قضايا راهنة

الزلزال يكشف عن فالق “إنساني وجيوسياسي” عميق في سوريا

كشف الزلزال المدمّر، الذي ضرب كلّ من تركيا وسوريا، في 6 فبراير 2023، عن ظاهرة أفجع من الكارثة التي ألمّت بالسوريين من حيث الأعداد الهائلة للضحايا التي خلفها الزلزال؛ لم تكن هذه الظاهرة واضحةً للعيان، إلا بعد وقوع الزلزال، فقد كشف عن التصدعات العميقة في الضمير الإنساني لدى غالبية القوى المتدخّلة في الملف السوري، كما كشف عن انقسامات جغرافية أعمق بين مناطق السيطرة المختلفة، لدرجة أن المساعدات الإغاثية المرسلة من القارتين الأسيوية والأوروبية وصلت إلى سوريا قبل أن تصل المساعدات المرسلة من شرق الفرات إلى غرب الفرات، بل وبعضها لم تصل أبداً.

الحسابات السياسية لكل من تركيا والنظام السوري، والمجتمع الدولي، وما تسمى المعارضة والجماعات الإرهابية في الشمال الغربي، أصبغت الزلزال الذي يعتبر كارثة إنسانية بصبغة سياسية واضحة؛ فيما الإدارة الذاتية، ورغم أنها تحركت كجهة سورية وحيدة بدافع إنساني، لجمع وإرسال المساعدات للمنكوبين، لم تتمكن من إيصال قوافل المساعدات والإغاثة، وأعادت القافلة بعد انتظارها لأكثر من 9 أيام على المعابر.

لاتزال أبعاد الكارثة الإنسانية في سوريا تتكشف يوماً بعد يوم، لتعبر عن حجم معاناة السوريين، في ظل تأخر وصول المساعدات الإنسانية وإمدادات الإغاثة إلى مناطقهم المنكوبة، نتيجة للتجاذبات السياسية وحساباتها؛ وهي التجاذبات نفسها التي جعلت المنكوبين محاصرين بين معابر قليلة العدد تأثرت بالزلزال، وأخرى يتحكم فيها النظام من ناحية، وبين تقاعس وتراخى المنظمات الدولية عن مد يد المعونة الإغاثية سريعاً إلى منكوبي الزلزال في الشمال السوري من ناحية ثانية.

تركيا أهملت السوريين.. والمعارضة “السورية” اهتمت بالمصالح التركية!

مع مرور 13 يوماً على الزلزال المدمر، تم انتشال حوالي 46 ألف جثة من تحت الأنقاض، في كلّ من تركيا وسوريا، وقد كشف الزلزال أن مركزية الدولية التي دفع باتجاهها الرئيس رجب طيب أردوغان، هي أكبر معرقل لعمليات الإنقاذ والإغاثة، بالرغم من التصريحات والحملات الإعلامية التي تسعى للتغطية على التقصير الكبير تجاه المتضررين، ليكتشف الأتراك أن فرق الإغاثة والإنقاذ احتاجت إلى عدة أيام للوصول إلى مركز الكارثة، في وقت تُرِك فيه الكثير من الناجين ليعتمدوا على الجهود الذاتية، وهم يحاولون انتشال أقارب لهم من تحت الأنقاض، وسط موجة برد قارسة، من دون مساعدات أو مُؤن.

ولم يتم إرسال تعزيزات من الجيش التركي على الفور، إذ أن الحكومة – سعياً منها للإبقاء على الوضع تحت السيطرة – فضّلت إيكال عمليات الإغاثة إلى الهيئة العامة لإدارة الكوارث (أفاد)، التي عجزت عن تطويق تداعيات الزلزال أمام هول الدمار.

فإن كان هذا هو حال الشعب التركي المنكوب جراء سياسات رئيسهم أردوغان، فإن فاجعة ومصيبة الشعب السوري كانت مضاعفة، لأن تركيا أهملت المناطق السورية المنكوبة الواقعة تحت احتلالها، ومنعت وصول المساعدات الأممية والإغاثة إليهم في أول أيام الكارثة، عبر إغلاق المعابر الحدودية من جهة، والإيعاز للفصائل وهيئة تحرير الشام بعدم استقبال المساعدات من المعابر الفاصلة بينها وبين مناطق الإدارة الذاتية والحكومة السورية، لاستخدامها كأوراق ضغط سياسية على حساب حياة الشعب السوري، والمفارقة هنا هي أنه وسط هذا التجاهل التركي لمصير السوريين العالقين تحت الأنقاض، رأينا أن من يسمون أنفسهم “معارضة سورية” وفصائلهم أبدوا حرصاً شديداً على المصالح التركية السياسية، وفضلوها على إنقاذ حياة السوريين.

كانت المساعدات التي جمعتها الإدارة الذاتية لا تبعد سوى بضعة كيلو مترات عن المناطق المنكوبة، إلا أن تسييس ملف المعابر، والتزام المعارضة بالأوامر التركية، منعت وصول تلك المساعدات للمتضررين، ليُترك السوريون في شمال غربي سوريا كي يواجهوا مصيرهم وحدهم في ذروة الكارثة.

والمفارقة التي كشفت مدى التصدّع الأخلاقي والإنساني لدى الحكومة التركية، وما تسمى “الحكومة السورية المؤقتة”، والفصائل التابعة لهم، أن كافة المعابر الفاصلة بين مناطق سيطرتهم ومناطق الإدارة الذاتية كانت مفتوحة أمام القوافل التجارية التي يجنون منها مكاسب مالية طائلة، والتي كانت ولا زالت الفصائل تتقاتل وتتناحر على مواردها، ولم يصرّحوا يوماً بـ “إننا نرفض دخول المحروقات، أو إرسال المواد التجارية من وإلى مناطق الإدارة الذاتية”، وذلك لأن مكاسب تلك القوافل تذهب إلى جيوب تركيا وقادة الفصائل مباشرة، ولكن حين أصبحت القافلة “إنسانية” وموجهة إلى الشعب المنكوب، أغلقوا أبواب المعابر أمامها، واختلقوا الكثير من الحجج والأعذار حتى يمنعوا وصولها للمتضررين، وهذا ما كشف الوجه الحقيقي لتركيا، وقادة الفصائل، وما تسمى المعارضة، التي لاهم لها سوى المتاجرة بأرواح وآلام السوريين، وثبت بأنهم يفضلون مكاسبهم المادية والسياسية على حياة السوريين.

هذا الزلزال أثبت مرة أخرى أن المعارضة والحكومة السورية المؤقتة والفصائل لا تمت لسوريا وشعبها بأية صلة، وهي مجرد أدوات تخدم السياسة التركية فقط، فلو كانت هذه المعارضة أو قادة الفصائل يشعرون بأي انتماء لسوريا، لما سمحوا لتركيا في هذه الظروف العصيبة التدخل في شؤونهم الإنسانية والإغاثية الداخلية، ولفتحوا كافة المعابر مع الداخل السوري، في سبيل إنقاذ السوريين المنكوبين، ولألقوا كافة الاعتبارات السياسية والعسكرية وغيرها خلف ظهورهم. ولكنهم على عكس ذلك ألقوا بكافة السوريين إلى التهلكة في سبيل حماية مصالح تركيا السياسية.

وكان واضحاً أن تركيا لا ترغب في دخول قوافل المساعدات من مناطق الإدارة الذاتية للمناطق المحتلة من قبلها، حتى لا تسجل ذلك للإدارة كموقف إنساني، وحتى لا يلتفت المجتمع الدولي، الذي أغلق جميع المعابر الرسمية صوب مناطق الإدارة الذاتية، وخاصة معبر تل كوجر بين سوريا والعراق، ولمنع إعادة النظر في فتحه لإيصال المساعدات منها إلى السوريين، لذا تحاول تركيا إبقاء المعابر مغلقة معها كرسالة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي مفادها أنه “حتى إن فتحتم المعابر، وأدخلتم المساعدات من مناطق الإدارة الذاتية، فلن نسمح بوصولها إلى السوريين” والهدف منها تركيز وجهة الأمم المتحدة لاعتماد المعابر بين تركيا وسوريا لإيصال المساعدات.

الجولاني يستغل معاناة المنكوبين لنيل الشرعية

من جهة أخرى، سعت هيئة تحرير الشام، وباقي التنظيمات الإرهابية في مناطق إدلب وريف حلب، إلى توظيف وقوع زلزال 6 فبراير سياسياً، في محاولة لتحقيق العديد من المكاسب السياسية والتنظيمية، سواءً بين بعضها البعض، أو في مواجهة النظام السوري، مع التجاهل لكارثية الحدث، والارتفاع المستمر في أعداد الضحايا والمصابين، وهو ما يجعل من الزلزال نقطة بداية لمسار جديد في إعادة رسم خارطة التنظيمات الإرهابية في شمال غرب سوريا.

فبعد وقوع كارثة الزلزال، كثّف الجولاني من ظهوره في المناطق المنكوبة شمال غرب سوريا، وبدأت آلته الإعلامية بالترويج له، فيما عقد الجولاني مؤتمراً صحفياً في إدلب شرح فيها المهام والأعمال التي نفذتها لجنة الاستجابة الطارئة التي تزعمها.

يمكننا تحديد أهداف الجولاني من كل هذه التحركات، وكيفية استثماره لكارثة الزلزال، فيما يلي:

أولاً- تلميع صورة الجولاني داخلياً وخارجياً: كرر “أبو محمد الجولاني”، المسؤول العام لـ “هيئة تحرير الشام” الإرهابية، الظهور بين الحين والآخر في المناطق المنكوبة، محاطاً بشخصيات قيادية في الهيئة، وبكاميرات وسائله الإعلامية، في سياق إخراج مسرحية جديدة، لتبييض صورة “الأمير”، وإعطائه صبغة مدنية، على أنه قريب من الحاضنة الشعبية، ويشعر بمعاناتهم. إذ يحاول الجولاني إظهار نفسه كشخصية مدنية تقدم الخدمات للسكان، في إطار مساعيه الأخيرة لإبعاد صفة “الإرهاب” عنه، والترويج لنفسه ولفصيله، بأنهم خلعوا عباءة “القاعدة”، وأنهم غير إرهابيين، وبأنهم فصيل “سوري وطني معارض”.

من جهة أخرى، يحاول الجولاني تلميع صورته داخلياً، وتشكيل حاضنة شعبية، عبر الترويج للخدمات التي تقدمها الهيئة للمتضررين، مستغلاً ضعف أداء تركيا والفصائل التابعة لها في إزالة الأنقاض، وتقديم المساعدات للمنكوبين، وفي هذا الإطار وعد الجولاني خلال مؤتمره الصحفي بأنه سيؤمّن مساكن بديلة لمن فقد منزله في الزلزال، وأمر بصرف مساعدات نقدية وإغاثية عاجلة على العائلات المتضررة.

ثانياً- دفع المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى منحه الشرعية: عرقلت هيئة تحرير الشام وصول المساعدات الأممية إلى المناطق المنكوبة شمال غرب سوريا، الخاضع لسيطرة المعارضة المسلحة بعد الزلزال، عن طريق المعابر التي تربط مناطق سيطرته مع مناطق الحكومة السورية، وأكد الجولاني في مؤتمر صحفي آخر عقده في 10 فبراير 2023، أنّ المعبر الوحيد لتلقي المساعدات وقوافل الإغاثة هو معبر باب الهوى، مدعياً أن السبب هو رفضه إعطاء “النظام السوري” أي فرصة لتعويم نفسه بحسب قوله، إلا أنه عاد ليناقض نفسه، حين أعلن معارضته للمحادثات التي تجري بين أطراف إقليمية ودولية مختلفة بما فيها تركيا وسوريا والأمم المتحدة، من أجل التوصل إلى تفاهم، ينص على افتتاح معبرين أو أكثر، يتم من خلالهما تأمين وصول قوافل الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى المناطق المنكوبة. ليظهر بوضوح رغبته في استغلال القلق الأممي بشأن عمق معاناة المتضررين، والضغط على المجتمع الدولي والأمم المتحدة، للتعامل مع حكومة الإنقاذ “الجناح المدني” للهيئة، والمشرفة على معبر باب الهوى، بهدف شرعنه الهيئة، وتعويمها، وإظهارها كجهة إدارية رسمية، يمكن للمجتمع الدولي التعامل معها.

ثالثاً- الهيمنة على المساعدات وإضعاف دور الجماعات السلفية المناهضة للهيئة: يبدو أن إصرار الجولاني على أن تمر كافة المساعدات عبر معبر باب الهوى، الواقع تحت هيمنته، هو لوضع يده على كافة المساعدات، والإشراف على توزيعها للترويج لنفسه ولحكومته، وإلحاق ضربة بباقي الجماعات المسلحة المتشددة المناهضة للهيئة، التي لا تملك ما يمكن تقديمه لمساعدة المنكوبين، وبالتالي إضعاف الحاضنة الشعبية لتلك الجماعات.

وبدا ذلك من خلال تحميل العديد من التنظيمات الإرهابية التابعة للقاعدة وأبرزها (حراس الدين – أنصار الدين – أنصار الإسلام- كتيبة أبو بكر)، المسؤولية عن ارتفاع أعداد الوفيات والإصابات، على هيئة تحرير الشام، لكون الأخير هو المسيطر على مجمل مناطق إدلب، وقالت أن الجولاني “اهتم بجمع الأموال، عبر السيطرة على المعابر الحدودية مع مناطق شمال شرق سوريا ومع تركيا”.

رابعاً- التغلغل في مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا: من الواضح أن تكثيف الجولاني لظهوره برفقة السَلَفي العراقي “أبو ماريا القحطاني”، في عددٍ من البلدات والقرى المنكوبة في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، هو للترويج لنفسه وللهيئة أمام أهالي تلك المناطق، وليستغل الكارثة للتغلغل داخل تلك المناطق، عبر الفرق التي يرسلها، تحت حجة رفع الأنقاض، ومساعدة المتضررين، فيما كانت جولته الأكثر استفزازاً للمعارضة، تلك التي خصصها لمدينة جنديرس في عفرين الخاضعة لسيطرة الفصائل، والتي زعم الجولاني أنه أرسل إليها أكثر من 30 آلية ثقيلة، لتشارك في عمليات إنقاذ وانتشال الضحايا.

النظام يستثمر تداعيات الزلزال سياسياً

يحاول النظام السوري أيضاً، الذي تأخر كثيراً في تحمل مسؤوليته تجاه منكوبي الزلزال، توظيف الحدث الإنساني سياسياً، بما يكسر عزلته الدولية.

فتأخر النظام في التفاعل مع الحدث، يعود لـ “معادلة المساومات” التي يرغب النظام في الدفع بها في خضم الأحداث، ومفادها “قبول النظام دخول مساعدات الإغاثة الدولية، وتسهيل إجراءات وصولها للمناطق التي لا تخضع لسيطرته – مناطق سيطرة المعارضة – مقابل تعليق مؤقت للعقوبات، كمرحلة أولى، يعقبها إلغاء تدريجي لها”، وذلك على اعتبار أن الزلزال خلّف تداعيات جمة على البنية التحتية يستغرق إصلاحها سنوات.

وبالرغم من حجم المأساة، تطفو على السطح طموحات النظام، الذي يحاول توظيف مأساة الشعب السوري لصالح حساباته السياسية في معادلة التفاعل الخاصة بالأزمة السورية إقليمياً ودولياً؛ مستهدفاً البحث عن مخرج يكسر العزلة المفروضة عليه جرّاء العقوبات الدولية والأمريكية؛ وهي العزلة التي لم تفلح محاولات التقارب التي أبدتها العديد من الدول العربية مع النظام السوري على مدار العامين الماضيين في الخروج منها أو دفع النظام لتجاوزها، وإن كانت قد فتحت متنفساً له قلل من حدتها.

فحتى وقت متأخر، في 13 فبراير/شباط، بعد ثمانية أيام على الزلزال المدمر، رفضت الحكومة السورية، بدعم من حليفتها روسيا، استخدام معابر حدودية أخرى من تركيا إلى شمال غرب سوريا، مصرّة على أن تأتي جميع المساعدات لسوريا عبر المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. وثبت أن هذا الموقف الحكومي القديم على مدار الحرب الأهلية السورية لا يلبّي إطلاقاً احتياجات السكان المحاصرين. حيث استخدمت الحكومة السورية منذ سنوات المساعدات كسلاح، وعرقلت عبورها من الخطوط الأمامية من الأجزاء الخاضعة لسيطرة الحكومة، إلى الأراضي الخارجة عن سيطرتها.

ويبدو أن مساومات النظام حققت بعض أهدافها، حتى أصدر الرئيس السوري بشار الأسد بتاريخ 13 فبراير/شباط 2023، تصريحاً حدد فيه ثلاثة أشهر لتسليم مساعدات الأمم المتحدة عبر معبرين حدوديين آخرين من تركيا إلى الشمال الغربي، لكن القرار جاء بعد أكثر من أسبوع من زلزال 6 فبراير/شباط، ويطرح إيجاد حل لهذا المأزق تحدّياً هائلاً، فما دامت المنظمات الإنسانية ووكالات الإغاثة تتفاوض مع الحكومة وتنسّق معها، يتيح ذلك للنظام التحكّم بها، عبر السماح لها بإيصال المساعدات أو منعها من ذلك، بحسب ما تمليه مصالحه السياسية والعسكرية.

وهكذا يبقى عدد كبير من السوريين الضعفاء محرومين من المساعدات، كما يتسبّب ذلك بتقويض حياد المنظمات الإنسانية وعدم انحيازها، الأمر الذي كشف مرة أخرى السقوط الأخلاقي والتصدع الإنساني لدى النظام السوري تجاه السوريين.

أراد الأسد – ووافقه في ذلك الروس والإيرانيون – اغتنام الفرصة، لا للحصول على دعم كاف في مواجهة الكارثة، وإنما لكسب شرعية دولية وعربية يفتقدها نظامه، فتحُ هذه المعابر لفترة مؤقتة لا يكلف الأسد شيئاً حقاً، لكنه يسمح له بالإفلات من الانتقادات، ويبرز قدرته على السماح وعدم السماح بإمكانية الوصول إلى الحدود كما يشاء.

الإدارة الذاتية تحركت بدافع إنساني وتم منعها بدوافع سياسية

رغم أن الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا هي الجهة الوحيدة الداخلية، التي تحركت بسرعة، وجهزت قوافل من المساعدات والإغاثة للمنكوبين، ورغم أن المساعدات كانت الأقرب إلى المتضررين، إلا أنها لم تتمكن من إيصالها لمستحقيها، نتيجة إغلاق كل من الفصائل الموالية لتركيا والنظام السوري المعابر أمام مرور تلك المساعدات، وفيما تحجج كل من النظام السوري والمعارضة السورية بعدم قبول المساعدات المقدمة من الإدارة الذاتية للمناطق المنكوبة، بأن هدف الإدارة الذاتية هو استثمار سياسي في الملف الإنساني، إلا أن هناك العديد من المعطيات التي تثبت العكس تماماً، وبأن تلك الأطراف التي أغلقت المعابر أمام المساعدات هي من سيّست الملف الإنساني.

من تلك المعطيات:

أولاً: إن حياة الناس وإنقاذهم في تلك اللحظة الحساسة كان من المفروض أن تكون فوق كافة الاعتبارات السياسية، أي أنه حتى لو كانت للإدارة الذاتية أي أهداف سياسية من وراء إرسال المساعدات وقوافل المحروقات، فكان من المفترض أن يفضل النظام والمعارضة حياة السوريين المنكوبين على غايات الإدارة الذاتية، وكان بإمكانهم القول إن ما أرسل من مناطق الإدارة الذاتية هي من موارد سوريا ولا فضل للإدارة عليهم، ولكن رفضهم لها يكشف بوضوح تفضيل النظام والمعارضة مصالحهم السياسية على الملف الإنساني وعلى حياة الشعب المنكوب. وهذا ما أكده المرصد السوري لحقوق الإنسان حين قال: “لا يزال سادة القرار في المناطق المتضررة، والتي حدثت فيها زلازل مدمرة، يلعبون على الشق السياسي، مستمرين في تجاهل الشق الإنساني بشكل تام”.

ثانياً: الأمر الآخر الذي يؤكد زيف ادعاء النظام والمعارضة، ويثبت بأنه لا يهمهم بالأساس الجانب الإنساني للشعب السوري، هو أنه وفي فترة جائحة كورنا التي عصفت في البلاد، وفي وقت كان أكثر من 5 ملايين سوري يقطنون في مناطق الإدارة الذاتية، يواجهون خطر جائحة كورونا، التي لم تقل كارثية عن الزلزال، عمد كل من النظام والمعارضة – ومن خلفهما روسيا وتركيا – إلى تشديد الحصار على مناطق الإدارة الذاتية، ورفضهم فتح أي معابر إنسانية تجاه هذه المنطقة، ومنع إيصال الأدوية والمستلزمات الطبية من الأمم المتحدة بشكل رسمي إلى شعوب المنطقة، بل حاولت تلك الأطراف الدفع نحو تفاقم الجائحة، وتعريض حياة الملايين للخطر، عبر قطع المياه عن مناطق الإدارة الذاتية، وخاصة عن مدينة الحسكة، فيما لم يرسل النظام السوري كميات اللقاحات المخصصة كاملة لمناطق الإدارة الذاتية، بل وعمدت إلى إرسال المصابين بكورنا إلى مناطق الإدارة الذاتية عبر مطار القامشلي.

فلو كان لدى المعارضة والنظام أي حس إنساني تجاه الشعب السوري، لكانت حينها أرسلت المساعدات للأهالي المتضررين من كورونا في مناطق الإدارة الذاتية بدافع إنساني، إلا أن تشديدهم الحصار يؤكد أن منع المساعدات المرسلة من الإدارة الذاتية لمنكوبي الزلزال هو بدافع سياسي وعنصري وعداء للإدارة الذاتية. ورغم مواقف النظام والمعارضة من الإدارة الذاتية، إلا أن الأخيرة لم تتعامل معهم بالمثل، بل جهزت قوافل المساعدات، لإرسالها للمنكوبين بدافع إنساني، دون أن يلتفتوا إلى المواقف السياسية والعنصرية والعدائية للقوى المسيطرة على تلك المناطق تجاه الإدارة الذاتية، ما يعني أن الدافع الإنساني كان هو الغالب على موقف الإدارة الذاتية.

ثالثاً: المفارقة الأخرى، التي كشفت زيف ادعاء تركيا والمعارضة، أن تركيا التي منعت أن يقدم السوريون في شمال شرق سوريا الإغاثة والدعم لإخوتهم السوريين في شمال غرب سوريا، سمحت من جهة أخرى لليونان واسرائيل وفرنسا وأرمينيا التي كانت تركيا تعتبرهم  أعداءً، بإرسال الفرق للمشاركة في أعمال البحث والإنقاذ في المناطق المنكوبة في تركيا، وكان وزير الخارجية اليوناني أول من زار تركيا عقب الزلزال المدمر، فلماذا يسمح أردوغان للدول التي يعتبرها عدوة لتركيا أن تقدم المساعدات والإغاثة لها، بينما يمنع السوريين من إغاثة بعضهم البعض؟ هذه المفارقة تكشف مدى حالة الانحطاط التي وصلت إليها ما تسمى المعارضة السورية، التي لم تتمكن من تفضيل مصالح السوريين على المصالح السياسية.

رابعاً- ما يثبت أيضاً أن المساعدات التي جهزتها الإدارة الذاتية هي بدافع إنساني ووطني، هو أن الإدارة الذاتية لم تضع أي شروط لإيصال مساعداتها للمتضررين، بالإضافة إلى سماح الإدارة الذاتية للفعاليات المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني تجهيز وارسال قوافل المساعدات للمناطق المنكوبة دون أن تعرقلها، أو أن تضع شرط السماح لقافلة الإدارة الذاتية بالمرور مقابل أن تسمح الإدارة الذاتية بمرور قوافل المنظمات والفعاليات المجتمعية، ما يؤكد أن الأولوية لدى الإدارة الذاتية هو إيصال الإغاثة للمتضررين.

التقييم

من الواضح أن الجهة الوحيدة التي سعت لإيصال المساعدات للمنكوبين بدافع إنساني ضمن الجغرافيا السورية هي الإدارة الذاتية، لأنها هي من قدمت المساعدات لمناطق يعتبر المسيطرون عليها أن الإدارة الذاتية عدوة لهم، وهي الجهة الوحيدة التي تعاني من حصار خانق، وأُغلقت كافة المعابر الرسمية صوب مناطقها، ومع ذلك تطالب بفتح المعابر لإيصال المساعدات للمنكوبين خارج مناطق سيطرتها.

إن هذا الزلزال كشف عن تصدعات عميقة في الجغرافيا السورية، وأثبتت بأنها – عملياً – تعاني من التقسيم، وأن الجهة الوحيدة التي لا تزال تحاول الانفتاح على عموم سوريا هي الإدارة الذاتية، رغم أنها متهمة من باقي الأطراف بأنها “انفصالية”.

بالنظر إلى المواقف السابقة لكل من النظام السوري والمعارضة وتركيا تجاه مناطق الإدارة الذاتية وتشديدها الحصار على المنطقة، يصبح من المؤكد أنه لو كانت مناطق الإدارة الذاتية هي من تضررت بالزلزال، وأصبحت مدنها منكوبة، لرأينا تلك الأطراف تزيد الخناق، ولكانت أغلقت كافة المعابر أيضاً، ومنعت وصول المساعدات والإغاثة، بهدف زيادة الضغوطات على الإدارة الذاتية دون الاكتراث لحياة السوريين القاطنين في مناطق شمال شرق سوريا، على غرار تعاملها مع مناطق الإدارة الذاتية في فترة جائحة كورونا.

النظام استفاد من المأساة الواقعة الآن، والزلزال المدمر، عبر تعويم نفسه والانفتاح على الغرب لطلب المساعدات ورفع العقوبات الدولية عنه، والأهم بالنسبة لبشار الأسد هو إعادة تعويمه شخصياً، وذلك بعد عدد من الاتصالات التي تلقاها تعزيه بمن مات في الزلزال، وهذه تعتبر بالنسبة له كالمثل القائل “رب ضارة نافعة”.

لكن السؤال.. هل سينجح النظام فعلياً في تحقيق هدفه؟ على المستوى الدولي، من الصعوبة القول بأن كارثة الزلزال من شأنها أن تعيد دمج النظام السوري في المجتمع الدولي؛ فالولايات المتحدة وإن كانت قد “علقت” العمل بعقوبات قانون قيصر لمدة 6 شهور، فالدافع الرئيسي لذلك هو المساهمة في تسهيل عملية تقديم المساعدات الإنسانية، بدليل أنها لم تتعامل مباشرة مع النظام السوري وحكومته في هذا الشأن، ولكنها فضلت تقديم مساعداتها للمناطق الخاضعة للنظام عبر آليات المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وتحديداً التابعة للأمم المتحدة.

من الواضح أن الجولاني قفز فوق الاعتبارات الإنسانية لتداعيات الزلزال لمصلحة ترسيخ مشروعه الانفصالي، المتمثل في إقامة إمارة إسلامية، تتمتع بحكم ذاتي مستقل، وذلك عبر شرعنه “حكومة الإنقاذ”، وتوسيع قاعدته الشعبية في عموم شمال غرب سوريا. ويبدو أن هدف اللجان الإغاثية التي شكلها الجولاني ليست تقديم المساعدة للمنكوبين، بقدر ما هو إظهاره كزعيم يمتلك مؤسسات ووزارات وقطاع واسع من العاملين القادرين على إدارة أكثر الأزمات تعقيداً، كل ذلك لينال ثقة المجتمع الدولي، ويستأثر بالحصة الأكبر من المساعدات القادمة، واستخدامها للدعاية لنفسه داخلياً.

وفي المحصلة ينبغي على المعنيين بالشأن الإنساني على الساحة الدولية أن يجروا إعادة نظر جوهرية في نماذج الإغاثة المعتمدة حالياً. ويجب أن تأتي في رأس أولوياتهم ممارسة ضغوط على جميع الأفرقاء في النزاع – لا سيما النظام – من أجل التوقف عن استخدام المساعدات سلاحاً في الحرب، ومحاسبة الجهات المسؤولة عن هذه الممارسات. والوصول إلى المتضررين بغض النظر عن الفريق الذي يسيطر على المنطقة حيث يقطنون، وللتخلص من ابتزاز كل من النظام السوري وتركيا وهيئة تحرير الشام، يجب إعادة النظر في فتح معبر تل كوجر صوب مناطق الإدارة الذاتية، لأن افتتاحه سيدفع باقي الأطراف إلى تقديم تنازلات والسماح لمرور المساعدات عبر كافة المعابر.

زر الذهاب إلى الأعلى