قضايا راهنة

دوافع عودة الصراع إلى المنطقة

تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات وصراعات ذات طابع مختلف، مما يرجح بالتغيير في المعادلات القائمة، والانتقال من مرحلة الركود القائم والمبطن بالتهديدات إلى تهديداتٍ مباشرة، حيث أعلنت إسرائيل أنها دخلت حالة حرب مفتوحة مع حركة حماس، وهددت داعمي الحركة ومسانديها، بعد تنفيذ الأخيرة عملية عسكرية مباغتة على المستوطنات الإسرائيلية. وكذلك صعّد النظام السوري هجماته على إدلب، بعد عملية استهداف الكلية الحربية في حمص، والتي لم تتبناها أي جهة، مما ترك الكثير من إشارات الاستفهام والغموض حول الجهة الفاعلة؛ بالإضافة إلى التصعيد التركي في شمال وشرق سوريا، والذي جاء بعد عملية أنقرة.

لكن منْ يقف وراء هذه الأحداث، وما هي الجهات المستفيدة منها؟

إذا استطعنا الإجابة عن هذه التساؤلات، قد تتوضح الخطط التي تزامنت مع قصف البنى التحتية من قبل النظام التركي لمدن شمال وشرق سوريا. ومن غير المستبعد أن يكون هناك ترابط بين مجمل هذه الأحداث؛ فتزامن هذه العمليات بتوقيتٍ واحدٍ يعزز من احتمال وجود غرفة عمليات مشتركة تقف وراء هذه الاحداث، والكثير من المؤشرات- على ما يبدو- تحمل بصمات “محور أستانا”، ويمكن قراءة دوافع وأهداف أطراف هذا المحور كما يرد أدناه:

تـركـيـا:

من يراقب الوضع في تركيا يرى أنها تعيش مجموعة من الأزمات الاقتصادية والسياسية؛ فبالرغم من محاولتها العودة صوب الغرب؛ سيما بعد الانتخابات الأخيرة، إلا أنها لم تلق ترحيباً غربياً، ويبدو أن الغرب بات مدركاً لسياسة تركيا القائمة على الازدواجية واللعب على التناقضات، وهي حائرة بين المحورين (الغرب والشرق)، وهو ما ذهب إليه نائب رئيس المفوضية الأوروبية، مارغاريتس سخيناس، في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما صرّح أنه “على أنقرة أن تختار هل ستكون مع أوروبا والناتو، أو مع روسيا وإيران وحماس وحزب الله”. ويبدو أن أنقرة تحاول لفت الأنظار والضغط على الغرب، لذلك تبحث عن أية ذريعة لخلط الأوراق وخلق التوترات للوقوف في وجه المشاريع الغربية التي لا تصب في مصلحتها في الشرق الأوسط. وعليه، فإن عملية “طوفان الاقصى”، والهجوم على الكلية الحربية في حمص يصبان في مصلحة تركيا؛ فضلاً عن هجمات الأخيرة في سياق مشاريعها التوسعية على البنية التحتية والفوقية في شمال وشرق سوريا لضرب الاستقرار، وإضعاف إدارتها الذاتية.

وهناك عدة أسباب تُرجّح وقوف تركيا وراء هذه الأحداث لضرب استقرار المنطقة، منها:

  • إن العلاقات التركية الإسرائيلية متذبذبة، رغم محاولات إصلاحها خلال السنتين الأخيرتين، ولكن من الواضح أن الخلافات بين إسرائيل وتركيا أعمق مما هي بادية للعيان، حيث أن صراع الهيمنة في المنطقة والمتمحور بين كل من (إيران- تركيا) مع إسرائيل، هو في ذروته؛ فتركيا تنازع إسرائيل “مدللة” النظام العالمي على مكانتها في الشرق الأوسط، وإضعاف إسرائيل يصب في مصلحة تركيا؛ لكسب المكانة الاستراتيجية عند هذا النظام.
  • إن الاتفاق الذي نتج في “قمة العشرين” في الهند، بإنشاء ممر اقتصادي بين الهند ودول الخليج مروراً بإسرائيل وصولاً إلى أوروبا، دون الانعطاف نحو تركيا، التي تدّعي باستراتيجية موقعها الجغرافي يثير غضبها.
  • يبدو أن تركيا لا تروق لها اتفاقيات إسرائيل مع الدول العربية، وخاصة ما كان يُناقش في الآونة الأخيرة حول تطبيع العلاقات مع السعودية، فقد كانت تركيا الدولة المسلمة الوحيدة المنفتحة على إسرائيل في المنطقة، سابقاً، وهذا الوضع كان يشكّل خصوصية لها عند النظام العالمي وإسرائيل، والانفتاح العربي الإسرائيلي يفقدها هذه الخصوصية.
  • احتضان تركيا لقادة حماس وافتتاح مكاتب لهم في إسطنبول، شكل عائقاً أمام عودة العلاقات بين الطرفين، وخاصة أن قادة حماس صرّحوا مراراً باستمرار علاقاتهم مع تركيا.
  • الصراع التركي مع إسرائيل على ممرات الغاز في البحر الأبيض المتوسط.
  • الوجود الأمريكي في المنطقة، يثير قلق وسخط دائمين لدى الدولة التركية، والمتابع للإعلام التركي يدرك مدى هذا الانزعاج، لأن هذا الوجود يقف عائقاً أمام مشاريعها التوسعية في المنطقة. والقتال الشرس الذي تخوضه تركيا ضد الإدارة الذاتية يحمل في طياته شيئاً من المواجهة المبطنة للتحالف الدولي ضد داعش، ويحمل عدة أوجه منها: محاربة المشروع الكردي الذي يتطور في الساحة التي تتواجد فيها قوات التحالف بقيادة أمريكا من ناحية، والضغط على هذه القوات، التي تبقي تركيا خارج مخططاتها، من ناحية أخرى، وما تصريحات أردوغان في الآونة الأخيرة حول التواجد الأمريكي في سوريا والمنطقة إلا نتيجة امتعاضه الكبير منها، حيث تجد تركيا في التعزيزات والوجود الكبير لهذه القوات خطراً عليها، خاصة بعد إسقاط القوات الامريكية طائرتها المسيرة في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي لم يكن حدثاً عادياً، بل مؤشراً هاماً، وخاصة إنهما “حليفان في الناتو”. كما جاء قرار الإدارة الأمريكية بتمديد حالة الطوارئ في سوريا، في 12 تشرين الأول/أكتوبر، ليزيد من مخاوف الحكومة التركية وقلقها، سيما أن مبررات التمديد يشمل- لأول مرة- الغارات التركية الأخيرة على شمال وشرق سوريا.

إيـران:

يتجه النظام العالمي إلى فرض العزلة على إيران يوماً بعد يوم، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي ترهق كاهل الحكومة.

إن الصراع في القوقاز (قره باغ) لم يصب في مصلحة إيران، حيث نتج عنه ضرورة فتح “ممر زنكزور” بين أرمينيا وأذربيجان، لإيصال النفط والغاز من تركمانستان وأذربيجان عبر تركيا إلى أوروبا، وهذا يضرّ بالمخططات الإيرانية التي كانت تسعى من خلالها إلى تصدير نفطها وغازها إلى أوروبا عبر أرمينيا. كما أنّ إيران تعتبر فتح هذا الممر خطراً وجودياً عليها، وتطلق عليه “الممر الصهيوني” لأنّ فتحه سيسمح بتمدد إسرائيل المتواجدة في أذربيجان، وكذلك الناتو أيضاً، إلى منطقة بحر قزوين، وبالتالي تضييق الخناق على إيران، ما دفع الأخيرة إلى رفض هذا الممر بشكل صريح، فضلاً عن أن افتتاح هذا الممر كان يزيد من احتمالية نشوب صراع بين إيران وأذربيجان حليفة تركيا، وبالتالي احتمال تصاعد التوتر بين الأخيرة وإيران.

إن “الممر الاقتصادي” بين الهند وأوروبا، الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال قمة العشرين في الهند، يزيد الخناق على إيران، فمن المفترض أن يمر الطريق الجديد بالخليج العربي قادماً من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم يعبر أراضي المملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل قبل أن يصل إلى أوروبا. وسيشمل المشروع أيضاً كابلاً بحرياً جديداً، وبنية تحتية لنقل الطاقة، وفقاً لما ذكرته “فايننشال تايمز”، وهذا الممر الذي يتجاهل إيران، وكذلك تركيا، سيؤدي إلى محاصرة إيران بشكل أكبر، ويزيد من عزلتها.

ومن جهة أخرى، كانت التحضيرات بشأن التطبيع السعودي مع إسرائيل تشكل هاجساً لإيران وتقض مضجعها، لأن هذا التطبيع يضر بالمصالح الإيرانية في المنطقة ويعزلها أكثر سياسياً، فإذا ما أُضيف إلى عمليات التطبيع التي حصلت وتحصل بين الدول العربية وإسرائيل، فإنه في النهاية سيعرّض المصالح الإيرانية لخطر كبير، وسيؤدي إلى تضيق الحصار على ميليشياتها وأدواتها في المنطقة. وبالنظر إلى ما تشهده المنطقة من أحداث متسارعة ومهمة، فإنه من السهل حياكة الشكوك حول إيران ودورها في “غرفة العمليات المشتركة”، واتهامها بالضلوع في الترتيب لهذه الأحداث.

إن الغارات الإسرائيلية المستمرة على المواقع الإيرانية في سوريا يشكل تهديداً وجودياً لها، ويضع تل أبيب في موقع الهجوم، لذا جاءت عملية حماس- أحد أذرع إيران- في هذا التوقيت بمثابة حركة استباقية وضربة لإسرائيل، اعتماداً على عنصر المباغتة، في محاولة لجرها إلى حرب لم تكن في الحسبان، ولتبقيها في حالة الدفاع. ويمكن القول بأن هذه الضربة ستنتزع من إيران، أحد أهم أوراقها التي تتحكم من خلالها بزمام المبادرة. وكانت إيران تهدف من وراء هذه العملية إيصال رسالة مفادها “ضرورة” أخذ الغرب واسرائيل الوجود الإيراني بالحسبان في المنطقة. فعلى الرغم من إنكار إيران رسمياً وقوفها وراء “طوفان الأقصى”، إلا أنها أظهرت دعمها الكامل لهذه العملية، وبدا ذلك واضحاً في تصريح مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، بقوله: “أهنئكم بهذا النصر الاستراتيجي الكبير، الذي يعتبر بمثابة إنذار جدي لكل المتنازلين في المنطقة، ونعتقد أن الانتصارات المتزايدة ستستمر حتى القضاء على هذا النظام المجرم”.

روسيـا:

لا شك أن الأحداث الأخيرة التي تشهدها المنطقة تدخل مباشرة في مصلحة روسيا التي دخلت السنة الثانية في حربها على أوكرانيا، فقد كان الموقف الروسي حيال هجمات حماس لافتاً للنظر، حيث اكتفت بإبداء القلق من الوضع. في الوقت الذي لم تبد فيه أي موقف من الهجمات التركية الأخيرة على شمال شرق سوريا، بل عمدت إلى تسيس تلك الهجمات، وكان التصريح المباشر للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين دليلاً واضحاً على منح تركيا الضوء الأخضر للعملية العسكرية، حيث أشار إلى أن موسكو مستعدة للوساطة بين النظام السوري و”قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرقي البلاد، بحسب وكالة “تاس” الروسية.

إن ظهور بؤر توتر جديدة في المنطقة يصب في مصلحة روسيا، اعتقاداً منها بإمكانية اشغال الولايات المتحدة وأوروبا بها؛ لتخفيف الضغط عليها في حربها على أوكرانيا. كما أن مشروع “الممر الاقتصادي” يشكل تهديداً كبيراً للمصالح الروسية في الشرق الأوسط، فضلاً عن التجاهل الكبير والمقصود لها وللصين، إلى جانب كل من إيران وتركيا فيه، مما يضعها في دائرة الشك والاتهام بضلوعها في “غرفة العمليات المشتركة”، سابقة الذكر.

في المحصلة.. لقد تأزمت الأوضاع في المنطقة، ووجدت كل من إيران وتركيا وروسيا والنظام أنفسهم بحاجة إلى إعادة تدوير الأزمة وخلق حروب جديدة، لإيجاد مبررات مواصلة وجودهم في سوريا، وعرقلة أي مشاريع للحل السياسي، خاصة تلك الحلول المقترحة بقرارات أممية.

وبالتالي، فإن جميع الأحداث الأخيرة، بدءاً من الهجوم التركي على شمال وشرق سوريا، مروراً بهجوم الكلية الحربية في حمص، وانتهاءً بعملية حماس ضد إسرائيل، تم التحضير لها في مطبخٍ واحدٍ، هو على الأرجح مطبخ “محور أستانا”، بعد أن باتت أطراف هذا المحور على درايةٍ بأن المنطقة تتجه نحو خريطة سياسية جديدة، لن تلبي مصالحهم وغاياتهم فيما لو استقرت الأمور، وهو الهم والقاسم المشترك بين دول هذا المحور، وعليه فإنها ستنشر الفوضى والتوتر ريثما تجد الحلول البديلة التي تناسبها.

بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المنطقة مقبلة على تحوّلات كبيرة، وهو ما تشير إليه تصريحات السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، جلعاد إردان، والذي شبّه فيها هجوم حماس بأحداث “11 سبتمبر”، تلك الأحداث التي غيّرت الكثير من موازين القوى في الشرق الأوسط بعد دخول الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. وما يعزز هذه الفرضية تحريك الولايات المتحدة أسطولها الحربي، ووصف كل من واشنطن وتل أبيب لحماس ﺑـ “داعش”. كل هذه الأحداث تنذر بتطور الأوضاع بشكل دراماتيكي، وتزيد من مخاوف اتساع دائرة الحرب والصراع في المنطقة، وتجعلها على حافة تغييرات عميقة.

زر الذهاب إلى الأعلى