قضايا راهنة

الغاية الحقيقية خلف تهديدات تركيا لشرق الفرات

خَرَجَ الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” غاضباً من اجتماعه مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، على هامش قمة العشرين، التي عُقِدت في مدينة بالي الماليزية، منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، وأدلى – عقب الاجتماع – بتصريحاتٍ عالية النبرة، ضد اثنتين من الحلقات الضعيفة لأمريكا في المنطقة، حيث ركّز في هذه التصريحات – بشكل واضح – على مهاجمته لليونان في ليلة مظلمة، ومهاجمته لشرق الفرات في سوريا.

جاء هذا الاجتماع، الذي عُقد بين الطرفين، بناءً على طلبٍ من الجانب التركي، فبحسب تصريحات الأمريكيين، لم يكن اللقاء بأردوغان على جدول أعمال الرئيس بايدن، على هامش هذه القمة.

فهل كان اللقاء بين الرئيسين غير ذي جدوى بالنسبة للرئيس التركي، وما هي المطالب التركية التي قُوبلت بالرفض أو المماطلة، حتى ثار غضب أردوغان، لدرجة عدم انتظاره الوصول إلى بلاده، والإدلاء بما يريد من تصريحات؟

من الواضح أنّ العلاقات التركية-الأمريكية، تشهد تراجعاً كبيراً، وكانت بداية هذا التراجع عام 2003، حيث حدث التصدّع الأول بين البلدين، عندما رفضت تركيا السماح للولايات المتحدة استخدام أراضيها لشنّ الهجمات ضد نظام صدام حسين، واستمر تراجع العلاقة بين الطرفين، لتبلغ ذروة تعقيدها في مرحلة إدارة الرئيس بايدن.

أزمة تسليح الجيش التركي

إنّ ما يشغل تركيا بالدرجة الأولى، ويُعتبر مطلبها الرئيسي في هذه المرحلة، هو تسليح جيشها بالعتاد والأسلحة المتطورة، ولا سيما الحصول على طائرات (إف 16) التي تمتنع إدارة بايدن عن تزويد الجيش التركي بمجموعة جديدة من هذه الطائرات، وتحديث أسطول طائراتها الموجود، ما يجعل من هذا الأمر نقطة ضعف جدية للجيش التركي، في زمن تُدار فيها الحروب من خلال الأسلحة والتكنلوجيا المتطورة، ولا سيّما أنّ المعطيات والتحليلات التي يمكن الاستدلال بها لقراءة هذه المرحلة، تشير إلى أنّ المنطقة قد تكون مقبلة على مرحلة صراعات ساخنة.

لكن السؤال الأهم هنا هو: لماذا تمتنع إدارة بايدن عن تزويد تركيا بما تريد، وذلك على الرغم من أنّ تسليح الجيش التركي هو تسليح أمريكي، على اعتبار أنّ تركيا حليفة لها في الناتو؟

يبدو من الواضح إنّ الامتناع عن تسليح الجيش التركي بأسلحة متطورة لا يقتصر على إدارة بايدن، وحسب، فمع اقتراب الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، اعتقدت تركيا- وهذا ما أكده أردوغان في تصاريحه أيضاً- أنّ طلب تركيا بخصوص الطائرات، سيتم تحقيقه مع فوز الحزب الجمهوري في هذه الانتخابات، لكن الحال هو أنّ المسألة تتجاوز الحكومة، وهي تعتبر مسألة استراتيجية أمريكية تجاه تركيا.

 ما هي الأسباب الكامنة وراء تبني أمريكا لهذا الموقف تجاه تركيا؟

مارست تركيا العدالة والتنمية، سياسة انتهازية واضحة، إزاء الكثير من المنعطفات الهامة في السياسة الأمريكية، ولم تراعِ في سياساتها سقف حلف الناتو الذي يجمعهما تحته، وما دفع تركيا لذلك، هو اعتقادها الدائم بأنّ لها موقع جيوسياسي مهم لا يمكن إهماله بأي شكل من الأشكال، لذلك حاولت استغلال هذه النقطة في سياساتها الخارجية. ومن هنا جاء الامتناع الأمريكي عن تعزيز الجيش التركي، بعد محاولة تركيا استغلال هذه النقطة. ما دفع بالولايات المتحدة إلى سحب هذه الميزة من يد تركيا ومنحها لليونان بدلاً منها؛ أي العمل على تعزيز دور اليونان وموقعها الجيوسياسي، وذلك من خلال بناء قواعد أمريكية كبيرة فيها، على حساب تجميد قواعدها على الأراضي التركية، ولا سيما بعد شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية S400.

لا ريب أنّ هناك أسباب أخرى تحول دون إعطاء أمريكا التكنولوجية العسكرية لتركيا، واخراجها من برنامج (إف 35)، ومن أبرزها خلق توازن بين قدرات تركيا العسكرية مع قدرات الجيش اليوناني، حيث بات من الواضح أنّ أمريكا لا تدعم تركيا، للحيلولة دون إحداث تفوق عسكري لها على اليونان في هذه المرحلة، هذه إحدى أهم الأسباب حسب المعطيات الموجودة، وهذا ما تدركه تركيا أيضاً، وما ادعاءات تركيا بالهجوم على شرق الفرات، وممارسة أقصى درجات الضغط تجاه الخاصرة الرخوة لأمريكا، إلّا لحثّها على تلبية مطالبها أو دعوتها إلى الجلوس على طاولة المباحثات، من أجل الاستماع أو الانصياع إلى مطالبها. إلا أنّ ما حصل هو أن الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض لم يوليا اهتماماً كبيراً لهذه الجلبة التي أحدثها أردوغان، وترك مهمة الردّ للبنتاغون الذي لا يُعتبر جهة دبلوماسية، وبالتالي فهو ليس مخوّلاً بتقديم أي تنازلات لتركيا، لجهة تأمين مطالبها.

الانتخابات التركية

يواجه حزب العدالة والتنمية، تحدياتٍ وعقباتٍ حقيقية، للحفاظ على بقائه في السلطة لمرحلة أخرى. فحتى حملته الانتخابية باتت تفتقد إلى دعائم قوية تستند إليها، وعندما لم يجد هذا الحزب أي طرف يمنحه فرصة للمناورة، من خلال إعلان عملية “سلام داخلية”، اتجه إلى شنّ الحرب، من أجل جذب تضامن الشوفينيين الأتراك، لكن ما يبدو جليّاً، هو أنّ هذه الفئة أيضاً باتت تتقلص، لكن يبقى الأهم من كل ذلك، هو أنّ القوى المهيمنة عالمياً، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا تريد أن يحقق حزب العدالة والتنمية أيّ مكسبٍ يستفيد منه في حملته الانتخابية، وبالتالي يعزّز من دوره كحزب حاكم، ولذلك نجد كلّ هذا التخبط في السياسة الخارجية التي يقودها هذا الحزب.

 التطبيع مع النظام “السوري”

من المرجّح أن تكون محاولات أردوغان التطبيع مع النظام ” السوري” أيضاً مرتبطةً بحملته الانتخابية، فالداخل التركي بات مستاءً بدرجةٍ كبيرة من وجود اللاجئين السوريين على أراضيهم، لذلك يحاول الحزب الحاكم أن يجذب الشارع التركي في هذا التوقيت الحساس بالنسبة له. لكن في المقابل نجد أنّ النظام “السوري” ربط علمية التطبيع هذه بشروط أحلاها مرٌّ بالنسبة للحكومة التركية، ويبقى السؤال هنا: هل أدرك النظام “السوري” أنّ أردوغان يسعى من وراء التطبيع معه إلى إطالة عمره في السلطة؟

إنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم ذو توجه سنّي، وهو يرتكز بالدرجة الأولى على حاضنة “سنيّة”، ولعلّ هذا هو أحد الأسباب التي تجعل النظام “السوري” غير راغبٍ في بقائه في السلطة، وبالتالي فإنّه سيفكّر في تأجيل عملية التطبيع، على أمل فوز أحزاب أخرى أقرب إليه (مذهبياً) في الانتخابات، ولا سيّما حزب الشعب التركي بزعامة كليجدار أوغلو. وبالتالي فهو يريد منح كليجدار أوغلو “شرف التطبيع” معه.

أما في حال تمكّن أردوغان من تحقيق عملية التطبيع المنشودة، وذلك بضغط من الجانب الروسي والإيراني على “النظام السوري”، فإنّ هذه العملية ستكون عملية تحدٍّ للدول الغربية وللولايات المتحدة، التي فرضت حالة من العزلة على دمشق.

إنّ تطبيع تركيا مع “النظام السوري” يعني اصطفاف تركيا بشكل واضح إلى جانب التحالف الإقليمي الذي سيضم كل من تركيا وسوريا وإيران، وبالتالي فإنّ تشكّل مثل هذا الحلف في المرحلة الراهنة، يشكّل تحدّياً لمصالح القوى المهيمنة عالمياً، ومن بينها إسرائيل، لا سيّما مع وجود خطط لإمكانية شنّ هجمات ضد إيران، بالتزامن مع انسداد أفق المفاوضات النووية معها، وثورة “جينا أميني”. وعليه، فإنّ التطبيع التركي-السوري، سيصبّ في مصلحة الكرد، أكثر من أي وقتٍ مضى، لأنّ التطبيع إن تحقق، سيقابله تشكّل حلف مؤيد لحلّ القضية الكردية.

ختاماً .. إنّ اتخاذ تركيا لقراراتها لم تعد مسألةً سهلةً بالنسبة لها، كما أنّ أوراق الضغط التي تمتلكها باتت تنعكس سلباً عليها. فعندما لم تستجب تركيا للإرادة الدولية، للكف عن تهديداتها بشنّ عملية برّية على شمال وشرق سوريا، رأينا كيف انبرت ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، لرفض هذه التهديدات. وبالتالي تدرك تركيا جيداً معنى أن يناقش هذا الملف في مجلس الأمن، لأنّ النتيجة لن تكون وفقاً لما تتطلع إليه.

كما أنّ قبول المحكمة الأوروبية للدعوى التي أقامها السيد أوجلان عبر محاميه ضد اليونان، من شأنه أن يكون مقدمة لقبول دعواته ضد تركيا أيضاً. وعليه، لن يكون بإمكان تركيا تجاوز هذه العقبات بسهولة، لأنّ تداعيات ذلك، ستكون أشدّ وطأة عليها من هجومها البرّي.

زر الذهاب إلى الأعلى