قضايا راهنة

أوكرانيا.. الساحة المثالية للاختبار وإعادة ترتيب الحسابات

منذ حلّ الاتحاد السوفيتي رسمياً عام 1991، أنشأت روسيا، وبيلاروسيا، وأوكرانيا، ودول أخرى، رابطة الدول المستقلة، للتعاون في مجال التجارة، والتمويل، والأمن. لكن لاحقاً أصبحت هذه الدول عالقة في مواجهة خطيرة، فأصبحت بيلاروسيا تعتمد على روسيا للحفاظ على نفوذها واستمرارها، أما أوكرانيا فتأرجحت بين نفوذ روسيا والغرب، الأمر الذي أدى الى تفاقم الأوضاع فيها، بين موالٍ لروسيا وموالٍ للغرب، ثم تطوّرت إلى احتجاجات داخلية، أدّت في النهاية إلى انهيار الحكومة الموالية لموسكو عام 2014.

إن سيطرة أوكرانيا على الجناح الغربي لروسيا، وميلها التدريجي نحو الغرب الأوروبي والأمريكي، واقترابها من الانضمام لحلف شمال الأطلسي. كل تلك التطورات، زادت من المخاوف الروسية. فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، انضمت 14 دولة في غرب روسيا إلى حلف الناتو، أربعة منها مجاورة لها. كانت أوكرانيا من ضمن الدول التي تقدّمت بطلب الانضمام للحلف، في حين أن روسيا طالبت بمنعها من الانضمام للحلف، بالإضافة إلى توقف الناتو من التوسع شرقاً.

إن نية الناتو في التوسّع شرقاً، أدّت إلى تعبئةٍ روسيةٍ على الحدود مع شرق أوكرانيا، والتهديد بهجوم وشيك، استخدمته روسيا كنوعٍ من الضغط في المنطقة، وكأداة تفاوضية لردع الناتو، إلا أنه تطور إلى اتخاذ الرئيس الروسي “بوتين” قراراً بالقيام بعملية عسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، لأن الغرب بحسب قوله “لم يترك لنا سوى صفر خيارات، ولم يترك لنا سوى خيار الدفاع عن روسيا، وشعبها”، ليتبين فيما بعد أنه اجتياح كامل، لا يخرج من إطار المغامرة، وربما النهاية المحبطة.

فلماذا يهاجم بوتين دولة مجاورة الآن، وما هي دوافع هذا الهجوم، ولماذا يخاطر بقواته، ويغامر بعقوبات وأزمة اقتصادية، ستكون لها تداعياتها وتبعاتها، ليس على روسيا فقط، وإنما ستمتد نحو أطراف أخرى، بعضها سيستغلها فيستفيدُ منها، وبعضها الآخر سيتضرر منها.

دوافع الهجوم

تطرح هذه الأزمة عدة تساؤلات حول أسباب الهجوم والمخاطرة، حيث يبدو أن بوتين كان مستعداً للدخول في هذه اللعبة المعقدة، ودوافع هجومه قوية ومناسبة بنظره، مثل:

التوقيت المناسب

عند الحديث عن حرب بوتين، نتحدث –هنا- عن أنظمة تعتمد على القوة، لترسيخ نفوذها وتوسيع نطاقها، وتعزيز وضعها الداخلي، كما في روسيا، أو الصين، أو فنزويلا، أو إيران، وتبدو كعقيدة يلجأ إليها الحكام المحاصرون، طلباً للدعم، ويدافعون عن بعضهم البعض حفاظاً على مواقعهم؛ فالتعامل هنا مع أشخاص لا يهتمون بالمعاهدات والمواثيق، بل بشيء واحد فقط هو التعامل بالقوة، فالحرب هنا اختيارية، وإشارة إلى أن بوتين يرى أن زمن الدبلوماسية مع الولايات المتحدة قد ولّى، وأصبحت مع حلفائها الغربيين أضعف من أن تتحمل عواقب مؤلمة، مثل المواجهة، أو الصدام المباشر.

ويعتقد بوتين أن الوقت قد حان لتحقيق نوع من التوازن مع القوة الغربية، وإعادة روسيا لعظمتها الإمبريالية الماضية، كما كانت في الاتحاد السوفيتي، وأن يبقى هو الراعي الرئيسي لها.

هجوم بوتين هنا يرتبط بتقييمه للعقوبات المفروضة على بلاده منذ عام 2014، بعد ضمّه لشبه جزيرة القرم، واستيلائه جزئياً على منطقة دونباس الأوكرانية، فهو رأى أن العقوبات لم تؤثر كثيراً على الاقتصاد الروسي، وأن بلاده شدّدت قبضتها العسكرية على أوكرانيا منذ ذلك الوقت، ومع استكمال الحصار من عدة جهات، واعترافه بالانفصاليين، جاءت الخطوة الروسية التالية، وهي الهجوم المباغت، الذي فاجأ الكثيرين، بعد تكهنات متضاربة حول نوايا الرئيس الروسي في حصار أوكرانيا، وحشد قواته على الحدود. لكن يبدو أن بوتين رأى أنها اللحظة المناسبة لإمكانية تحمل عواقب حرب شاملة على أوكرانيا، وحقيقة أن الآخرين سيضطرون في النهاية إلى العودة إليه، لحاجتهم إلى النفط والغاز.

التعويل على مفارقة الاستقرار (السلام النووي) لمنع التصادم

وهي مفارقة تتعلق بالأسلحة النووية، وتأثيرها، وما تخلفّه من دمار، وفي هذه الحالة، عندما تمتلك كل دولة أسلحة نووية، فإن احتمال نشوب حرب مباشرة بينهم يتضاءل بشكل كبير، وإنما يقتصر الأمر غالباً على صراعات طفيفة، أو غير مباشرة.

وهذا ما شجع بوتين نسبياً، لأن حربه في أوكرانيا لن تتطور إلى صدام مباشر بينه وبين الولايات المتحدة أو حلفائها، أو أن يهرعوا إلى الدفاع عنها، لأن مثل هكذا اشتباك ينطوي على خطر اندلاع حرب نووية، مما يمنح بوتين ثقة أكبر أن حربه هذه قد تنجح.

فعندما يحذّر بوتين الآخرين في حال تدخّلهم في حرب أوكرانيا بعواقب وخيمة، إنما هو تهديد مبطّن بقصفهم بالسلاح النووي، إذا تجرّؤوا على التدخل عسكرياً، وهذا يعني أن التهديد النووي من قبل بوتين هو غطاء لمتابعة عدوانه التقليدي. وتهديده بسلاحه النووي هو فقط لردع أي تدخل خارجي، فأوكرانيا ليست دولة نووية، إنما حلف الناتو لديه ثلاثة أعضاء يمتلكون السلاح النووي (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا)، وبما أن هذه الدول لا ترغب في حرب تنطوي على مخاطر نووية، فبوتين يعرف أن تهديده العلني باستخدام السلاح النووي ضد أي دولة تتدخل في حربها بأوكرانيا، سيضمن عدم تدخل الغرب عسكرياً للدفاع عنها، مما شجعه على هذا الهجوم.

وهذا التكتيك استُخدم في الحرب الباردة جزئياً، عندما أرسل السوفييت قواتاً عسكرية إلى المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، بعد تأكدهم أن الغرب لن يقف في وجههم، لانشغاله بحروب أخرى، وعدم قدرته على التدخل وخاصة الولايات المتحدة، ليستغل الفرصة في التحرك لقمع الانتفاضات الشعبية المناهضة للشيوعية.

وفي أوكرانيا، يحاول الجميع تجنب مخاطر حدوث أي سلوك خاطئ، وسوء تقدير، لأنها تقع بالقرب من حدود الناتو، وأي خطأ ربما يؤدي إلى نزاع أوسع.

التدريب في سوريا

تحت عنوان “درس تعلمه بوتين من سوريا: القصف يجدي نفعاً”، نشرت صحيفة التايمز مقالاً، حول تعلّم الجيش الروسي بسرعة من أخطاء المعارك، واعتماده خططاً تتناسب مع التكنولوجيا الحديثة، والدرس الكبير الذي تعلمه بوتين في سوريا هو سرعة القصف الدقيق، ومدى تدميره للمؤسسات المدنية والمستشفيات، وهذا ما شكّل لدى الجيش الروسي إيماناً بأن القوة المفرطة تأتي بنتيجة، خاصة إن لم تكن هناك محاسبة، كما حصل في سوريا. كل ما سبق شجّع بوتين على تدخّله في أوكرانيا، حيث اعتمد فيها على العديد من المرتكزات السياسية والعسكرية، والتي توصل إليها منذ عام 2015 في سوريا.

فالتدخل الروسي في سوريا فتح شهية موسكو على القوة والسيطرة لعدة أسباب:

  • أول عمل عسكري لروسيا خارج الاتحاد السوفيتي منذ انهياره.
  • تثبيت موطئ قدم لها في البحر المتوسط والشرق، عبر قواعدها في طرطوس، وحميميم، على الساحل السوري، لتأكيد قوة روسيا على الصعيد العالمي.
  • اختبار أنظمة أسلحة جديدة، وتكتيكات قتالية، وإظهارها للعالم عبر الساحة السورية، والتي يمكن استخدامها في أوكرانيا.
  • تدخّلها في سوريا – بنظرها – أعادها كقوة عالمية في الشرق الأوسط، وحليف قوي يُعتمد عليه.
  • استراتيجية الاضطراب والفوضى، واستخدام القوة لقمع وتخويف المعارضين في سوريا، ودعمها لنظام منهك، وعلى وشك السقوط، مكّنها من إجبار الغرب على قبول ضمني بتدخلها، وإدراجها كشريك لحل الأزمات.
  • تجربة اتفاق تجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة في سوريا، بعد استخدام الأخيرة للقوة المميتة، قُتل فيها المئات من جنود الروس والنظام السوري، نتيجة هجومهما على موقع أمريكي صغير في دير الزور، وهذا درسٌ استوعبه بوتين، وأدرك أن حربه في أوكرانيا يبقي قواته بعيدة عن أي صدام مباشر مع الجيش الأمريكي، وفرصة لبدء مناورة دموية في أوكرانيا.
  • التوجه لأوكرانيا، دون الاكتراث لأي صعوبات عسكرية ومعقدة.

كل ما سبق زاد من جرأة بوتين في حربه هذه، لاعتقاده أنه حقق أهدافه في سوريا، دون تكبّد تكاليف باهظة، وهذا ما دفع جيشه للمواجهة مع أوكرانيا، فقوة روسيا في سوريا أسس لها سياسة خارجية أكثر عدوانية، امتدت من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا.

ضرورة لاستعادة إمبراطورية روسيا المفقودة

ارتباط بوتين بالاتحاد السوفيتي – في الواقع – هو نتيجة حنين إمبراطوري، كونه كان امبراطورية ناطقة بالروسية، فالحلم لديه هو تأسيس إمبراطورية مصغّرة ناطقة بالروسية داخل حدود الاتحاد السوفيتي القديم؛ لذلك يستخدم التاريخ،  ليروّج أن أوكرانيا ليست دولة، وأن وجودها على الخريطة كدولة مستقلة هو مجرد صدفة، فأوكرانيا مهمة كرمز للإمبراطورية المفقودة، كونها كانت أكبر جمهورياتها، وروابطها الثقافية أعمق مع روسيا.

لذا يحاول بوتين السير على نهج فكرة إعادة توحيد الشعوب الناطقة بالروسية، من خلال التحدّث عن التاريخ الطويل للشعوب الناطقة بالروسية في أوكرانيا، ودول الكتلة السوفيتية السابقة، مثل جورجيا. فأوكرانيا كما قال بوتين: ليست دولة مجاورة لنا، وإنما جزء لا يتجزأ من تاريخنا، وثقافتنا، ومساحتنا الروحية.

ضربة عقابية تطورت إلى حرب كاملة

تعتمد الاستراتيجية الروسية في الكثير من الأحيان على نوع آخر من التدخّل، هو أكثر جرأة من التدخل السياسي والدبلوماسي، كالتدّخل الذي قامت به في سوريا عام 2015، حيث اعتمدت مبدأ الضربة العقابية لمعارضي النظام السوري، وتقليداً للاستراتيجية الأمريكية، مثل الضربات التي أمر كلينتون بتنفيذها -بمشاركة المملكة المتحدة- ضد العراق عام 1998، بعد رفض الأخيرة الامتثال لقرارات مجلس الأمن، وتدخّلها في عمل مفتشي لجنة الأمم المتحدة، للبحث عن أسلحة دمار شامل.

لذلك ظهر الرئيس الروسي، وأعضاء من حكومته، يتحدثون عن سلسلة من الضربات الجوية، والعمليات البرية، ضد أهداف محددة في أوكرانيا، لتظهر العملية العسكرية وكأنها ضربة عقابية، الهدف منها القضاء على ما يهدد المصالح الروسية، لكن تبين فيما بعد أن الهدف أبعد مما قيل، حيث تقوم قواته بتمكين نفسها في أوكرانيا كما يحدث حالياً، وبالتالي العملية التي قيل عنها أنها جزئية تحولت إلى حرب شاملة، الهدف منها السيطرة على كافة الأراضي.

أوكرانيا كساحة اختبار

هدف روسيا من حربها ضد أوكرانيا – وفق التصور العام – هو الهزيمة العسكرية، وبالتالي الإطاحة بالحكومة الحالية، وتشكيل حكومة جديدة متحالفة مع موسكو، وإضعافها للدفاعات الأوكرانية، مما يمنحها موقع مميز لشن هجمات جديدة في أي وقت مستقبلاً.

إلا أن التحرك الروسي بهذا الشكل، يضع احتمالية لأهداف أكبر من الإطاحة بحكومة، أو إضعاف لقدرات أوكرانيا، لتبدو الأخيرة كساحة اختبار لــ:

تقييم قدرة الولايات المتحدة

النظرية الروسية حول هدف بوتين الاستراتيجي، سواءً بمنع انضمام أوكرانيا للناتو، أو تقييم قدرة أوكرانيا العسكرية، أو كضربة عقابية، لم تكن كما أشيع عنها؛ فطبيعة الهجوم كانت صدمة، فهي لم تنحصر في شرق أوكرانيا، بل شملت جميع الاتجاهات، بهدف القضاء على أية مقاومة عسكرية، والإطاحة بالحكومة القائمة.

النوايا الاستراتيجية لروسيا في أوكرانيا، هو إظهار تراجع قوة الولايات المتحدة ونفوذها، لأنها لن تكون قادرة على إيقاف هذه الحرب، وهذا التحرك برأي بوتين الأكثر فاعلية لتحقيق هذا الهدف.

وهو مخطط ليس بجديد، فمنذ ما يقارب الأربع سنوات، تعمل روسيا على تحسين قواعد اللعبة الخاصة بالحرب الهجينة في أوكرانيا، فحربها ضد الغرب عامة تمر من أوكرانيا، عبر القرم، ومنطقة دونباس الشرقية، هي بداية للصراع الروسي الهجين، الهدف منه الظهور كقوة صاعدة، تحاول فيها كسب مكانة في التوازنات الدولية.

الاستعداد والرد الأوروبي

الجدل القائم حالياً في أوروبا حول أوكرانيا، هو عدم الاستعداد، أو القدرة على إيقاف الحرب ضدها، رغم أن ألمانيا أقدمت على عقوبة أكثر أهمية، بقرارها تعليق خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2″، وحماية دول الناتو لأعضائها في محيط أوكرانيا.

كل ما سبق يبدو كنقطة اختبار لأوروبا في المستقبل، ومراقبة بلد شريك يتعرّض لحرب، دون أن تتمكن من إيقافها. فلغة بوتين كانت واضحة، وهي التهديد باستخدام السلاح النووي ضد أي دولة تتدخل في أوكرانيا، وهي لغةٌ كان لها وقعها على الموقف الأوروبي، حيث اكتفت بالإدانات، وفرض العقوبات فقط. كل ذلك يبدو كنقطة تحول، قد تشجع بوتين على السيطرة على مساحات شاسعة من أوروبا، وخاصة في جزئها الشرقي، ودول البلطيق، كون روسيا طالبت مراراً بانسحاب الناتو من تلك الدول.

بطبيعة الحال مهما كان الرد الأوروبي حول الحرب الروسية على أوكرانيا مختلفاً، فالنظام الأمني الحالي ربما يتغير، ما لم تقْدم أوروبا على إعداد نفسها بسرعة لحقبة جديدة، وتزيل حالة الرتابة عن نفسها، كون أمنها سيكون على المحك، حيث ستعيش في حالة تمكّن روسيا من التدخل المباشر في أي وقت تشعر فيه أن مصالحها مهددة.

حسابات الربح والخسارة (المستفيد والمتضرر)

من المؤكد أن الحرب الروسية الأوكرانية الحالية ستكون لها تداعياتها على الجميع، بين مستفيد من تصعيدها، وآخر متضرر، مثل:

مصلحة الولايات المتحدة

لا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة لها أهداف معينة من كل هذه الأزمة، يمكن تلخيصها في عدة أبعاد، وهي:

  • البعد الاقتصادي

هناك مصلحة أمريكية في حالة التوتر في أوكرانيا، ودفع حكومتها لابتزاز روسيا، في محاولة تهدف بشكل أساسي إلى خلق مواجهة بين أوروبا وروسيا في أوكرانيا، لوقف التعاون بينهما في مجال الغاز، وخاصة فيما يتعلق بمشروع “التيار الشمالي 2″، وفرض نفسها كبديل عن روسيا. أي أن المصلحة ترتكز على بعد اقتصادي، يتعلق بالغاز الطبيعي. كون روسيا تمد القارة الأوروبية بالغاز الطبيعي بنسبة 38%، بشراكة ألمانية لإدارة مشاريع الطاقة.

وبما أن الولايات المتحدة دخلت حيز المنافسة، بزيادة صادراتها من الغاز المسال لأوروبا مؤخراً، فالمصلحة الأمريكية هنا تقتضي إطالة عمر الحرب، وتأجيجها، كون أوروبا الوجهة الأولى للغاز المسال الأمريكي.

فعلى مدار سنوات، تمارس واشنطن الضغوط على ألمانيا، لوقف مشروع خط أنابيب “نورد ستريم 2″ / التيار الشمالي 2” مع روسيا، وأُتيحت لها الفرصة في الصراع الروسي الأوكراني، ليكون إيقاف المشروع ضمن قائمة العقوبات على روسيا.

  • البعد الاستراتيجي

ترى الولايات المتحدة أن أوكرانيا هي البقعة المثالية لتأجيج الصراع، كونها منطقة نفوذ ومصالح أمنية لروسيا، لذا شجعت الولايات المتحدة أوكرانيا على الانضمام لحلف الناتو منذ عام 2014، لتأجيج الصراع، حيث قوبل برفض روسي، وتحرك نحو ضمّ القرم، وتسبّب في حراك في الشرق الأوكراني. وفي العام الحالي، حرّضت الولايات المتحدة أوكرانيا مجدداً على تقديم طلب الانضمام للناتو، لدفع روسيا إلى منافسة على نطاق دولي وإقليمي.

ما سبق يؤكد المصلحة الأمريكية في تصعيد الصراع، رغم إمكانها إيقاف الصراع، أو تخفيف حدّته على أقل تقدير، عبر منح روسيا تعهد بعدم ضم أوكرانيا للناتو.

لذا تركز واشنطن على الصراع بين أوكرانيا وروسيا، كاستراتيجية توريط روسيا في حروب جانبية، تشتت قواتها في جبهات متباعدة، واستنزافها مادياً أمام تكاليف هذه العمليات، التي ستؤدي إلى الحد من القوة الروسية، فواشنطن تركز على ما بعد الهجوم الروسي، أكثر من التركيز على تقديم أدوات للدفاع عن أوكرانيا.

من ناحية أخرى، ترى الولايات المتحدة أن النظام الليبرالي القديم، حول تطبيق ومعاقبة المخالفين أمر فات أوانه، وإنما تسعى لتطبيق نظام جديد، يقوم على موازنة القوة بالقوة. فالعقوبات التي فرضتها لن تغير من الديناميكيات الأساسية، وتخطط واشنطن لتحديد أفضل السبل لاستبدالها بترتيبات جديدة، تسعى من خلالها إلى فرض نفوذ جديد، أما بالاتفاق مع روسيا، أو بترتيبات أخرى، من خلال دعم وتطوير قطب أوروبي، كشريك لها، والعمل لتصبح جهة فاعلة ذات سيادة في السياسة الخارجية والأمن.

الصين والتأرجح بين المصالح والمخاوف

بالنسبة للصين، فهي تعيش في حالة تناقض بمواقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، بدعم روسيا علانية قبل الحرب، بحجة حماية أمنها القومي، وضمنياً بعد دخول القوات الروسية لأوكرانيا، فهي لا ترغب أن تتحمل الثمن، نظراً لضبابية نتائجها.

  • فاذا نجح الروس سيكون ذلك نموذجاً لما ستفعله في تايوان.

الجدل الجاري حالياً، هو حول نوايا الصين في الاستيلاء على تايوان، كونها تعتبرها أيضاً مقاطعة منشقة من البر الصيني، انطلاقا من مبدأ بوتين تجاه أوكرانيا، بدافع أن أوكرانيا ليست دولة مجاورة لهم، وإنما جزءٌ لا يتجزأ من تاريخهم وثقافتهم؛ الأمر الذي يمنح بكين إجابة مريحة للغاية، دون أن تضطر للإقدام على أي فعل قد ينعكس عليها لاحقاً؛ فالأحداث الحالية في أوكرانيا تعطي أملاً طفيفاً لدى بكين في التحرك، إذا ما افترضت أن الولايات المتحدة لا يمكنها التصعيد عسكرياً.

  • وإذا ما فشل الروس في أوكرانيا، لن تقحم نفسها في خضم حروب تضرّ بمصالحها.

رغم العلاقة القوية بين البلدين، فإمكانية إيجاد توازن في الموقف مستحيلة بالنسبة للصين، فالصراع ليس حلاً، كما أن تدهور الأمور نحو الدمار ليس في مصلحة الصين، كونها تتمتع بعلاقات عميقة أيضاً مع أوروبا والولايات المتحدة، بالشكل الذي لا يمكنها قطعها رغم التوتر.

الحرب الروسية الأوكرانية – بلا شك – تركت آثاراً سلبية على أسواق الأسهم الصينية أيضاً، وعكّر صفو الاقتصاد العالمي، كما أن الغضب الدولي بشأن أوكرانيا، والعزلة الدبلوماسية لبوتين، هو بمثابة تحذير للصين، إذا ما استخدمت القوة لإخضاع تايوان، التي تدّعي أنها من أراضيها.

يمكن القول أن الصين غير مرتاحة للطريقة التي اختارها بوتين لإخضاع أوكرانيا، كونها انطوت على عزلة اقتصادية وسياسية، ستكون تأثيرها أكبر إذا ما اتخذت الصين خطوة مماثلة، أو موقف مؤيد للتحرك الروسي تجاه أوكرانيا. فمن المرجح أن تخطو الصين نحو توازن، حتى لو كانت تكلفتها الاستراتيجية والاقتصادية سلبية نسبياً مع روسيا. لأن أوكرانيا تشكل عقدة رئيسية لطريق الصين التجاري عبر آسيا إلى أوروبا، بالإضافة الى وجود الاستثمارات الصينية في أوكرانيا، وانتشار الشركات الصينية فيها، ومع هذه الحوافز الاقتصادية لبكين في أوكرانيا، من غير المرجح التعنت أو قبولها علانية لهذه الحرب الروسية على أوكرانيا، لذلك تقف على الحياد إبان هذا الغزو، وترفضه، لكن بالمقابل تدعو إلى وضع المخاوف الروسية في الاعتبار، لذا تحاول الصين بشتى الوسائل تحقيق نوع من التوازن لحين انتهاء هذه الأزمة، بما يضمن لها مصالحها من كافة الأطراف.

تركيا المتضرر الأكبر

مع تدافع العديد من العواصم لإيقاف التقدم الروسي في أوكرانيا، عبر فرض سلسلة من العقوبات وخطوات أخرى، اقتصر رد فعل أنقرة في البداية على التنديد، والدعوة لحل دبلوماسي، ثم اكتفت بإغلاق المضائق وفق اتفاقية مونترو بعد ضغوطات غربية.

إن رد الفعل التركي منذ بداية الأزمة الأوكرانية، بدعوة أنقرة لحل سياسي، وتجنب أي عقوبات مؤثرة، يظهر قدرتها المحدودة على لعب دور نشط في هذه الأزمة، حيث تبدو عالقة بين المطرقة الروسية وسندان الناتو.

وقد كشفت التطورات الجارية، أنها ستكلف تركيا تكاليف باهظة على أصعدة متعددة، وهي:

  • سياسياً ودبلوماسياً

لعدم جدوى السياسة الخارجية التركية، وطموح رئيسها أردوغان، بإظهار بلاده كقوة إقليمية لها تأثير.

فالتحرك الروسي يعتبر معضلة بالنسبة لتركيا، التي سبق وخلقت توترات مع العديد من حلفائها في الناتو، نتيجة سلوك رئيسها مع روسيا، وسعيه لعلاقات سياسية وعسكرية أعمق مع أوكرانيا.

فلا تزال أنقرة تعوّل على إمكانية إيجاد حلّ للأزمة دبلوماسياً، لكن الروس باتوا ينظرون إلى علاقة تركيا مع كييف و”تتار” القرم كإشارات استفزازية، هذا قلل من فرص أنقرة في تمتين علاقاتها مع موسكو، كما أن محاولات رئيسها “أردوغان” لفرض نفسه كوسيط محتمل بينها وبين أوكرانيا قوبلت بالرفض، حيث لم يعر بوتين اهتماماً لمبادرة أردوغان، كما أن زيارته لتركيا، والتي أعلن عنها رئيسها لم تتحقق، مما قلل من قيمة تركيا، فمقابلة بوتين لقادة أوروبا تأكيد على أن أنقرة لا تملك أي قدرة لإيجاد حلول لتقدمها.

  • عسكرياً

طوّرت تركيا علاقاتها مع أوكرانيا في قطاع الصناعات الدفاعية، وخاصة فيما يتعلق بالمسيّرات القتالية، والتعاون في مجال إنتاج المحركات المتطورة، والتكنولوجيا العسكرية، استفادت منها أنقرة في تطوير المحركات والصواريخ، ثم دعمت بها أوكرانيا ضد الانفصاليين.

ولكن مع رغبة موسكو في فرض نفسها على أوكرانيا، فهي بهذه الحالة تهدّد شراكة تركيا مع أوكرانيا، خاصة في مجال الصناعات الدفاعية والتكنولوجيا العسكرية.

  • اقتصادياً

في الوقت الذي تغرق فيها تركيا في دوامة تدهور عملتها، والتضخم، تأتي الأزمة الأوكرانية الروسية، لتزيد من تدهور الاقتصاد التركي، كون الأخيرة تعتمد بشكل كبير على روسيا في قطاع الطاقة والسياحة، فأي عقوبات مفروضة على روسيا ستنعكس سلباً على تركيا أيضاً، نظراً لحجم التبادل التجاري بين الطرفين. وهو ما تبين منذ بداية الأزمة الأوكرانية، والتي أثّرت بشكل سريع على العملة التركية وأدّت إلى انخفاضها المستمر.

  • إقليمياً

التحرك الروسي سيعزز وجوده أكثر على البحر الأسود، بعد ضمه للقرم عام 2014، مما سيشكل تهديداً حقيقياً بالنسبة  لتركيا، حيث ستميل الدول الصغيرة على حدود تركيا نحو سياسة تتماشى مع الأجندة الروسية، الأمر الذي سيترتب عليه ضعف موقف تركيا في عدة ساحات، خاصة في شمال أفريقيا، والقوقاز، وسوريا، كونها ساحات تنافس روسي – تركي، والتي على الأرجح ستتأثر، وتتحول إلى ضغط روسي أكثر ضد المصالح التركية فيها.

ما سبق يمكن أن يؤدي إلى نهاية عملية التوازن بينها وبين موسكو، إلى جانب إنهاء طموح نفوذها الإقليمي خلال فترة حكم أردوغان؛ وحتى لو لم يكن الخاسر الأكبر في هذه الحرب، فهي – على الأقل – كشفت حدود طموحاته الهادفة، لتصوير بلاده كقوة إقليمية، وحليف لا غنى عنه في الحرب والسلام.

سوريا (تأثير محتمل)

إن أحداث أوكرانيا – بشكلها الحالي – لن تغير المصالح السياسية للدول الفاعلة في سوريا، رغم التنديد والتصريحات الهجومية بين أطراف الصراع، لكنها ستؤثر بشكل كبير على العلاقة بينهم، وربما تعيد فتح الطريق إلى اتخاذ إجراءات أحادية، من شأنها أن تثير استفزاز الخصم فقط، دون الوصول إلى درجة التوقف عن التنسيق.

فجميع الأطراف في سوريا يترقبون نتائج الحرب في أوكرانيا، كونها غالباً ستؤثر على الأزمة السورية لصالح طرف من أطراف الصراع، والتي سترجح كفة الميزان لحليفها في سوريا، وخاصة روسيا، فسوريا هي ساحتها الأولى للحرب خارج حدودها، فأي نتيجة في أوكرانيا ستؤثر حتماً في الحرب في سوريا، أما:

  • إيجاباً، بزيادة أوراق الضغط لديها، إذا ما تمكنت من نجاحها في أوكرانيا.
  • أو سلباً، لأن استمرار التصعيد، وتعقيد الأمور في أوكرانيا، سيزيد من استنزاف القوة الروسية المفتوحة على جبهتين، قد يضطرها في النهاية إلى قبول أي عملية تفاوضية، تؤدي إلى تنازلات لها في سوريا لصالح الأطراف الأخرى.

في الختام.. لا بد من القول أنه لا يمكن التأكد من معرفة ما يدور في عقل الرئيس الروسي بدقة، وإنما تبقى جميع الاحتمالات مطروحة، وقد يكون سلوك بوتين في أوكرانيا والقرم غير مقبول بالنسبة للغرب، لكن نظراً لطبيعة نظامه، والاعتراف بالمشاعر الروسية العميقة والدائمة بشأن فقدان إمبراطورتيه منذ سنوات، بدا الأمر مفهوم تماماً.

فبوتين يفضل استمرار هذه الأزمة، لتعزيز الدعم المحلي، فإذا تصاعدت الأزمة الأوكرانية أكثر، فمن المرجح أن يكون التأثير أكبر على الأمن الأوروبي، ويدفع بالأخيرة والنظام الدولي لحدود ما بعد الحرب، إلى وضعٍ لم يكن في حسبانهم، فهي دعوة للاستيقاظ، والتعرف على قيود بنيت منذ الحرب العالمية الثانية، فالوضع يبدو كارثي، وهي لحظة تمثل فشل للدبلوماسية، وباتجاه إيجاد نظام أمني أوروبي، إما جديد، أو بهيكلية جديدة.

كما أن تكاليف الانسحاب بالنسبة لبوتين مرتفعة وصعبة، كونها ستؤثر على النفوذ والمصداقية المكتسبة خلال السنوات الماضية، والتي يهتف لها الموالون والمقربون، على أنها عودة للقوى العظمى، والتي ستتبخر بنظرهم بمجرد العودة والانسحاب، لذا من الصعب بالنسبة لروسيا العودة لنقطة البداية، وستستمر في تصعيدها لتحصل حتى على مجرد تنازلات من الآخرين.

زر الذهاب إلى الأعلى