في يومها الدّولي.. اللغة الأمّ ركيزة التّعدُّد اللّغوي
تحتفي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو”، سنوياً، باليوم الدولي للغة الأم، والذي يصادف يوم 21 فبراير\شباط، بعد أن تختار موضوعاً وشعاراً تسلط الضوء عليه، لرفع الوعي بضرورة تعزيز التعدد اللغوي والثقافي. ويُقام اليوم الدولي للغة الأم، في هذا العام (2023)، تحت شعار “التعليم المتعدد اللغات، ضرورة لتحقيق التحول المنشود في التعليم”.
مؤخراً، دعت المنظمة جميع الدول إلى انتهاج سياسة التعليم متعدد اللغات، ونصحت باعتماد اللغة الأم في التعليم خلال السنوات الأولى للدراسة. لكن ما المقصود باللغة الأم؟ هل هي لغة الأجداد واللغة القومية، أم أن هناك التباس في هذا التعريف؟ ولماذا تصرّ المنظمات، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، على انتهاج سياسة التعليم متعدد اللغات والقائم على أساس اللغة الأم؟
قصة اليوم الدولي للغة الأم
بدأت قصة اليوم الدولي للغة الأم منذ عام 1948، عندما قام رئيس وزراء باكستان في ذلك الوقت بفرض لغة “أوردو” على باكستان الشرقية (بنغلادش حالياً)، حيث كانت باكستان تنقسم جغرافياً لباكستان الغربية (باكستان حالياً) وباكستان الشرقية. في عام 1952، أعلنت الحكومة في باكستان بأن “الأردية” هي اللغة المعتمدة في الدولة، متجاهلة بذلك النصف الشمالي في باكستان الشرقية، ولا سيما أن أهلها يتحدثون اللغة البنغالية، ويشكّلون الجزء الأكبر من السكان.
هذا الإعلان أثار غضب البنغلاديشيين، وجعلهم يحتجون دفاعاً عن لغتهم. وكانت بعض هذه الاحتجاجات دامية. ففي 21 فبراير\شباط 1952 تصدّت قوات باكستان للحركة التي قام بها طلاب “جامعة دكا”، وفتحت النار عليهم، مخلّفة خمس ضحايا من الطلاب والنشطاء المحتجين، بالإضافة أيضا لمئات الجرحى. لذا، سميت بـ “ثورة اللغة” أو “الحركة اللغوية التاريخية” (أمور إكوشي).
بعد ذلك أقرت باكستان بأن البنغالية هي لغة رسمية في الدولة بتاريخ 1956، ثم بعد أن استقلت بنغلاديش (باكستان الشرقية)، في 26 آذار من العام 1971، أصبحت البنغالية هي لغتها الرسمية.
في عام 1999، وبمبادرة من بنغلادش، ومن أجل حماية اللغة الأم وإنقاذها، أعلن المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عن اليوم الدولي للغة الأم. وتم الترحيب بإعلان هذا اليوم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2002.
اللغة الأم.. أُمُّ اللغات
بالنسبة للغة الأصلية للشخص، تُعتبر اللغة الأم مصطلح تقليدي، وهي لغة يتعلمها الشخص من الولادة. وتسمى أيضاً (اللغة الأولى، واللغة السائدة، واللغة المنزلية، واللغة الأصلية، على الرغم من أن هذه المصطلحات ليست مرادفة لبعضها بالضرورة.
لذا، فإن الكثير من الناس يقعون في الالتباس، عند الحديث عن ماهية اللغة الأم وتعريفها، والتي تُعرّف – بشكل عام – بأنها: اللغة التي نتعلمها أولاً، ونستخدمها كثيراً، وهي اللغة التي نتعرف عليها، أو التي نُعتبر متحدثين أصليين بها.
بالتالي، وبالقول المنطقي والمعقول، فقد سميت اللغة الأم بهذا الاسم؛ لأنها أول لغة يتحدث بها الطفل، فتكون هي أم اللغات التي عرفها طيلة حياته، وليس لأنه اكتسبها من أمه أو والديه بشكل عام، فهي اللغة الأم وليست لغة الأم. وهي تختلف عن اللغة القومية، وليست بالضرورة أن تمثل قومية الطفل، فمن الممكن أن تكون اللغة القومية هي اللغة الأم، ولكن ليس من الضروري أن تكون اللغة الأم هي نفسها اللغة القومية. وفي هذا الصدد من المهم تنمية اللغة الأصلية أو اللغة القومية في سبيل المحافظة عليها وحمايتها من الاندثار، وجعلها اللغة الأم للطفل.
لتوضيح الفكرة نستعين بالمثال التالي: لو افترضنا أن طفل ما ولد لأب وأم عربيين في دولة أجنبية، أي أن قومية الطفل هنا عربية. ولكن، اللغة المستخدمة في المنزل هي اللغة الأجنبية، أي أن اللغة الأجنبية هي اللغة الأولى التي سمعها الطفل منذ ولادته ويتحدث بها والديه معه. هنا – وبدون أدنى شك وبحسب التعريف المتفق عليه – فإن اللغة الأم للطفل هي اللغة الاجنبية وليست العربية، على الرغم من أن جنسية الطفل أو قوميته عربية.
بكل تأكيد، التعليم باللغة الأم أفضل وأكثر فائدة من أي لغة أخرى، وإن كان يتحدث بها فقط خمسة أشخاص في العالم! فهي لا تزال تُعرف بأنها أفضل اللغات وأكثرها فائدة في مجال العلوم والتعليم.
يقول الزعيم الإفريقي الراحل “نيلسون مانديلا” حول أهمية اللغة الأم: “لو تحدثت إلى شخص بلغة يفهمها، يدخل حديثك رأسه. ولكن، لو تحدثت إليه بلغته، يدخل حديثك قلبه”.
تعليم متعدد اللغات
إن التعليم متعدد اللغات القائم على اللغة الأم، يمثل عاملاً مهماً للجودة في مجال التعليم والدمج الشامل، وهذا ما تشجع عليه اليونيسكو دائماً. ويشير التعليم المتعدد اللغات – بالنسبة لليونيسكو – إلى إدراج ثلاث لغات على الأقل في التعليم، أي اللغة الأم، ولغة إقليمية أو وطنية، ولغة عالمية. وتبين البحوث أن التعليم الثنائي أو متعدد اللغات القائم على اللغة الأم، تعليم ذو تأثير إيجابي على التعلم ونتائجه.
كلنا نعلم، أن الشخص الذي يريد تعلم لغة وإتقانها، يحتاج إلى أربع مهارات رئيسية: القراءة، والكتابة، والاستماع، والتحدث. فعملية الكتابة، مثلاً، تحتاج إلى معرفة القراءة. وحتى نستطيع أن نتحدث بلغةٍ ما بشكل جميل وصحيح، يجب أن نكون قد استمعنا جيداً إلى طريقة نطق تلك اللغة ودرّبنا آذاننا عليه.
هنا، عندما يذهب طفل يبلغ من العمر 6 سنوات إلى المدرسة، وتكون لغة المدرسة هي نفس لغته الأم، فإنه يتقن مهارتين (الاستماع والتحدث) مسبقاً. وتتطور مهارات هذا الطفل بسرعة كبيرة، ويتعلم القراءة والكتابة، وتتوسع آفاقه المعرفية، وبالتالي يصبح تعلم لغة ثانية وثالثة بالنسبة له أكثر سهولة وسرعةً.
وقد ثبُت منذ ستينات القرن الماضي، أن التدريس بغير اللغة الأم، ولا سيما في المرحلة الابتدائية، ذو نتائج سلبية على نمو الطلاب اللغوي والعاطفي وولائهم للغتهم وثقافتهم، وهذا ما تؤكده كثير من الدراسات الأجنبية والعربية، التي تُلح على أن اللغة الأم هي الأساس في التعليم.
فمثلاً، في دراساتٍ أُجريت عن تجربة دولة ماليزيا الاقتصادية والصناعية، قبل عدة أعوام، التي حققت لها نهضة متميزة في العالم، وهي التي تمثلت في مشروع اعتماد اللغة الإنجليزية في تعليم مبادئ العلوم والرياضيات بدل اللغة الماليزية، ووصف هذا المشروع بأنه “التنازل الأهم في مسيرة الصناعة الاقتصادية الماليزية”. ولكن، بعد 6 سنوات من التجربة قررت ماليزيا إيقاف مشروع تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية “المالوية” (اللغة الأم)، والسبب حسب ما جاء في القرار، هو أن الدراسات التي أجريت على أكثر من 10 آلاف مدرسة أثبتت فشل التجربة، وأن التدريس بالإنجليزية (غير اللغة الأم) أدى إلى تدهور مستوى الطلبة على المدى البعيد، وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات، بحسب تقرير نشرته وكالة «أنباء الشرق الأوسط» الرسمية المصرية.
مزايا التعليم المتعدد اللغات القائم على اللغة الأم
بمناسبة حلول “اليوم الدولي للغة الأم” ذكـّرت اليونسكو العالم بأهمية صون لغات الشعوب الأصلية، إذ إنّ 40٪ من اللغات المنطوقة بالعالم، والتي يفوق عددها 6700 لغة، مهددة بالاندثار على المدى البعيد، نظراً لقلّة عدد الناطقين بها.
لذا، فإن إصرار اليونيسكو على جعل عملية التعليم في جميع انحاء العالم قائمةً على اللغة الأم لا يأتي من الفراغ، فهي كانت نتيجة دراسات وأبحاث وتجارب بلدان، وفي سبيل ذلك تغتنم حلول اليوم الدولي للغة الأم، لدعوة البلدان إلى انتهاج سياسة التعليم المتعدد اللغات. وتنصح المنظمة باعتماد اللغة الأم في تعليم الأطفال إبّان السنوات الأولى من دراستهم، أذ يُعد التعليم المبكر في هذه المرحلة يؤسس للتعليم في المستقبل، وذلك مع إمكانية دمجها مع لغة التدريس الرسميّة في نهج يعرف تحت مسمّى “التعليم المتعدد اللغات” باعتباره عنصراً ثقافياً مهماً، وكذلك لما لها مزايا عديدة منها:
- الوظيفة التنفيذية
إن الوظيفة التنفيذية هي من أهم المهارات المرتبطة بالتعددية اللغوية لدى الطفل، حيث تتضمن التفكير المرن والتحكم الرادع، المسؤولان عن السلوكيات المختلفة عند الطفل، كالانتباه والتركيز، مما تساعد في إيجاد حلول وطرق بديلة للمشكلات والتحكم في العواطف، بحسب دراسات علمية قارنت بين أطفال متعددي اللغات وأطفال أحادي اللغة.
- تطوير التنمية الاجتماعية
إن التعليم متعدد اللغات والقائم على أساس اللغة الأم، له تأثير كبير على النمو العام للطفل خلال السنوات الأولى من الدراسة. يلعب التعليم باللغة الأم دوراً مهماً للغاية في عملية التنمية الاجتماعية والثقافية والنفسية والمعرفية والجسدية والعاطفية للأطفال. ويرجع ذلك إلى أن الحصول على التعليم باللغة الأولى يجعل الأمور أسهل في الفهم، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الاحتفاظ بالذاكرة، والذي يؤدي إلى درجات أعلى ونسبة نجاح أكبر، وتقليل فرص الفشل.
- الوعي اللغوي المرتفع
الوعي اللغوي مرتفع أيضاً عند الأطفال متعددي اللغات، مما يعني أنهم لا يعرفون فقط قواعد المفردات والقواعد اللغوية للغات، ولكن أيضاً كيف تعمل اللغات، إلى جانب ذلك، يشعر الأطفال متعددو اللغات بالارتباط، والقدرة على المساهمة في ثقافات تراث والديهم، وكذلك في الثقافة التي يعيشون فيها.
- فهم أفضل للمناهج الدراسية
تظهر الأبحاث أن الأطفال متعددي اللغات، والذين يتعلمون على أساس لغتهم الأم، يتبنون فهماً أفضل للمناهج الدراسية، ولا يلزم إعادة تدريس المهارات المكتسبة باللغة الأم عندما ينتقل الطفل إلى لغة ثانية، وتسهّل تعلم اللغات الأخرى، مما يؤدي إلى ارتفاع تقدير الذات لدى الأطفال، وزيادة تفاعلهم مع والديهم ومحيطهم.
ختاماً.. يقول اللغوي الكردي “جلادت بدرخان”، وهو أول من كتب اللغة الكردية بأحرف لاتينية، وأول من ضبط قواعدها: “اللغات الأجنبية هي أسلحتنا وملابسنا، لكن اللغة الأم هي جسدنا”.
لذا، فإن التعليم المتعدد اللغات والقائم على أساس اللغة الأم، بات مصدر قوة وفرصة للبشرية، فهو يجسد تنوعنا الثقافي، ويشجع تبادل وجهات النظر، وتجديد الأفكار، وتوسيع قدرتنا على التصوّر، كما يزيد استخدام اللغة الأم من إتقان الطفل لها، وإحساسه بقيمته الذاتية، وشعوره بهويته وانتمائه لمجتمعه وثقافة بلده، لا سيما للطفل الذي يعيش في بلاد اللجوء، والتي ستكون فرصة تعلّمه للغة جديدة متاحة أمامه لاحقاً.
تشير الكثير من تقارير الأمم المتحدة إلى أن الدول التي تقف في الصدارة العالمية كلها تدرس بلغاتها الأم، وهناك 19 دولة تتصدر العالم تقنياً، يسير فيها التعليم والبحث بلغاتها الأم.
ومن جانبه، يقول عالم اللغويات “نعوم تشومسكي”، وهو أستاذ لسانيات وفيلسوف أمريكي: “إن البرامج التعليمية التي تتبنى أسلوب التعليم باللغة الأم ثم بلغة ثانية أجنبية فيما بعد قد أثبتت نجاحاً ملحوظاً في كثير من مناطق العالم، كما أنها حققت نتائج إيجابية مهمة، سواءً على الصعيد النفسي أو الاجتماعي أو التربوي، وذلك لأنها تقلل من آثار الصدمة الثقافية التي يتعرض لها الطفل عند دخوله المدرسة، وتقوي إحساسه بقيمته الذاتية وشعوره بهويته، وترفع من إحساسه بإنجازه على المستوى الأكاديمي”.