قضايا راهنة

بعد قره باغ .. جبهة جديدة للمرتزقة السوريين في أوروبا الشرقية

جرت العادة في السنوات الأخيرة، أنه عند نشوب أيّ حرب، تتسارع الدول ذات التأثير، إلى تجنيد عناصر أجنبية – كمرتزقة – للمشاركة في القتال، بما يخدم مصالح هذه الدول، حتى أصبحوا اليوم ضمن أدوات الحروب في الكثير من المناطق الساخنة، كون المرتزق يبيع ولائه لمن يدفع أكثر، وينفذ ما يُملى عليه.

باتت المرتزقة يشكلون خطراً على منظومة الأمن الإقليمي والدولي، وشوكة في خاصرة الأمن والاستقرار، لسهولة استقطابهم وتوظيفهم، والزجّ بهم في الحروب. وقد ظهرت العديد من الدول  التي تُعتبر مصدّرة لهؤلاء المرتزقة، كان من أبرزها – مؤخراً – سوريا، فالمرتزقة السوريون حظيوا بسمعة سيئة، سواءً في سوريا، أو في النزاعات خارجها، حيث شاركوا بمعارك عديدة، تارةً بالاصطفاف إلى جانب تركيا أو روسيا في الحرب الأهلية الليبية، أو المشاركة في المعارك التي دارت في ناغورني قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان تارة أخرى.

وتشير التقارير الآن، إلى استمرار تشغيلهم في أوروبا الشرقية بعد قره باغ، في الحرب الدائرة في أوكرانيا، بالانضمام إلى الجانب الروسي أو الاوكراني، وهي ظاهرة تؤكد تنامي مخاطرهم التي باتت تهدد الأمن الدولي، فهؤلاء المرتزقة، وخاصة السوريين، بنقلهم من مكان إلى آخر يعني مواصلة استخدامهم كوقود للصراعات، يختاره مشغلوهم (تركيا وروسيا) لفترات طويلة، طالما الأزمة السورية لا تزال مستمرة.

لماذا سوريا

جذبت سوريا – خلال سنوات أزمتها – العديد من القوى الأجنبية مثل تركيا، وإيران، وروسيا، والولايات المتحدة. وبدأت جميعها بالعمل مع المجموعات العسكرية الموجودة على الأرض كحلفاء لتعزيز مواقعها. إلا أن بعض تلك القوى حوّلتهم لمرتزقة وأدوات لتنفيذ مخططاتها، وسهلت مرورهم، لدعم حلفائها في حروبها الخارجية، مثل روسيا وتركيا اللتان أرسلتا آلاف المرتزقة السوريين لدعم جماعاتهما في ليبيا وأذربيجان، حيث بدأت عمليات التجنيد لمرتزقة، يتم تدريبهم بالتوازي مع تحشيد عسكري من الطرف الآخر في نفس البقعة.

كما إن الحديث لا يشمل مرتزقة سوريين فقط، بل مرتزقة من بلدان أخرى أيضاً، لكنهم تلقوا خبرة قتالية في سوريا، مما يوحي بأن سوريا أصبحت بلد المرتزقة، ومع مرور الوقت أصبحت مصدّرة لهم، وهو أثر من تبعات الحرب، التي أنتجت رجالاً قادرين على حمل السلاح والتعامل معه، لكن في بلد اقتصاده مدمر، وبالتالي سيبحثون عن مصدر للزرق بأي وسيلة كانت، لذلك تم استغلالهم واستخدامهم كقتلة مأجورين في الحروب، كما في ليبيا وأذربيجان وأفريقيا، والآن أوكرانيا.

الرعاة

تحوّلت الأزمة السورية في الفترة الأخيرة إلى صراع مجمّد، فمنذ عام 2020 استقرت الخطوط الأمامية، حيث لم تشهد أي هجمات قوية، كما أن قدرة أي قوة على التقدم باتت محدودة، بسبب وجود القوات الأجنبية، ففي الشمال الشرقي يتواجد الأمريكيون، وفي الشمال تركيا، ومساحات أخرى يتواجد فيها الروس والإيرانيون، وقد دعمت هذه القوى الحرب الأهلية في سوريا، وأسسوا قوة بالوكالة، ونظرا لعدم قدرتهم على تغيير ميزان القوى في سوريا، بدأ بعضهم بالبحث عن ساحات أخرى، لفتح جبهات جديدة، وخاصة تركيا وروسيا؛ لإبراز قوتهما، والحصول على نفوذ ومكاسب في مناطق منافستهما مع بعضهما البعض خارج سوريا، عبر تصدير قوتهما بالوكالة للقتال كمرتزقة.

وبرعاية الأخيرين بات السوريون يخوضون حروباً في الخارج، وقد تم استخدامهم كقوات مكمّلة للحروب التي خاضوها؛ ففي ليبيا استقدم الروس المرتزقة السوريين، من الموالين للنظام السوري، لدعم الجيش الوطني بقيادة حفتر، بينما دفعت تركيا حلفائها من الجيش الوطني السوري لدعم حكومة الوفاق، ومن ثم بدأوا بتصديرهم إلى القوقاز لدعم الحرب التي دارت بين أرمينيا وأذربيجان، حول ناغورني قره باغ.

أوكرانيا الجبهة الجديدة للمرتزقة في أوروبا الشرقية

في أوكرانيا تم إطلاق دعوات على المستوى الرسمي للمشاركة في القتال، حيث أمر الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينيسكي” برفع مؤقت للتأشيرة للمقاتلين الأجانب، ممن يرغبون في دعم قواته، وهذا ما دعمته المملكة المتحدة في فبراير، حيث قالت وزيرة الخارجية “ليز تروس” أنها تدعم الأفراد في المملكة ممن يرغبون في الذهاب إلى أوكرانيا للقتال، كما أوضح رئيس وزراء الدنمارك بأنه لا يوجد حالياً أي حظر قانوني على مواطنيه للمشاركة في الصراع على الجانب الأوكراني.

ومع تزايد هذه الدعوات، كانت سوريا من الدول التي فتحت باب التجنيد لمن يرغبون بالقتال على جانبي طرفي الصراع، من قبل قوات النظام السوري، وما يسمى بالجيش الوطني السوري المعارض، حيث أعلن العديد من المقاتلين من الطرفين عن نيتهم في الانخراط في القتال، لتصبح أوكرانيا الجبهة الجديدة للمرتزقة السوريين، وجزئياً بمثابة عودة للحرب الأهلية السورية، فباستيراد روسيا لمقاتلين سوريين ونشرهم في أوكرانيا، وحصول المعارضة السورية على ميزات للقتال في أوكرانيا، باتت الأخيرة ساحة قتال في أوروبا الشرقية بطابع سوري واضح، تحت رعاية روسية تركية.

مرتزقة روسيا في أوكرانيا

إن استخدام المرتزقة في السياق الروسي بعهد بوتين ليس وليد اللحظة، أو استراتيجية منعزلة، إنما هي جزءٌ من رزمةٍ مرتبطة بالسياسة الخارجية الروسية، يمكن تسميتها بـــ “رزمة الخدمات”.

وفي أوكرانيا لا تكمن مشكلة روسيا في النقص بعدد الجنود، وإنما بسلسلة من الحسابات الخاطئة، فالمقاومة التي تحصل في أوكرانيا لم يتوقعها أحد بهذا الشكل، ومع ورود الأنباء عن مقتل الآلاف من الجنود الروس، وعزم روسيا على المضي في عمليتها العسكرية، بدأت باللجوء إلى المرتزقة، نتيجة اليأس من استمرار الحرب، بسبب الظروف الغير متوقعة.

وفي الآونة الأخيرة بدأت موسكو بالبحث عن سوريين للقتال كقوات مكملة لها في أوكرانيا، الأمر الذي رد عليه بعض السوريين باستعدادهم للانخراط في الحرب في أوكرانيا، وبالفعل أطلق الرئيس الروسي دعوة للمتطوعين، حيث أعلنت موسكو استعدادها لاستخدام متطوعين من الشرق الأوسط في حربها هذه، وانتشرت الأنباء حول تجنيد ما يقارب من 40 ألف مرتزق من سوريا فقط، مشيرة إلى أنهم متطوعون، مع أنهم في الواقع جنود تابعين للقوات المسلحة السورية، حيث أنشأ الروس تشكيلات عسكرية في سوريا، بحيث أصبحت رسمياً جزءاً من جيش النظام السوري، إلا أنها فعلياً مرتبطة بالقوات الروسية، مما يمكنها من مساعدة عملائها، ودعمهم في الساحات الدولية، والمشاركة المباشرة في النزاعات، كفرق تابعة للقوات الرسمية، أو كمتطوعين، لأن تغيير المصطلح سيصعّب مرورهم، كونهم مجرد ميليشيات، كما أن استخدام مصطلح المتطوعين، يساعد على التهرب من التبعات القانونية والدولية لمصطلح المرتزقة سيئ السمعة.

لماذا من سوريا

تعتبر سوريا موقعاً جيداً لاختبار التدخل المشترك بين قواتها العسكرية الرسمية، والشركات العسكرية الخاصة غير المعلنة، فالنموذج السوري يتمتع بأهمية كبيرة في تاريخ مجموعة فاغنر، وتطورها على مدار ثماني سنوات، كجيش من المرتزقة تمولها الاستخبارات العسكرية الروسية سراً، لاستخدامها كقوة للتدخل في الخارج.

وقد بدأ الوسطاء بتوقيع عقود مع سوريين، مستعدين للقتال إلى جانبها في سوريا، في دمشق ومناطق سيطرة النظام السوري، حيث شكلت قائمة جديدة تضم آلاف المجندين، كانوا ضمن التشكيلات إلى جانب قوات النظام السوري، وأحيانا تحت راية جمعية البستان والدفاع الوطني، بعضها انحل، وبعضها فقد زخمها في سوريا، فكانت الحرب في أوكرانيا فرصة لاستثمار عناصر هذه الميليشيات في هذه الحرب، في خطوة يراها هؤلاء المرتزقة أيضاً فرصةً للحصول على مكاسب مالية، ومبرراً لبعضهم للهروب من خدمتهم الإلزامية في سوريا.

لذا، فلجوء روسيا لاستيراد مرتزقة من سوريا له عدة أسباب، منها:

  • احتياطي ضخم لها في سوريا من مقاتلين، لتغذية الصراع، واستخدامهم في الهجمات البرية لاختبار الدفاعات الأوكرانية، مما يجنب الروس الخسائر البشرية.
  • مصدر مناسب للعمالة الرخيصة؛ فكلفتهم أرخص من كلفة وحدات الجيش النظامي، كما أنهم لن يتقاضوا رواتب ومعاشات تقاعدية مدى الحياة، كونهم يعملون بموجب عقود.
  • قوات منخرطة بالفعل على خط المواجهة في سوريا، ويتمتع معظمهم بفعالية وخبرة وسهولة التحرك، بالإضافة إلى قدرتهم لارتكاب جرائم حرب.
  • عدم إثارة استياء الشعب الروسي من قتلى وجرحى ضمن قواتها من الروس.
  • تخفيف الخزان البشري الذي تستميله الميليشيات الإيرانية لصالحها بإغراءات مادية وإيديولوجية، خاصة تلك التي انحلت أو فقدت زخمها كجمعية البستان، أو الدفاع الوطني وغيرهم، بهدف تقليص نفوذ إيران في سوريا ومنع تمدده.
  • أفضل شركاء يتم تجنيدهم في خطوط المواجهة لحماية عناصرهم الخلفية، فمقتل أي منهم لا يثير مشاعر الدول المنخرطة في الصراع.
  • الاختلاف العرقي والديني للمرتزقة السوريين عن الأوكرانيين سيزيل عنهم الحواجز الأخلاقية، ولن يترددوا في المعارك التي يخوضونها في أوكرانيا.

مرتزقة تركيا في أوكرانيا

تركيا لا تختلف عن روسيا في اعتمادها على المرتزقة في حروبها الخارجية، فهم أيضاً جزء لا يتجزأ من طموحات السياسة الخارجية للبلاد التي تعتمد عليهم في حروبها الخارجية.

وكان للسوريين النصيب الأكبر في صفوف القوى المكملة التي انشأتها تركيا، لعدة أسباب منها:

  • أنهم قدموا خدمة في دعم سياستها الخارجية، دون تعبئة الأصول الوطنية، كالقوات المسلحة.
  • الاعتماد عليهم في مناطق بعيدة، للقتال من أجل مصالحها، كاستخدامهم في ليبيا وأذربيجان، والتي كان لها تأثيرها.
  • استخدامهم في تأمين حدودها الجنوبية من قبل ما يسمى بالجيش الوطني السوري، وشن هجمات ضد مناطق الإدارة الذاتية، وسبب في تهجيرهم من مناطقهم واستبدالهم بمستوطنين جُدد من مناطق أخرى في سوريا.
  • المرتزقة سيسمحون لتركيا بمواصلة تمددها الجغرافي دون التخوّف من أي رد فعل محلي.

وفي أوكرانيا لم تبتعد تركيا عن هذه الحرب، فكلما صرّح بعض العناصر الموالين للنظام السوري بدعم روسيا في حربها في أوكرانيا، واستعدادهم للقتال إلى جانبها، أبدت عناصر من المعارضة السورية أيضاً – وبمباركة تركية – استعدادهم للسفر إلى أوكرانيا والقتال ضد الروس، وهي دعاية انتشرت في أوساط المعارضة السورية، لذلك فهم لا يختلفون عن مرتزقة روسيا، فقتالهم ليس بالمجان، كون غالبيتهم لا يتمتعون بسمعة جيدة، حيث اشتهروا بأعمال اغتصاب وتعذيب وسرقة في المناطق التي احتلتها تركيا، وقد وصفت الأمم المتحدة انتهاكاتهم بجرائم حرب.

وبالرغم من تصريحات الرئيس التركي بعدم تخلّي بلاده عن علاقتها المتوازنة مع روسيا وأوكرانيا، وتأكيده بأنها ستتبنى موقف الوسط، وعدم إرسال مقاتلين إلى جانب القوات الأوكرانية رسمياً كما فعلوا في أذربيجان وليبيا، وعدم رعايتها للتمويل ونشر مقاتلين في أوكرانيا، إلا أن شائعات سُرّبت من مناطق المعارضة السورية تفند تلك التصريحات، وتفيد بعقد اجتماعات مكثفة للمخابرات التركية مع فصائل الجيش الوطني السوري، يتعلق بنشر مقاتلين في أوكرانيا، وقد أفادت تقارير بالبدء في تسجيل أسماء ممن يرغبون بالقتال في أوكرانيا ضد الروس، كفرقة السلطان مراد، وسليمان شاه، كونهم من ذوي خبرة سابقة، كمرتزقة في ليبيا وأذربيجان، بالإضافة إلى تلقيهم أوامر غير مباشرة لاستقطاب مقاتلين من ذوي الخبرة بالسلاح الثقيل في المرحلة الأولى، وتقسيم المقاتلين الى مجموعات.

ما سبق يؤكد انخراط تركيا في الحرب الأوكرانية الروسية، عبر السعي بنشر مرتزقة فيها، حتى لو لم تعلن رسميا بتجنيدهم، إلا أنها ستسهل عملية نقلهم باستخدام مطاراتها وتسهيل إجراءات السفر، وإدارة تلك الميليشيات بشكل غير مباشر، الهدف من الإجراء إطالة أمد الاشتباكات مع الروس، لإجبارها على شن حرب استنزاف.

وفي الختام.. يمكن القول أن استخدام المرتزقة بات جزءاً من استراتيجية التوسع لدول مثل تركيا وروسيا، لتعزيز مصالحها في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا؛ والآن في أوروبا الشرقية، وكقوات مكملة لقواتها المسلحة؛ وقد ثبت عملياً أن سوريا هي الموقع الأمثل لتطبيق نموذج هجين، ينتشر بموجبه عناصر من الجيش النظامي، والشركات العسكرية الخاصة، وباتت تصدّر إلى دول أخرى، فاعتماد كل من روسيا وتركيا على استراتيجية نشر قواتها في الخارج، للعمل إلى جانب عناصر من الشركات العسكرية الخاصة بها آخذة في الازدياد، ومثال على ذلك ليبيا وناغورني، حيث يطبق النموذج السوري، لتحقيق أهداف تجارية وعسكرية مشتركة، تساعد قواتها، وإدارتها، والبلد المضيف على حد سواء.

وفي أوكرانيا فإن نشر المرتزقة فيها إشارة واضحة إلى أن:

  • الحرب ستستمر لفترة طويلة وليست لأيام.
  • وصول المرتزقة إلى أوروبا الشرقية يعكس تخطي مشغليهم لنصوص القانون الدولي، التي تنص على تجريم استخدامهم.
  • انتشارهم خطر مداهم، يواجه أوروبا، قادماً من الشرق، فوجودهم في أوكرانيا سيتسبب في تحديات أمنية مستقبلاً، كونها ستتحول لحاضنة للتنظيمات الإرهابية، وتهديد يحيط بأوروبا.
زر الذهاب إلى الأعلى