دراسات

الكرد في سوريا قبل الميلاد وحتى نهاية العصر العباسي

تعدّ سورية الطبيعية من أقدم المناطق المأهولة في حوض البحر المتوسط، إذ توجد فيها مستوطنات ومراكز بشرية تعود إلى أكثر من مليون سنة، وقد ساعد موقعها الجغرافي، ومناخها، وطبيعتها المتنوعة من سهول وهضاب وجبال على جذب المهاجرين إليها، فسهولها ووديانها وهضابها جذبت الباحثين عن الاستقرار والعمل، بينما كانت جبالها ملاذاً للمغلوبين أو المطرودين من ديارهم.

وكما كانت سورية ملتقى للطرق التجارية كانت أيضاً ملتقى الشعوب المختلفة، وقد استوطنتها وهاجرت إليها أمم وشعوب عديدة خلال حقب التاريخ المختلفة، ومن هنا فالتركيب العرقي لسكانها القدماء لم يكن واضحاً، لأنّ أجناساً بشرية مختلفة ساهمت في تكوين شعوبها، من ساميين، وهندو- أوروبيين، وآخرين.

ومن أعرق الشعوب السامية “العربية” التي استقرّت في سورية الآموريين – العموريين – الذين هاجروا إلى منطقة حوض الفرات الأوسط وإلى شمال سورية حوالي عام 2500 ق.م، وقد أسّس العموريون مجموعة من ممالك المدن أشهرها مملكة يمحاض  “حلب” ومملكة ماري ” تل الحريري – قرب البوكمال حالياً”، ومملكة إيبلا” تل مرديخ – قرب إدلب حالياً ” كما أنّهم أسّسوا  في بلاد الرافدين مملكة قوية عرفت باسم الدولة البابلية الأولى”المملكة العمورية” 1830 – 1531 ق.م وأشهر ملوكها المشرع حمو رابي.

أما الكنعانيون  فقد سكنوا منطقة جنوب سورية والساحل الشمالي والأوسط لشرق البحر المتوسط، في نفس الفترة الزمنية تقريباً التي هاجر فيها الآموريون؛ أي حوالي عام 2500ق.م، وأطلق على كنعانيي الساحل اسم الفينيقيين، الذين سيطروا على تجارة البحر المتوسط،  وأسّسوا مجموعة من ممالك المدن منها أوغاريت “رأس شمرا ” صور، صيدا  بيبلوس “جبيل” أما كنعانيو الجنوب – (وكلمة كنعان Keengg – كيناخو – كلمة هورية تعني الصباغ الأرجواني)، فعملوا في الزراعة وحافظوا على اسمهم، ومن أشهر مدنهم يبوس “القدس”، حبرون “الخليل”، بيت شان “بيسان”، أريحو “أريحا”.

ومن بين الشعوب التي سكنت سورية منذ العصور التاريخية القديمة واستمروا على هذه الأرض حتى الآن الشعب الكردي، فقد سكن الهوريون (الحوريون – الخوريون) والميتانيون سورية منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وهم من شعوب جبال زاغروس القديمة “الأجداد القدماء للشعب الكردي” فقد استقرّ الحوريون  في سورية وأسّسوا فيها مجموعة من الممالك القوية سيطرت عليها وعلى معظم المنطقة ردحاً من الزمن.

الحوريون من الشعوب الهندو- أوربية ظهروا في الألف الثالثة قبل الميلاد في منطقة “سوبارو، سوبارتو” الممتدة بين جبال زاغروس ومنابع الفرات؛ أي في شمال بلاد ما بين النهرين وشمال سوريا، وقد سكنوا أول الأمر في جبال زاغروس ثم زحفوا تدريجياً نحو الغرب حتى وصلوا إلى منابع نهر الفرات والخابور، ومعنى كلمة (هوردي- خُرَدي Huradi الجندي اليقظ) وهذا المصطلح قريب من حيث الاسم والمعنى من كلمة الكرد، فإذا كانت كلمة خُرَدي تعني الجندي اليقظ، فإنّ كلمة (كرد أو كردي في اللغة الآشورية تأتي بمعنى القوي وفي الفارسية القديمة “البهلوية” البطل أو المصارع)، وهي بذلك قريبة من المعنى السابق أو هي صفة من صفات الجندي اليقظ.

ظهر الحوريون على مسرح التاريخ في أواخر عهد الدولة الأكادية 2360 – 2180 ق.م، إذ نجد بين الوثائق واللقى التاريخية المتفرّقة من تلك الحقبة إشارات تدلّ على ظهور بعض الممالك الحورية الصغيرة، إذ وجدت سلالات حاكمة في المنطقة ذات أسماء حورية، كانت ترى نفسها في مستوى ملوك أكاد (مثل الملك: أَتَل- شِن، أو آري – شِن، الذي يسمي نفسه في أحد النقوش باسم “ملك أوركيش* ونوار* “).

وفي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد شكّل الحوريون مجموعة من الممالك القوية امتدت من جبال زاغروس حتى الفرات الأوسط، واتخذوا من مدينة أوركيش عاصمةً لهم، ونتيجةً لسيطرتهم على الطرق التجارية بين وادي النيل وبلاد الرافدين والأناضول ازدهرت المملكة الحورية بسرعة وازدادت رقعة مساحتها، فسيطرت على معظم سورية بما فيها ممالك الساحل الفينيقية كمملكة أوغاريت (مما جعل المصريين في عهد الدولة الحديثة 1575 – 1087 ق.م يسمّون سورية باسم بلاد الحوريين) ويشكل (تاريخهم صفحات أساسيّة من تاريخ سوريا القديم خلال الألف الثاني قبل الميلاد، فقد ارتحلوا إليها كغيرهم في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، واتخذوها موطناً، وأسهموا في تاريخها السياسيّ والحضاريّ، وتمكّنوا في مطلع القرن الخامس عشر قبل الميلاد بالتحالف مع الميتانيين من تشكيل مملكة قوية، تمركزت في مناطق الجزيرة السورية العليا، وامتدت غرباً في الشمال الـسوري، وشرقاً في الشمال العراقي).

وبدءاً من القرن الخامس عشر قبل الميلاد (أخذ بعض ملوك الهوريين يلقبون أنفسهم بالميتانيين، وخاصةً أولئك الذين تمركزوا في وادي نهري الخابور والبليخ)، وأطلق على هذه المملكة الحورية اسم المملكة الميتانية، التي امتدت على نفس المساحة التي قامت عليها الدولة الحورية بالإضافة إلى فلسطين (التي بلغ من قوتها أن امتد حكمها من البحر المتوسط إلى مرتفعات ميديا)، التي تعرف في الوثائق الأكادية والآشورية أحياناً باسم “خاني جَلْبَت، أو خالي جلبت”، ويدلّ كلا الاسمين “ميتاني وخاني جلبت” على البلاد الواقعة بين منعطف نهر الفرات والمجرى العلوي لنهر دجلة، وهي (تسمية ميتانية أطلقت على معظم مناطق الجزيرة العليا)، ومركزها منطقة مثلث ينابيع الخابور، ويرجّح أنّ مملكة ميتاني كانت تشمل أيضاً مناطق طور عابدين والسهل المحيط بديار بكر).

اتخذت الدولة الميتانية من  مدينة واشو كاني – أشو كاني، سيكاني- عاصمةً لها، (وكانت حكومتها إحدى الحكومات الأربع الكبيرة في ذلك الوقت وهي: الدولة المصرية الحديثة، والدولة الحثية، ودولة كاردونياش، والدولة الميتانية)، وقد أدّى توسّعها وسيطرتها على فلسطين والطرق التجارية على الساحل السوري إلى اصطدامها مع الدولة المصرية، وقام الملك المصري تحوتمس الثالث 1483 – 1450 ق.م، بتجريد حملة كبيرة ضدّ الميتانيين والملوك والأمراء السوريين المتحالفين معهم، وانتصر عليهم في معركة مجدو عام 1458 ق.م، وصل على إثرها إلى نهر الفرات، وبعد انسحاب الملك المصري من سورية، تحرّك الآشوريين على الحدود الجنوبية الشرقية للدولة الميتانية لاستعادة ممتلكاتهم الذين فقدوها، إلا  أنّ الملك الميتاني سوشتتر تصدى لهم وقام ثانيةً (بإخضاع الآشوريين، ومن ثم التوسّع شمالاً حتى وصل إلى بحيرة وان). وعقد هذا الملك فيما بعد تحالفاً مع الملك المصري أمنحوتب الثاني 1450 – 1425 ق.م، للوقوف في وجه المدّ الآشوري والحثّي.

وفي عهد الملك أرتتما الأول خليفة سوشتتر تحسّنت العلاقات بين مملكة ميتاني ومصر أكثر وتم عقد معاهدة سلام بينهما، إثر ازدياد الخطر الحثّي من الشمال ضدّ هاتين الدولتين، وتوطّدت العلاقات أكثر بعقد مصاهرة بين الأسرتين المالكتين بزواج الفرعون المصري امنحوتب الثاني 1428 – 1400 ق.م من ابنة الملك الميتاني أرتتما الأول (وهذه إشارة إلى أنّ الدولة الميتانية غدت على قدم المساواة مع الدولة المصرية)، وازدادت العلاقات تحسّناً بين الطرفين بزواج الملك المصري امنحوتب الثالث 1408 – 1370 ق.م من “تَتو خِبا” ابنة الملك الميتاني تشرتا بن أرتتما، والذي توفي عنها بعد سنوات قليلة من اقترانه بها، فتزوّجها من بعده الملك امنحوتب الرابع ” إخناتون ” 1370 – 1352 ق.م وعرفت في عهده باسم نفرتيتي، وكان لها تأثير كبير على ثورته الدينية.

بعد وفاة الملك تشرتا انقسمت مملكته بين ولديه “ماتي وازا” وأخوه أرتتما الثاني، وقد أدى انقسام المملكة الميتانية إلى تنافس الحثيين والآشوريين والمصريين على سورية، وأدى هذا التنافس والحروب والغزوات المستمرة بين الأطراف الثلاثة والتي كان مسرحها وميدان معاركها سورية والمملكة الميتانية إلى ضعف هذه المملكة، فسيطر الملك الحثّي القوي  شوبيلوليوما 1380 – 1355 ق.م، على شمالي سورية حتى غرب نهر الفرات (أما القسم الباقي من المملكة فقد أصبح تابعاً فيما بعد للملك الآشوري “أدد نيراري 1304 – 1273 ق.م”، ثم أصبحت قسماً من الإمبراطورية الآشورية المتوسطة في عهد وريثه “شلمناسر الأول 1273 – 1244 ق.م” وهكذا زالت دولة كانت في احد العصور تشارك مصر والدولة الحثية السلطة العالمية).

في ظلّ الإمبراطورية الآشورية حافظت بعض المناطق والمدن في مختلف أرجاء الإمبراطورية المترامية الأطراف ومن بينها المدن الميتانية على استقلالها الذاتي، مثل مملكة “تئيد” – حالياً تل أحمدي جنوب القامشلي – وكان لهذه المدن (حظ موفور من الحكم الذاتي المحلي، كما احتفظت كل أمة فيها بدينها وقوانينها وحاكمها، ما دامت لا تتوانى عن أداء الجزية المفروضة عليها) إذ وجدت بعض الدويلات التي كان ملوكها يحملون أسماء حورية مؤكدة في عهد الملك  تجلات بلاسر 1114- 1076 ق.م مثل (كيلي تشوب بن كلي تشوب).

في هذه المرحلة التاريخية وصلت إلى المنطقة هجرة سامية جديدة هي الهجرة الآرامية التي اجتاحت قسماً كبيراً من بلاد الرافدين وسورية الشمالية والوسطى، خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر، وأسّسوا مجموعة من ممالك المدن أهمّها مملكة دمشق أهمّ وأشهر الممالك الآرامية، ومملكة حامات “حماة”، ومملكة فدان آرام في حرّان، ومملكة آرام النهرين في تل حلف، ومملكة شمأل على سفوح جبال الأمانوس.

تأثر الآراميين بالحضارة (المادية للشعب الذي سكن بين ظهرانيه؛ أي الحضارة الهورية والميتانية)، وقد انهارت هذه الممالك أيضاً على يد الإمبراطورية الآشورية عام 732 ق.م.

في هذه الفترة ظهرت الدولة الميدية في شمال غرب الهضبة الإيرانية التي تأسّست في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد على يد الملك ديوكيس “دايكو”، التي وحدت الهضبة الإيرانية، وأخذت تتوسّع نحو الغرب فاصطدمت بالإمبراطورية الآشورية، وبدأت تنافسها على مناطق نفوذها، بعد أن اضطربت أحوالها الداخلية بعيد وفاة الملك الآشوري آشور بانيبال 633 ق.م. وقد خلف “ديوكيس”  ابنه “فراوريتس” الذي سار على نهج أبيه في محاربة الآشوريين، الذي قُتل في إحدى المعارك معهم، فخلفه الملك “كي أخسار 633-584 ق.م”. الذي أعاد تنظيم جيشه ودولته من جديد وتحالف مع الملك الكلداني “نابو بولاصر” ضدّ الآشوريين، وقد بدأ كي أخسار بمهاجمة الآشوريين بدءاً من عام 615 ق.م، وتمكن في عام 614 ق.م من احتلال مدينة آشور العاصمة الدينية للدولة الآشورية وتدميرها، وفي عام 612 ق.م تم تشديد الحصار على العاصمة الآشورية نينوى التي لم تصمد طويلاً هذه المرة أمام جيوش التحالف الميدي – الكلداني، وسقطت بيدهم في شهر أب من عام 612 ق.م.

بعد القضاء على الدولة الآشورية نهائياً سنة 610 ق.م. تم اقتسام ممتلكاتها بين الحليفين، وكانت حصة الأسد من نصيب الدولة الميدية التي بسطت نفوذها على منطقة واسعة امتدت من باختريا في شرق إيران حتى نهر كاليس غربا (ويسمى حاليا نهر قيزيل إيرمق ويقع على بعد 50 كم شرق العاصمة التركية أنقرة) وكان (خط الحدود بين آكباتانا – عاصمة الدولة الميدية – وبابل ” عاصمة الدولة الكلدانية ” يمتد على طول نهر دجلة من الجنوب حتى مدينة “آمد” ديار بكر، كما أنّ خطاً آخر كان يفصل بينهما ممتدّ من آمد حتى نهر الفرات)، أما المنطقة الممتدة من (غرب الفرات وحتى فلسطين فقد وقعت تحت سيطرة المصريين) وهكذا تم تقسيم سورية إلى ثلاث مناطق، الشمالية تحت السيطرة الميدية، والشرقية تحت السيطرة الكلدانية والجنوبية تحت السيطرة المصرية.

إلا أنّ هذا الأمر لم يدم طويلاً، فمع ظهور الدولة الفارسية – الإمبراطورية الإخمينية  على يد الملك ” كورش 559-530ق.م “. تغيّرت موازين القوى السياسية والعسكرية على الأرض، وتمكنت الدولة الفارسية من القضاء على الدولتين الميدية والكلدانية، وامتدت حدود الإمبراطورية الفارسية من الهند شرقا وحتى بحر إيجة ومصر غربا.

ومع توسّع الدولة الفارسية دخلت المنطقة الممتدة من غرب الهند إلى اليونان في سلسلة من الحروب الطويلة، كانت ساحتها الرئيسة الأراضي السورية (التي شكلت الولاية الخامسة من الولايات الفارسية العشرين)، والشمالية منها خاصةً، طريق الجيوش وساحات المعارك بين الأطراف المتحاربة، واندلعت بين الفرس – الإخمينيين والإغريق حروب طويلة سميت بالحروب “الميدية”، التي انتهت بقضاء الإسكندر المقدوني على الدولة الفارسية “الأولى – الإخمينية” عام 334ق.م  بعد معركة ايسوس “قرب ممر بيلان، وقد ازداد خلال هذه الفترة بشكل ملحوظ دور الشعب الكردي الذي (كان يسكن في المنطقة الواقعة بين الضفة اليسرى لنهر دجلة وأطراف جبل جودي، الذي لم يطع قط الفرس، ولم يخضع لهم) وعرف باسم الـ” كردوخوي- Karduehoi  أو كوردوئين Corduene، وقد ذكرهم المؤرخ الإغريقي زينفون في كتابه آنا بازيس.

وإثر وفاة الاسكندر المقدوني عام 323 ق.م تحوّلت إمبراطورته المترامية الأطراف إلى ساحة حرب بين قادة جيشه، وأصبحت سورية من نصيب قائده سلوقس الأول – نيكاتور – اعتباراً من عام 312 ق.م، الذي أسّس الدولة السلوقية التي تعرف أيضاً (بالمملكة السورية)، وعاصمتها أنطاكية، وقد سمحت هذه المملكة للعناصر الوطنية والمحلّية بممارسة شؤون حياتها الاعتيادية، ولغتها، وعاداتها، وطقوسها الدينية، حتى قضى عليها القائد الروماني بومبيوس عام 64 ق.م، الذي ضمّ سورية إلى الدولة الرومانية، وأطلق عليها اسم ولاية سورية (Provincia Syria)، وقد قسّم الرومان ولاية سورية إلى ثلاث مناطق إدارية هي (السيراستيك Cyrrhestique نسبةً إلى مدينة سيرهوس Cyrrhis ” النبي هوري – شمال إعزاز “، وإفراتيزيا Euphratesia نسبةً إلى الفرات، وخالستيك Kalistik نسبةً إلى نهر الخاليس “القويق”، وكان الفيلق الروماني العاشر المسمى “فريتنسيس” يرابط في مدينة سيرهوس Cyrrhis)، وامتدت الولاية السورية من الفرات حتى مصر.

إلا أنّ هذه الحدود لم تكن ثابتة ودائمة، وكانت تتبدّل أثناء الحروب التي تجدّدت مرة أخرى بين الفرس “الدولة البارثية – الأشكانية 246 ق.م – 224م ” والرومان، ففي عام 161م (خضعت البلاد الغربية من الدولة البارثية؛ أي أرمينية وكردستان للسلطة الرومانية)، ويتكرّر باستمرار ظهور اسم الـ” كوردوئين خلال الصراع بين الفرس الساسانيين والرومان، ففي عام 224م قام الملك أردشير مؤسّس الدولة الساسانية باسترجاع (نصيبين وحرّان وجميع بلاد أرمينية وكوردوئين من الرومان)، وفي عام 270م تنازل الملك الفارسي نرسي عن خمس ولايات من أملاكه (لحكومة روما هي أرزان، موك، زبدا، رحيمة، كاردو)، وفي عام 297م وصلت الحدود الرومانية إلى نهر دجلة، إلا أنّها لم تصمد طويلاً أمام التقدّم الفارسي الساساني الذي وصل أكثر من مرة إلى نصيبين ودارا وتدمر وكيليكيا.

وبعد تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين – البيزنطية في الشرق، والرومانية في الغرب، أصبحت سورية تابعة للدولة البيزنطية التي سارت على سياسة الإمبراطورية الرومانية الموحدة في محاربة الدولة الساسانية، وقد ازداد نفوذها في سورية أكثر بعد قيام إمارة الغساسنة في جنوب غرب سورية، والتي تحالفت مع البيزنطيين ضدّ المناذرة حلفاء الفرس، وكانت المعارك بين الجانبين سجالاً حتى ظهور الدولة العربية الإسلامية التي تمكّنت من الانتصار على البيزنطيين في معركة اليرموك 635م وطردتهم من سورية وفي عام 635م قضت على الدولة الفارسية بعد معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص.

وما أن تفرّغ العرب المسلمين من القضاء على الدولتين البيزنطية والساسانية حتى قاموا بفتح المناطق التابعة لهما ومن بينها المناطق الكردية، فسار عياض بن غنم على رأس ثلاث جيوش لفتح منطقة الجزيرة “بين نهري الفرات ودجلة”، الجيش الأول كان بقيادة سهل بن عدي وقد توجه إلى الرقة، والثاني بقيادة عبد الله بن عتبان وتوجه إلى نصيبين وحران والرها، والثالث بقية عقبة بن الوليد وتوجه إلى جزيرة الأكراد (بوتان) جزيرة آقور – التي سميت فيما بعد بجزيرة ابن عمر، وسار عياض مع الجيش الثاني الذي استولى على نصيبين وماردين وآمد “ديار بكر” كما تمكنت الجيوش العربية الأخرى من فتح بقية مناطق سورية.

وتحوّل الكرد إثر ذلك تدريجياً إلى الدين الجديد، حبّاً بمبادئه السمحة وشعاراته، التي كان يرفعها الصحابة والتابعون الذين انتشروا في المنطقة للتبشير به، أو تخلّصاً من الجزية والخراج التي كانت رمزاً وعلامة للإذلال والصّغار، هكذا أصبح الكرد المسلمون جزءاً من نسيج الدولة الإسلامية، مثلهم مثل غيرهم من الشعوب التي دخلت في كنف الدولة الجديدة.

وفي هذه المرحلة؛ أي في بداية العصر العربي الإسلامي يصعب الحديث عن المناطق الكردية بدقة، ليس في سورية وإنّما في كافة المناطق الكردية، حيث تم إعادة تقسيم البلاد المفتوحة إلى مناطق إدارية جديدة، بالإضافة إلى أنّ معظم المصادر التاريخية كانت تركز على شؤون وأمور الخليفة والأحداث والأعمال المرتبطة به أو بعماله، أو على الثورات والخلافات المذهبية، ولم تولي الاهتمام اللازم لشؤون وأحوال رعايا الدولة لا في العصر الأموي ولا في العصر العباسي، أما في كتب الجغرافية “المسالك والممالك” فتم التركيز على المدن وأحوال الأقاليم الجغرافية، وإهمال شؤون وطبيعة وجنسية سكانها.

وبقيام الدولة الأموية التي دخلت في نزاع طويل مع الدولة الرومانية، تحولت المناطق الكردية مرةً أخرى إلى ساحة حرب بين الجانبين، وقد أدت تلك الحروب الطويلة جداً، إلى إفراغ المنطقة من معظم سكان المنطقة من الكرد والسريان، ومن بعض القبائل العربية التي سكنتها مع بداية العهد الإسلامي، وتأكيدا لهذا الأمر يقول المؤرخ فيليب حتي في كتابه تاريخ سورية ولبنان وفلسطين (أنّ الحدود الفاصلة بين العرب والروم كانت في غضون العهد الأموي وفي العهد العباسي حتى منتصف القرن الثاني عشر السلسلتين المتقابلتين لجبال طوروس، ولما كانت الدولتان العدوتان وجهاً لوجه على جانبي هذا الخط، فقد سعت كلٍ منهما في أول الأمر أن تقصي الأخرى عنها بتحويل البقعة الفاصلة بينهما إلى أرض مهجورة، وكان لمعاوية فضل كبير بخلق هذه المنطقة الحرام.

إلا أنّ الخلفاء الأمويين المتأخرين اتبعوا سياسة مغايرة كانت تهدف إلى إحراز موطئ قدم هنالك، عن طريق ترميم بعض المدن وتحويلها إلى حصون، وبناء حصون جديدة. وهكذا ضرب الأمويون نطاقاً من التحصينات امتدت من طرسوس في كيليكيا حتى ملطية، في اتجاه الفرات الأعلى، مشتملاً على أذنة والمصيصة ومرعش، وكانت هذه المراكز مواقع استراتيجية، إذ قامت عند تقاطع الطرق العسكرية، أو على مدخل الممرات الجبلية، وقد دعيت العواصم وأطلقت هذه التسمية بنوع خاص على المعاقل الداخلية الجنوبية، في مقابل الحصون الشمالية التي عرفت بالثغور عبر التخوم السورية والعراقية، فعرف ما في الأراضي السورية بالثغور الشامية، وما في العراق بالثغور الجزيرية.

وكانت هذه الأرض بحق “أرضاً حرماً” ولعلها قد ارتوت من دماء القتلى أكثر من أية بقعة أخرى في آسيا).

وقد كانت ولاية الجزيرة ولاية مهمة في الدولة الأموية وتولاها عدد من كبار قادة الدولة وولاة العهد منهم الخليفة مروان بن محمد 744 – 750م، الذي كان كردياً من جهة أمه، وبقي والياً عيها حوالي اثني عشر عاماً، وقد ساعده الكرد عندما ثار عليه سليمان بن هشام بن عبد الملك (فزحف بجيش كردستان على الشام وكسر جيوش الخليفة بين بعلبك والشام ودخل دمشق معلناً خلافته)، التي لم تدم طويلاً، فقد ثار عليه القائد العباسي أبو مسلم الخراساني الكردي الأصل وساهم في القضاء على الدولة الأموية وتأسيس الدولة العباسية عام 750م. التي أهملت شؤون سورية، ونقلت العاصمة من دمشق إلى الكوفة ثم الأنبار ومن ثم إلى بغداد.

وقد شارك الكرد في الدولة العباسية أثناء تأسيسها بمساهمة رئيسية من أبي مسلم الخراساني (الذي يدين له العباسيون قبل كلّ شيء بقيام دولتهم) الذي قتله أبو جعفر المنصور في بداية خلافته، إلا أنّ وضع الكرد اختلف في ظلّ الخلافة العباسية، فقد فتحت أمامهم كغيرهم من الشعوب الخاضعة للدولة العباسية أبواب الوظائف  فانصرفوا إلى إدارة مناطقهم، يدفعون عنها الخراج سنويا كبقية المناطق، وعندما ضعفت السلطة المركزية في بغداد، كان الكرد سبّاقين إلى الانفصال الجزئي أو التام عن الدولة العباسية، وتشكيل الحكومات والدول الخاصة بهم. كالدولة الروادية، والسالارية، والحسنويئية، والشدادية، والدوستكية، والفضلوية، والخورشيدية، والأيوبية، وحكومة بني أردلان، وحكومة ملوك الكرد، وغيرها من الإدارات والحكومات الكردية، وأهم الدول التي قامت في المنطقة وشملت حدودها المناطق الكردية في سورية هي الدولة الدوستكية التي تعرف أيضاً بالدولة المراونية، ومن ثم الدولة الأيوبية.


المصادر والمراجع:

1- ( أحمد )، د. جمال رشيد – (رشيد)، د. فوزي: (تأريخ الكرد القديم). أربيل – ١٩٩٦.

2- (إسماعيل)، د. فاروق: (اللغة الآرامية القديمة). منشورات جامعة حلب – 1997 م.

3- (الصفدي)، د. هشام: (تاريخ الشرق الأدنى القديم)، جامعة دمشق، بلا.

4- (الصواف)، صبحي: (تاريخ حلب- حلب قبل الإسلام)، دار الحضارة، حلب ط1- 1972.

5- (بروكلمان)، كارل: (تاريخ الشعوب الإسلامية)، ت/ نبيه منير فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت ط5 – 1968.

6- (حتي)، د. فيليب: (تاريخ سورية ولبنان وفلسطين)، ترجمة: الدكتور جورج حداد، عبد الكريم رافق، دار الثقافة، بيروت، ط3 – 1954.

7- (دياكونوف)، ا.م: (ميديا)، ترجمة وهبية شوكت محمد، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

8- (زكي)، محمد أمين: (خلاصة تاريخ كردستان)، الجزء الأول، ترجمة: محمد علي عوني، كرد برس- بيروت، ط4. 1996.

9- (فرح)، د. نعيم: (تاريخ حضارات العالم القديم وما قبل التاريخ)، منشورات جامعة دمشق – 1975.

10- (فراي)، ريشارد: (أصل الاسم – سورية)، دار قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، ط1- 2000.

11- (فيلهلم)، جرنوت: (الحوريون تاريخهم وحضارتهم)، ترجمة وتعليق د. فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب ط1- 2000.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى