قضايا راهنة

مع انشغال الروس بأوكرانيا.. تحرّكات جديدة في سوريا

باتت روسيا طرفاً ضرورياً في أي مبادرة دبلوماسية تتعلق بسوريا، خاصة بعد تدخلها العسكري في الأزمة السورية، وذلك بطلبٍ من الحكومة السورية، عام 2015؛ وأصبحت مع الزمن ضامنة للاتفاقيات المبرمة، لتجنب أي صدام بين الأطراف المتصارعة، بالإضافة إلى مهام أخرى تقوم بها، مثل ضمان وصول المساعدات الإنسانية لمناطق المعارضة، رغم حملاتها المستمرة مع قوات الحكومة السورية لضرب معاقلهم، إلا أن الجميع كان ينسق معها، لتجنب أي مواجهة مباشرة، وهي من الدول التي أبقت التوافق الضمني بين أطراف الصراع على المصالح الأمنية لكل طرف، و”مناطق خفض التصعيد” في سوريا.

لكن مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، اعتقد البعض أن الوجود الروسي في سوريا بات مرهوناً بمآلات حربها في أوكرانيا.

الأمر الذي غير طريقة تفكير الأطراف المتصارعة في سوريا، وباتت كل قوة تبحث عن حماية مواقعها وتعزيز نفوذها دون المساومة مع الروس، والمعطيات الحالية تشير إلى تحركات جديدة لبعض القوى وفق ميزان المصالح.

1.إيران

مع انشغال الروس بحربهم خارج سوريا، استعدت إيران لملء الفراغ في بعض المواقع الاستراتيجية في سوريا، عبر تحريك ميليشياتها، وتكييف سياستها تجاه سوريا مع الظروف المتغيرة الناتجة عن هذه الحرب، وتوسيع أنشطتها وفق استراتيجية تقوم على:

نشاط عسكري

في تكتيكٍ عسكري جديد، بدأت إيران بتعزيز مواقع ميليشياتها في سوريا، وتزويد بعضها بمنصات صواريخ، وأسلحة ثقيلة، وطائرات مسيرة، حيث باتت كمؤشر لتصعيد محتمل على أكثر من جبهة، وهذا ما أكده العاهل الأردني – مؤخراً – الملك “عبد الله الثاني”، أن الفراغ الروسي سيملؤه الإيرانيون ووكلائهم، محذراً من تصعيد محتمل على الحدود.

وقد باشرت إيران بالانتشار في بعض المواقع الاستراتيجية، بعد انسحاب مجموعات تابعة لروسيا منها، حيث أشارت تقارير إلى تجهيز إيران قواتها وعملائها في سوريا بمعدات وأسلحة نوعية، وتحرك جديد، لإعادة تنشيط قواتها الحليفة، ووكلائها في مناطق شاسعة من سوريا، لتوسيع نطاقها الجغرافي.

ففي شرق حمص، وبحسب مصادر إعلامية، وصلت مصفحات وعربات وعناصر من حزب الله اللبناني إلى مستودعات “مهين” العسكرية، عقب انسحاب القوات الروسية من هذه المنطقة، وباتت تلك المنطقة وتَرِكة روسيا من مستودعات وغيرها تحت سيطرة إيران. أما ميليشياتها المتمركزة في تدمر وريف حمص الشرقي، زودتها إيران بأسلحة عالية الجودة، كالرشاشات المضادة للدروع، وبزات عسكرية، وقطع أسلحة متنوعة، تحت إشراف قيادات من الحرس الثوري الإيراني.

وفي حلب، تسلّمت المليشيات الإيرانية – مؤخراً – أجزاء جديدة من مطار النيرب العسكري شرقي حلب، وأخلت المنازل المحاذية للمطار، واستحدثت مقرات عسكرية إيرانية على طريق حلب  دير حافر.

أما الحسكة في شمال وشرق سوريا، فقد قيّدت فيها روسيا حركة إيران، خاصة وجودها في مطار القامشلي، عقب ما تسمى عملية “نبع السلام” التركية في مناطق الإدارة الذاتية، والتي انتهت بتفاهمات تركية روسية، أفضت إلى تواجد الأخيرة في مطار القامشلي، لتنهي السيطرة الإيرانية على المطار، بالإضافة لتقديم الروس أجهزة ومعدات للنظام السوري في الحسكة، لتضييق الخناق على الوجود الإيراني في المنطقة، مما أجبر الأخيرة للانسحاب والاستقرار في “فوج طرطب”.

إلا أن انشغال الروس في أوكرانيا أعطى فرصة لإيران لتعزيز نفوذها، وفك عزلتها في شمال وشرق سوريا، عبر إدخال ميليشياتها من “الحرس الثوري” لشحنات من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى مطار القامشلي، حيث وصلت ثلاث شحنات إيرانية خلال شهري شباط وآذار من العام الحالي، محملة بأسلحة وذخائر ومعدات لوجستية، وطائرات تجسس وتدريب، تم نقلها إلى فوج طرطب ومواقع أخرى جنوبي القامشلي، الخاضع لسيطرة ميليشيات تابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني، إلى جانب “الفرقة الرابعة”.

تغيير ديموغرافي

واجهت إيران تصعيداً روسياً، لمزاحمتها، وإيقاف تمددها في شرقي حلب، وجنوب سوريا، وشمال شرقها، عبر تغيير خارطة الطريق التي اعتمدتها روسيا، لتعزيز سلطة مخابراتها، ومدّ نفوذها في تلك المناطق، من خلال حل ميليشيات “الدفاع الوطني” التابعة لإيران، ليصبح كل شيء تحت إشرافٍ روسي.

إلا أنه مع انشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا، بدأت إيران الاستعداد لتبديل الأدوار مع الروس، في اختراق المجتمعات المحلية لتلك المناطق المذكورة أعلاه ومناطق أخرى. فبحسب مصادر إعلامية، عمدت ميليشيات إيرانية بقيادة “لواء الفاطميون” إلى شراء بيوت وأراض، وتوطين مجموعات من إيران، وأخرى شيعية من العراق وأفغانستان واليمن، وهو أسلوب اعتمدته في نموذج جنوب لبنان، ونجحت بجعل المنطقة كاملة تحت سيطرة حزب الله. فتوطين مجموعات شيعية موالية لها في سوريا، أيضا سيضفي شرعية على وجودها في المنطقة. وهي استراتيجية لها تبعات خطيرة تهدد بافتعال حرب إقليمية جديدة من قبل وكلاء إيران في سوريا، وتثير فوضى قد تنتشر على كامل الأراضي السورية، وخاصة الحدودية، المحاذية لإسرائيل والأردن، ففي مقابلة للملك عبد الله الثاني مع الجنرال الأمريكي المتقاعد “هربرت ماكماستر”، قال “إن الفراغ الذي تركه الروس في جنوب سوريا سيملؤه الآن الإيرانيون ووكلائهم، وأمامنا هنا تصعيد محتمل للمشكلات على حدودنا”. وهذا ما يعكس القلق الأردني، من عودة المعارك على حدودها مع تقليص الوجود العسكري الروسي في جنوب سوريا.

لكن، رغم الحديث عن كل هذه الاستعدادات الإيرانية، والفرص التي تنوي استغلالها، والاستراتيجية التي تعتمدها، إلا أنها لا تزال تتعامل بحذر في خطواتها، فمن غير المرجح أن تتخلى روسيا عن وجودها في سوريا بالشكل الذي تراه إيران، فروسيا استثمرت كثيراً عليها على مر السنين، وكان هناك تنافس طويل بينها وبين إيران على النفوذ، وحتى لو نقلت بعض جنودها من سوريا، إلا أن احتمالية ترك الميدان لإيران شبه مستحيل، فأي تحركٍ روسي غالباً يجري بالتنسيق مع إيران، تحاول الأخيرة استغلاله لأهداف أخرى.

2. الأردن

الأردن من الدول التي خرجت سالمةً من رماد الربيع العربي، إلا أن سوريا كانت دائماً مصدر قلق أمني لها، وحرص الأردن منذ بداية الأزمة السورية على انتهاج استراتيجية تقوم على الحذر والتردد في إعلان أي موقف صريح تجاه الأزمة السورية، إلا أن تطور الأحداث في سوريا، وتداخل القوى الأجنبية فيها، جعل الأردن يعيد تقييم الموقف، خاصة مع ظهور داعش، وتعمق إيران ووكلائها في سوريا، والذي أثّر على العلاقات بينها وبين الحكومة السورية بشكل واضح خلال فترة الأزمة بين جفاء وتواصل.

في 5 أبريل 2017، وصل العاهل الأردني إلى واشنطن في زيارة رسمية، تزامنت مع تقارير حول حشد كبير للقوات الأمريكية والبريطانية على الحدود السورية لجهة الأردن، وأثار تساؤلات حول توغل مشترك في الجنوب السوري، لمواجهة داعش. وقد انتقدت دمشق هذه العملية في مقابلة للرئيس السوري “بشار الأسد” مع محطة سبوتنيك 21 أبريل 2017، حيث ذكر بأن الأردن جزءٌ من المخطط الأمريكي الهادف إلى نشر قوات على الأراضي السورية.

وفي 8 مايو 2017، صرّح وزير الخارجية السوري السابق وليد المعلم، رداً على مناورات “الأسد المتأهب” السنوي التي نظمتها واشنطن في 7 مايو، حذر فيه عمان قائلاً أنه على الرغم من غياب أي مواجهة بين سوريا والأردن، لكن في حال دخلت القوات الأردنية دون تنسيق مع دمشق نعتبرها معادية”، أما الجانب الأردني فامتنع عن الرد.

وبالتزامن مع مناورات “الأسد المتأهب”، بادرت روسيا برعاية اتفاقية، لوقف الأعمال العدائية في الجنوب السوري، ضمن إطار عملية أستانا، كجزء من اتفاق مع إيران وتركيا، للتوصل إلى مناطق “خفض التصعيد” بينها درعا في الجنوب، ويضمن كل طرف التزام مواليه بالتوقف، وبموجب هذا الاتفاق وافقت روسيا على إبعاد جميع العناصر من أصل غير سوري، كالإيرانيين وحزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى، من المناطق الحدودية، وهو ما وافقت عليها الولايات المتحدة أيضاً، على أن تقوم روسيا بدوريات عبر شرطتها العسكرية لمراقبة الاتفاقية.

وهذا التحرك أشاد به ملك الأردن حينها، حيث اعتبرها خطوة ناجحة لوقف إطلاق النار في سوريا، الأمر الذي غير المزاج العام في الأردن، لإعادة النظر في سياستها تجاه سوريا، وتحركت لتحسين علاقاتها مع الحكومة السورية، بتصريحات من مسؤولين أردنيين كتصريح رئيس مجلس النواب الأردني عاطف الطراونة لصحيفة مصرية، حيث قال فيه: “إن عمان ودمشق منخرطتان في تنسيق أمني على طول حدودهما المشتركة، وإن الأردن يدعم جهود النظام السوري لاستعادة سيطرته، وعودته للجامعة العربية”، كما بحث الطرفان سبل إعادة العلاقات التجارية والصناعية بين الطرفين، بعد انقطاع دام لخمس سنوات؛ ومارس الأردن ضغوطاً على مسلحي المعارضة في درعا، لتسليم المعبر الحدودي للحكومة، المغلق منذ عام 2015، والسماح لفتح السفارة السورية.

إذن، وقف إطلاق النار في جنوب سوريا كان أولوية أردنية لأمنه القومي. وكل مطالبه من المعارضة بالقبول يعود سبب تغييره بالدرجة الأولى إلى تأثير الدور العسكري الروسي.

استعدادات الأردن في سوريا مع انشغال الروس في أوكرانيا

الارتياح الأردني من المبادرة الروسية في الجنوب السوري لم يدم كما أراد، فمع انخراط روسيا في حربها مع أوكرانيا، عاد الأردن الى الواجهة مجدداً، ليعبر عن قلقه من التصعيد على حدوده الشمالية، ترافق مع هذا القلق استعداد لتحرك جديد يقوم على أساس:

  • إعادة بناء الجنوب

صحيح أن الأردن لم يتدخل في الأزمة السورية بشكل مباشر، ولكنه كان من الدول التي تدعم جماعات مسلحة معتدلة، وتتعاون مع الولايات المتحدة، لمنع تسلل داعش عبر الحدود، حيث شارك ما يسمى بـ”جيش سوريا الجديد”، إلى جانب القوات الأمريكية والبريطانية والقوات الأردنية الخاصة في 10 نيسان 2017، لدرء هجوم داعش على قاعدة التنف عند الجانب السوري من الحدود الأردنية – العراقية.

فالتحدي الأمني المعقد للأردن يكمن في جنوب سوريا، وما يثير قلقه وجود ما سماه الملك الأردني بــ “الفاعلين غير الحكوميين” في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست 5 أبريل 2017، في إشارة إلى داعش وحزب الله والميليشيات الإيرانية، والحرس الثوري الإيراني، كما طالب وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي في 12 مايو 2017 نظيره الروسي سيرجي لافروف، بتدخل روسي في هذا المجال، لعدم قبولهم منظمات إرهابية وميليشيات مذهبية على حدودهم مع سوريا، وأن الأردن سيرد على أي تهديد لأمنه.

إلا أن موقف الأردن بعدم المغامرة في سوريا، تحوّل مؤخراً إلى نية للانضمام إلى عملية عسكرية في جنوب سوريا، خاصة مع انشغال الروس بحربهم في أوكرانيا، والتخوف من نشاط إيراني أكبر في جنوب سوريا. وهو موقف أردني ناتج أيضاً عن ضغوط أمريكية، فالاثنان يتخوّفان من ممر بري إيراني يمتد من طهران إلى بيروت، عبر العراق وسوريا.

حيث ترى الولايات المتحدة، أن توسع الأردن وحلفائها المحليين في جنوب سوريا، يخدم تمكين الضربات المزدوجة للجماعات الإرهابية. ويقطع الرابط البري بين العراق وسوريا، الذي يعتمد عليه الميليشيات المدعومة من إيران لإيصال العتاد.

بالإضافة إلى أنه تحرك يحظى بترحيب بعض الدول في الخليج، وإسرائيل، إلى جانب الولايات المتحدة، فهي تدعم أي خطوات قد يتخذها الأردن في أحداث الجنوب السوري مثل:

  • تدخل عسكري أردني جنوب سوريا، بعمق 10-15 كم، وبتعاون أمريكي إسرائيلي.
  • استخدام الأصول العسكرية الموجودة، والتي نشرت سابقاً لمحاربة داعش، وتكثيف دعمها بإشراف مباشر من الأردن، لعرقلة خطط إيران.
  • تعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين، كالغرب، ودول الخليج (خاصة السعودية)، للمساعدة في الدعم، وتطوير التعاون مع القبائل السنية المحلية على طول الممر المخطط له.
  • البحث عن أرضية مشتركة مع روسيا، في سياق كبح جماح أطماع إيران، وبما لا يتعارض مع المصالح الاستراتيجية لروسيا، أما بإقناعها في الاستمرار في البقاء، أو تسليمها لها، بما يضمن وجود عسكري طويل الأجل في هذا المسرح.

ب- تغيير قواعد الاشتباك

في الآونة الأخيرة تعاظم النشاط العسكري والاستخباراتي الأردني على الحدود مع سوريا بذريعة مكافحة تهريب المخدرات من سوريا.

ومع استمرار عمليات تهريب المخدرات على الحدود الأردنية السورية، أعلن الأردن أنها شكلٌ من الحروب، وذهبت تقديراته إلى أن الأيام المقبلة ستشهد تصعيداً كبيراً على حدوده الشمالية. وبتصنيفه أن هذه الأحداث حرب، هذا يعني أن الاستجابة ستكون على المستوى نفسه، كالاستعدادات العسكرية المناسبة، وحشد الموارد، وتكييف التكتيكات، بحيث تتناسب مع طبيعة الخصم وأساليبه في هذه الحرب، ورفع مستوى المواجهة؛ من خلال الإعلان عن تغيير قواعد الاشتباك والتعامل، ومنح الجيش سلطة استخدام القوة الساحقة. مما يبدو أن مرحلة تحويل المخاطر السورية إلى فرصة عبر التجارة والفوائد المشتركة، ومقاربة الوضع والموقف مع الحكومة السورية، قد انتهت، وتيقن أن المشكلة مع دمشق ليست حصاراً اقتصادياً -كما تدّعي الحكومة السورية- وإنما حسابات ذو طابع انتقامي، حيث عبر عنه “خالد العبود”، عضو مجلس الشعب السوري في منشور له على الفيسبوك، في 25 مايو 2022، متهماً الأردن “بنشر الفوضى في سوريا، وأن الأردن شكّل منصة عدوان خطيرة على سوريا، وسمح بدخول آلاف الإرهابيين إليها، وأن دمشق لن ينسى أن الأردن ساهم بالكارثة السورية”، وهو كلام غالباً منقول من الأجهزة الأمنية السورية.

وأحد الاستعدادات خلال هذه الفترة، كان في دخول عتاد عسكري للمرة الثانية من الحدود الأردنية، لصالح “قوات مكافحة الإرهاب – حزب سوريا الجديدة”، في منطقة “الرحى” في محافظة السويداء. كما أشارت معلومات حول لقاء جرى في الأردن، جمع مسلحين في درعا، بالإضافة إلى رعايتها -اتصالاً- بين دروز الأردن ودروز سوريا.

وهي استعدادات تتزامن مع الحديث عن انشغال الروس في حربها بأوكرانيا، والتخوف من انسحابها، وتشكيل فراغ للجماعات المعادية لها، لكن بالرغم من هذه التحركات الأردنية، إلا أنها لا تزال تعول على إيجاد أرضية مشتركة مع روسيا، كأولوية للتدخل، لكبح جماح أطماع إيران، بما لا يتعارض مع مصالح روسيا الاستراتيجية، وهي تأتي ضمن خطط روسية سابقة لمزاحمة إيران في سوريا، ومنع تمددها. فترى روسيا أيضاً أن أي مشاركة أردنية ستتوافق مع التزامات روسيا، ولا تتعارض مع مصالحها الاستراتيجية.

3. تركيا

تركيا من الدول التي جمدت أنشطتها مؤخراً في سوريا، بحكم الاتفاقيات مع الدول الضامنة لمحادثات أستانا، للتوسط بين الأطراف المتحاربة، إلا أن روسيا كانت هي القوة الموازنة في هذا الثلاثي، حيث منعت من التمدد العشوائي للنفوذ الإيراني والتركي أيضاً.

لكن تأثير الحرب في أوكرانيا على الصراع في سوريا، وسباق القوى الفاعلة فيها، لملء الفراغ الذي ستتركه موسكو بحسب محللين، أدى بتركيا إلى الاستعداد أيضاً، للاستفادة من الموقف الجيوسياسي غير المتوازن لروسيا، لتأمين بعض مصالحها في سوريا، من خلال:

تطويق القواعد العسكرية الروسية في سوريا

جاء هذا التحرك كخطوة لترتيب أوراق اللعبة في سوريا وتجديد الاشتعال، بهدف التضييق على قواعد روسيا في حميميم وطرطوس قدر الإمكان. فالحظر الجوي الذي فرضته تركيا أمام الطيران الروسي، سيقلل بحسب رؤيتها من عدد العتاد والجنود، ويزيد من تعقيد الخدمات اللوجستية إلى سوريا.

وهو إجراءٌ يزيد من التكلفة، ويصعب إيصال العتاد اللازم في موعده، ويؤخر أي عمليات حربية لتحقيق أهدافها. ستستغلها أنقرة بطلب المزيد من روسيا لتقديم تنازلات ودفع الفصائل المسلحة التابعة لها، للتقدم نحو أهداف جديدة.

وقد أشار أحد الأكاديميين الروس في العلوم العسكرية والأدميرال المتقاعد “قسطنطين سيفكوف”، إلى أن إغلاق تركيا للمجال الجوي أمام الطائرات الروسية، هو “خطوة معادية، ومن المتوقع أن تشهد تحركاً تركياً غير ودّي، فربما تهاجم القواعد الروسية في حميميم واللاذقية، في محاولة لزيادة نفوذها في سوريا”.

تنفيذ مخطط مشروع “المنطقة الآمنة”

مع توسّع الدور الإيراني، باتت تركيا أيضاً تبحث عن فرصة لتوسيع نطاق نفوذها، وطريقة لإبعاد اللاجئين السوريين عن أراضيها.

وضمن هذا الإطار، بات الشمال السوري الهدف الموازي لجبهة الجنوب، مما دفع الرئيس التركي “أردوغان” إلى مناقشة هذا المشروع مع بوتين، عبر توغل عسكري جديد، لإنشاء “منطقة آمنة” على المنطقة الحدودية.

ويأتي هذا النقاش بالتزامن مع عرض الرئيس التركي صفقة على حلف الناتو، بتأسيس “منطقة آمنة” شمال سوريا، على أن تكون تحت وصايتها، مقابل موافقتها على توسيع الحلف.

وهي تحركات تركية تأتي ضمن إطار احتلال جزء من الأراضي السورية، بحجة تأمين حدودها، لبسط سيطرتها على المزيد من الأراضي، تحت ستار الحزام الأمني ضد الكرد السوريين.

فأنقرة ترى أن الحرب المطولة في أوكرانيا، يمكن أن تكون لصالحها، من خلال:

  • إضعاف الموقف العسكري الروسي في سوريا، الذي سيؤدي إلى فتح فرص دبلوماسية جديدة، تميل نتائجها لصالح أنقرة، ويعزز نفوذها أكثر في سوريا.
  • إغلاق تركيا لمضيق البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية، وفقاً لاتفاق “مونترو”، والأجواء التركية أمام طائراتها سيؤثر سلباً على الوجود الروسي في سوريا، ويجبرها على القبول بشروط تركيا؛ وبالمقابل سيضغط أيضاً على الغرب للتعاون معها، مقابل الاستمرار في إغلاقها الخطوط أمام روسيا.

كل ما سبق يؤكد على أوراق الضغط التي تراها أنقرة قوية، وتوقيتها مناسب للضغط على موسكو، لكن بالمقابل فروسيا أيضاً – حتى الآن – غير مكترثة للإجراءات التركية، فهي أيضاً رغم التحركات التركية على أكثر من جبهة، لا تزال تمتلك أوراق قوية تُستخدم في أي وقت، ويمكن قراءتها كالتالي:

  • تعد روسيا، في الأزمة السورية، لاعباً أساسياً، ولا حلول إلّا بموافقتها.
  • القواعد العسكرية – والتي تحاول تركيا تطويقها – زودتها روسيا مسبقاً بأكثر أصناف السلاح العسكري المتطور، آخرها “كاليبر” فرط الصوت، وتزويد سوريا بمنظومة “إسكندر إم”، والصواريخ المتنوعة في قاعدة “حميميم”، والقادرة على تدمير أهداف أرضية لمسافة تقدر بـ 500 كم.
  • روسيا لا تزال تحتفظ بأوراق ضغط قوية على تركيا؛ فأي هجوم من قبل القوات الروسية على الفصائل المسلحة السورية، المتحصنين في الشمال السوري، سيؤدي إلى نزوح جماعي للاجئين نحو تركيا، ويدخلها في متاهة أزمة جديدة، لها تبعات اقتصادية مدمرة.
  • الأهداف المحتملة، والتي وضعتها تركيا نصب أعينها، لشن هجومها في سوريا، عبارة عن تقاطع استراتيجي مهم، يمر منها الخط الدولي “M4″، ومن غير المرجح أن تتنازل عنه موسكو، لضرورة آمنه على حلفائه في تلك المنطقة.
  • وسائل الإعلام الروسية أشارت إلى رفض موسكو لزعزعة الوضع، كما أن الكرملين لم يتطرق في بيانه إلى حديث أردوغان عن العملية العسكرية التركية المحتملة، بل عزز الوجود الروسي في المنطقة أكثر، وكثف دورياته البرية والجوية على خطوط التماس بين قوات سوريا الديمقراطية والفصائل المسلحة الموالية لتركيا. بالإضافة إلى نشره لمنظومة دفاع جوي روسية من نوع “بانتشير s1″، نشر صورها موقع “rus vesna” الروسي، وستكون في مهمة قتالية في أقرب وقت ممكن بحسب الموقع.

لذا فأحد الخيارات؛ هو أما أن تقف موسكو ضد التصعيد، أو القبول بمقايضة الأراضي (منطقة مقابل منطقة)، أو الخيار الأنسب لها، وهو التشديد على استخدام الموقف، للتفاوض بين الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والحكومة السورية.

4. الولايات المتحدة الأمريكية

مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تشير المعطيات إلى تحركات أمريكية جديدة في سوريا تقوم على:

دعم وتمكين الحلفاء من خلال:

  • مساعيها لإشراك وضم مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) إلى المحافل الدولية.
  • تأمين منافذ أكبر لحلفائها في شمال شرق سوريا، واستثناء مناطقها من أي حصار اقتصادي.
  • تأكيد الالتزام بدعم قوات سوريا الديمقراطية، والاعتراض على أي عملية عسكرية تركية جديدة في مناطقها.
  • اعتبار نجاح الحوار (الكردي-الكردي) كأولوية أمريكية.

كل ما سبق، يُرجّح سعي واشنطن إلى تشكيل تكتل كردي صلب، يؤمن لها أوراق سياسية مع موسكو ودمشق، والتي اعتُبرت كرسائل تلقتها موسكو بردود إيجابية، تلخصت في دعوة نائب وزير الخارجية الروسي “ميخائيل بوغدانوف” في شباط الماضي، إلى ضرورة مشاركة ممثلي الكرد في العملية الدستورية.

تعزيزات عسكرية مضاعفة

شهدت المناطق التي تقع تحت النفوذ الأمريكي، وخاصة في جزئها الشمالي الشرقي، تعزيزات عسكرية، وصفتها موسكو بـ”الضخمة”، تضمنت أرتال عسكرية ولوجستية، قادمة من كردستان العراق، وهو تحرك يأتي بالتزامن مع قرار وزارة الخزانة الأمريكية استثناء مناطق الشمال السوري، والتي تسيطر عليها قواتها وشركائها قسد، من العقوبات المفروضة على سوريا بموجب “قانون قيصر”، إلى جانب إجراء واشنطن لتدريبات بالذخيرة الحية في المنطقة.

وهذه التعزيزات والمناورات الأمريكية تأتي بالتزامن مع الحديث عن خفض حجم القوات الروسية في المنطقة، لتعزيز جبهة أوكرانيا، والتي تباطأت مؤخراً.

إذاً فمع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، شهدت مناطق شرق وغربي الفرات تحركات أمريكية، بدت كمؤشر لتفعيل رسائل ردع في سوريا. الهدف منها زيادة الضغط على روسيا، والحكومة السورية؛ فالولايات المتحدة تتجه لرفع المناورة مع الاثنين حول تقوية الإدارة الذاتية، وقد تتخذ من تداعيات الحرب في أوكرانيا ورقةً للضغط على موسكو من البوابة السورية، بالاستفادة من حكم الأمر الواقع، ومبادرات استباقية وفق ميزان المصالح.

وهي تحركات لا تتعارض مع التنسيق المسبق بين الطرفين، فروسيا لا تزال تتعامل مع الولايات المتحدة على أساس التوافق “خطوة بخطوة”، فلا خلافات استراتيجية بينها وبين الولايات المتحدة في سوريا، والتوافق على أساس منع الصدام المباشر.

كما أن موسكو لم تبدِ اعتراضاً على بعض التلميحات الأمريكية حول تمكين الورقة السياسية التي تتعلق بحلفائها في شمال وشرق سوريا، والتي دعت فيها إلى ضرورة مشاركة الكرد في العملية الدستورية.

في الختام.. لابد من القول إنه بالرغم من جميع التحركات السابقة ذكرها من استعدادات وغيرها، إلا أن كل القوى لا تزال تتعامل بحذر، فحتى لو نقلت روسيا بعض جنودها من سوريا، إلا إنها حتى الآن لا تزال ثابتة في سوريا، وتسير وفق الخطط المتفقة عليها مسبقاً مع باقي الأطراف، للحفاظ قدر الإمكان على حالة الجمود الحالية في سوريا بين أطراف الصراع. فروسيا ليس لديها مصلحة في إشعال جبهة جديدة في سوريا، كونها لا ترغب بهزات كبرى تؤثر على موازين القوى وخرائط توزيع النفوذ فيها، خاصة في ظل انشغالها بأوكرانيا، لذا، فإلى أي مدى يمكنها المضي في هذا الإطار، وإلى أي مدى يمكن للأطراف الأخرى كسر الجمود والتحرك وفق ميزان مصالحها؟

زر الذهاب إلى الأعلى