قضايا راهنة

تجربة داعش الاختبارية للعودة والتأسيس (أحداث سجون الحسكة نموذجاً)

إن إحرازَ أيُّ تقدّم عسكريّ كبير ضد تنظيمٍ إرهابيّ، دون الاستمرار في مكافحته حتى إنهائه بشكل كامل، حتماً سيؤدي ذلك إلى تعافيه مرة أخرى، أو ظهورهِ بشكلٍ جديد.

ومن الأمثلة التي يمكن أن نضربها هنا – كي لا نذهب بعيداً – هو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فالنتيجة النهائية للتحالف الدولي مع حلفائه من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كانت بتحقيق الانتصار العسكريّ الكبير، عندما دخل إلى آخر معاقله في الباغوز.

إلا أن الأحداث التي تكرّرت عقب إنهاء هذا التنظيم على الأرض، أكّدت أن هذه الحركة الإرهابية لم تنتهِ بعدُ، فقد نجا قسم كبير من عناصرها وأمرائها، سواءً داخل سجون ومخيمات الإدارة الذاتية، كسجن غويران في الحسكة، أو مخيم الهول، أو خارج مناطق الإدارة الذاتية، خاصة في المناطق التي تحتلها تركيا؛ كلُّ ذلك كان سبباً في إبقاء هذه الحركة المتطرفة والإرهابية حيةً، منذرةً بتهديداتٍ مستقبلية.

والفرصة الآن بالنسبة لهذا التنظيم، تكمن في شمال وشرق سوريا، فالأحداث الأخيرة التي لا تزال تشهدها مدينة الحسكة (سجن غويران)، خير مثال على تركيز التنظيم جهوده، لتحرير معتقلي هذه السجون التي تضم آلاف السجناء من عناصره، وهي استراتيجية لا ترتبط بالمنطقة نفسها، وإنما مخططٌ بدايته كانت من سجن الحسكة، كونه:

نقطة لرصّ الصفوف

حينما كان البغدادي معتقلاً في إحدى المعسكرات التي تديره الولايات المتحدة في العراق، استثمرها في نشر فكرة التنظيم بين محتجزي المعسكر، وخلال الهجوم على سجون الموصل، أُطلق سراح المعتقلين، وبذلك تمكّن التنظيم من الحصول على دعم إضافي للقوة القتالية، بالإضافة إلى مقاتلين، حيث انضم الآلاف إليه، وهذه الفكرة نشأت بين قيادات التنظيم حول إمكانيات هؤلاء السجناء ودورهم، فبدأوا بتنظيم حملات لإطلاق سراحهم.

اذاً، يمكن القول إن السجون التي تحوي عناصر التنظيم، هي إحدى النقاط الفاصلة والرئيسية ليعيد تجميع صفوفه، والظهور بقوة.

وهذه الاستراتيجية تم تطبيقها بالفعل في سجون شمال وشرق سوريا، التي تحتوي على آلاف المعتقلين من عناصر التنظيم، حيث تحتجز فيها قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي أشهر قادة داعش وأخطرهم، ممن كانوا أمراء ووزراء ومشرّعين ومقاتلين، ومسؤولين عن القتل والتعذيب ومهام حساسة أخرى.

أي يمكن أن تكون هذه الاستراتيجية كجهاز إداري، وشبكة كاملة لتنظيم الدولة الإسلامية، بانتظار فرصة الخروج والعودة، وقد اعتمدوا هذه الاستراتيجية كاختبار للعودة والتأسيس من جديد، عبر إطلاق من له تأثير قوي على الناس، كما حصل في العراق.

وفي يونيو 2021، دعا زعيم التنظيم “أبو إبراهيم الهاشمي” عناصره، لتركيز جهودهم على تحرير السجناء من سجونهم في سوريا، وأكد للمعتقلين أنهم سيُنقذون من الأسر، كونها تحوي على آلاف السجناء، فأصبح خطر استهدافها قائماً، وهذا ما تم تنفيذه منذ أيام، على أكبر معتقل يضم عناصره (سجن غويران) في جنوب حي غويران بالحسكة، كأكبر سجن في العالم يضم عناصر التنظيم، حوالي 5000 معتقل، وغربي السجن (سجن الصناعة)، الذي يضم أكثر من 2000 عنصر من التنظيم، لتكون الانطلاقة منها، ليتولّى بعدها انتشاره.

أشبال الخلافة.. الدروع التي أخّرت الحسم

إحدى الركائز التي اعتمد عليها التنظيم في استراتيجيته، هو تحرير أشبال الخلافة، فهم أشد خطورةً من المقاتلين أنفسهم، كونهم تلقوا تعاليم التنظيم الإيديولوجية، ضمن معسكرات منظّمة، ومدربين على السلاح، ليكونوا مقاتلين في المستقبل، فــــ “جيش الدولة” و”جيش الخلافة” و”جيش عدنان” كانوا يضمّون عدداً كبيراً من الأطفال، تحت مسمّى “أشبال الخلافة”، تم تدريبهم بمهارة على القتل، وترغيبهم به.

وفي الحسكة، تكتظُّ سجونها بالقاصرين والأطفال، حيث تتراوح أعمارهم بين 9 و14 عاماً، هؤلاء قَدِموا مع ذويهم، وتواجدوا ضمن مهاجع خاصة، وساهم وجود هؤلاء القُصّر في تقوية موقف العناصر الإرهابية ميدانياً. حيث شكّل العائق الأكبر أمام تقدم قوات سوريا الديمقراطية، نتيجة استخدامهم لأشبال الخلافة كدروع بشرية، والبالغ عددهم حوالي 700 قاصر، بالإضافة إلى أنهم مهيؤون للقيام بعمليات انتحارية، نتيجة ترسيخ الفكر الإرهابي، وزرع الكراهية في عقولهم عبر مدارس دينية، وقتالية حول فنون القتال، وفكرية، لتهيئتهم فكرياً ونفسياً للقدرة على ذبح ضحاياهم دون شفقة، فتأخير الحسم كان بسبب تردد قوات قسد حفاظاً على أرواح هؤلاء الأطفال أولاً، ثم التخوّف من تنفيذهم لهجمات انتحارية ثانياً، إلا أنهم لا يزالون يشكّلون الخطر الأكبر على المنطقة، فهو جيل لا يزال ينمو على إيديولوجية داعش الفكرية، القائمة على القتل والانتقام والترهيب.

استغلال الخلايا النائمة

على الرغم من الهزيمة العسكرية للتنظيم، إلا أن الكثير من قادته لا يزالون طُلقاء، ويعملون سرّاً، وخاصة الأجانب الذين قدموا كمجاهدين، ممن يستطيعون إعادة الانتشار، والانتقال من معركة إلى أخرى، مما يطيل عمر الصراع.

بالإضافة إلى من هربوا إلى مناطق خارجة عن سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، كرأس العين، وتل أبيض، وعفرين، وغيرهم من المناطق المحتلة من قبل تركيا. ليشكلوا خلايا لمواصلة تهديداتهم، حيث شوهد فيها عناصر من التنظيم، كانوا ممن شاركوا في العدوان على تلك المناطق، إلى جانب القوات التركية و”الجيش الوطني السوري” الموالي له، فلا يُستبعد إعادة تجميع صفوفه من تلك الخلايا وتسليحهم، كفرصة استغلها التنظيم للتواصل معهم، للتخطيط في اقتحام السجون، كما حدث في الحسكة، ولا يستبعد أن معظم العناصر الذين فروا من السجون قد وجدوا طريقاً إلى تلك المناطق للتواري فيها، مما يرفع نسبة الخطر على المنطقة في المستقبل، كونهم يزدادون قوة في المناطق المحتلة، وهناك من يساعدهم في التمويل، ويحرضهم على الهجوم.

الترهيب عبر التضخيم الإعلامي

إن أي تغطية إعلامية واسعة عبر وسائل الإعلام العالمية، تساهم في جلب الأنظار من خلال توثيق نشاط التنظيم، عبر الصور والمقاطع التصويرية لاقتحام السجون، والانتشار في المدن.

بالإضافة إلى التغطية الإعلامية للتنظيم نفسه، حيث يوثق كل جريمة يقوم بها، ونشرها إلى العلن عن طريق وكالة “أعماق” التابعة له، كإصدارات متتابعة؛ والهدف الرئيسي من هذه الأعمال الهمجية هو الترهيب، ورفع معنويات عناصره المتوارين أو المترددين.

وباقتحامهم لأكبر وأخطر سجن في العالم. يؤكدون برسالتهم هذه على نهجهم في القتل والتدمير. الغاية منها تعبئة استهلاكية للوسائل البصرية تروّج لعنف التنظيم، وهي ظاهرة فائقة الحداثة، حيث تضم أحدث الأدوات وأقواها، لنشر أعمالهم العنيفة التي تثير القلق، وهذا ما حصل في أحداث سجن الحسكة، حيث تحدثت الكثير من التقارير عن عودة التنظيم بقوة، بعد الهجوم على سجن غويران والصناعة في الحسكة، وهذا ما أقلق الجوار، وخاصة العراق نتيجة تزامن الأحداث مع هجوم للتنظيم في محافظة ديالى، قتل خلاله أحد عشر عنصراً من الجيش العراقي بينهم ضباط، وقد حذرت وزارة الدفاع العراقية من أن ما يحدث الآن هو امتداد لسوابقه، ولكن بحدة أكثر، نتيجة التقصير في بعض المهام، وخلاياه المجهزة بأحزمة، وعربات مفخخة، وأسلحة متنوعة.

كل ما سبق يأتي بالتزامن مع ظروف مهيئة لاستعادة نشاطه بقوة، ساعدت بشكل كبير في اندفاع التنظيم للتمرد ونشر الفوضى لاستعادة دوره، وهذه الظروف هي:

  • تقصير في جهود الولايات المتحدة لاحتواء أي قدرات عسكرية لحركة إرهابية معينة، أو احتواء قدرتها على الانتشار، أي ليست هزيمة دائمة، مما يساعد على عودة الإرهاب والتطرف.
  • نجاحات تكتيكية لم تقضِ على الارهاب: فأحداث الحسكة الأخيرة تؤكد على وجود نشاط تنظيم الدولة الاسلامية (داعش). ربما ساعد التحالف الدولي في تفكيك دولة الخلافة، لكنه لم يهزم الإرهاب، الأمر الذي يؤكد على ضرورة عدم ربط هزيمة داعش بهزيمة خلافته على الأرض. فالحسم العسكري لاستعادة المدن والبلدات في سوريا من داعش لم يشلّ حركته، إنما هي انتصارات تكتيكية لم تضع حداً له، ولم يُهزم بعدُ في الحرب.
  • حالة عدم الاستقرار في المنطقة خلقت سبباً جديداً وخطيراً لنشر الفوضى فيها، وعدم استقرارها، فالتحالف تمكن من احتواء داعش نسبياً، لكن دون معالجة الظروف السياسية والاقتصادية الأساسية في المنطقة، الأمر الذي ساعد على تعافي داعش، ونشر الإرهاب، وبالتالي دفعة جديدة من المهجرين والنازحين.
  • استغلال الهجمات التركية المتكررة: وكان هذا الأمل الأكبر لعودة التنظيم، لأن الهجمات التركية تقوم على أساس إضعاف قوات سوريا الديمقراطية التابعة للإدارة الذاتية، وبالتالي استغل التنظيم هذه الظروف لتحسين وضعه، فوسط صمت المجتمع الدولي والتحالف حيال العدوان التركي، وهجماته المتكررة، تفقد قوات سوريا الديمقراطية تركيزها بشأن هجمات التنظيم، فاستغلها الأخير لنشر الفوضى، أملا في الهروب وإعادة التأسيس.
  • الانسحاب الأمريكي المبكّر من سوريا: وهو سبب رئيسي لصعود داعش المتكرر، فبعد الإعلان عن الهزيمة العسكرية لداعش، لن تكون هذه الهزيمة كاملة، ما لم يُقدّم التحالف:
  • ضمانات لطمأنة قوات سوريا الديمقراطية، وتبديد مخاوفها حول انسحابها، وردع التهديد التركي، وتخصيص المزيد من القوى لمحاربة داعش.
  • الاستمرار في تقديم دعم جوي واستخباراتي، لمكافحة داعش، ودعم مادي لتحسين أوضاع المخيمات، وإدارة السجون في شمال شرق سوريا، كون قسد لا تستطيع إدارة هذه المهام بمفردها، في الوقت الذي يكون جلّ تركيزها على الأمن، وردع الهجمات التركية.
  • زيادة في عدد قوات التحالف، لأن خفض عدد هذه القوات في الوقت الراهن بمثابة تنازل عن حصص من الأراضي لصالح داعش، كونه سيحفزه على إعادة الانتشار.

ختاماً، يمكن القول إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة الحسكة، تُظهر حالة عدم الاستقرار في المناطق التي تأوي المعتقلين والمحتجزين من عناصر التنظيم، سواءً في السجون أو المخيمات؛ فاستعادة المدن، وإنهاء تمرد السجون أو المخيمات، وقتل البغدادي، لا يخفي حقيقة بقاء مجموعات منتظمة وممنهجة، فتَرِكته من معتقلين وخلايا، عبارة عن حزام ناسف يحيط بالمنطقة ما لم يتم التحرك لحله من الجذور.

فأحداث الحسكة لا ترتبط بالمنطقة نفسها، وليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، وإنما هو مخطط مدروس، بدايته كانت من سجن غويران.

التوصيات

للتخفيف من أعباء تَرِكة داعش، والفوضى التي يخلقها، يمكن تقديم بعض التوصيات، منها:

  • السعي لاستقرار المنطقة، من كافة الجوانب، فالحالة الأمنية غير المستقرة تزيد من خطر فرار عناصر التنظيم، وتنفيذ هجمات، وتجنيد المزيد من العناصر.
  • بناء مراكز خاصة لإعادة تأهيل “أشبال الخلافة” في السجون، والأطفال في المخيمات التي تأوي عائلات التنظيم، بغية تخفيف حدة العنف لديهم، كونهم يشكّلون الخطر الأكبر في المستقبل.
  • على الحكومات التي لديها مواطنين محتجزين في شمال شرق سوريا استعادتهم، أو العمل مع الإدارة الذاتية لتطوير آليات مشروعة، كبناء مرافق احتجاز آمنة، وبظروف إنسانية أفضل، والتعاون مع القوات المحلية في تأمينهم.
  • السعي إلى محاكمتهم عبر محكمة دولية، أو في مناطق احتجازهم، عبر التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية.
  • تفكيك منظومة داعش الايديولوجية في مراكز الاحتجاز، عبر غربلة المحتجزين أو المعتقلين في السجون والمخيمات، من خلال الفصل بين المدانين بجرائم كمقاتلين، أو مدنيين في مؤسساتهم، أو مواطنين عاشوا في كنفهم، كي لا ينتشر فكر التطرف بين الجميع، مما يزيد من عددهم، وهي مهمة تقع على عاتق التحالف الدولي أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى