط حمراء لديها لن تسمح بتجاوزها، ومن هنا يجب على مجلس سوريا الديمقراطية الأخذ بيد هذه المبادرة والتحرك بها، ووضعها على طاولة القوى الدولية والعربية، وتوضيح وشرح كافة بنودها، ليدركوا أن هذه المبادرة يدور في إطار القرار الأممي 2254، وبالتالي إزاحة كافة التصورات المغلوطة والشكوك والمخاوف، التي تنتاب بعض القوى الدولية والحكومات العربية حيال ما يصدر عن الإدارة الذاتية من مواقف.

إن كانت الدول العربية عادت للتطبيع مع الأسد وهو حليف إيران، وفضلوه على المعارضة السورية وفصائلها بسبب هيمنة الجهاديين والإخوان عليها، فمن الأولى أن يفضلوا الإدارة الذاتية وقسد على الاثنين، إلا أن عدم وجود اعتراف سياسي دولي بالإدارة الذاتية حتى الآن وحساسية التعامل مع الكرد في سوريا في هذه المرحلة هو ما يمنع الدول العربية إظهار تقبلها لهذه الإدارة وقواتها العسكرية وتفضيلها على باقي الأطراف.

لذا، وفي حال جرى أي اعتراف رسمي بهذه الإدارة وقواتها العسكرية تحت مظلة دولية، فمن المؤكد أن غالبية الحكومات العربية، وخاصة الخليجية، ستسارع إلى فتح العلاقات على كافة المستويات معها، على غرار علاقاتها مع إقليم كردستان بعد نيلها الشرعية الدولية.

زر الذهاب إلى الأعلى