قضايا راهنة

سوخوي في القامشلي.. رسائل ومؤشرات إعادة ترتيب الوجود العسكري

منذ أن بدأ العدوان التركي على مناطق شمال شرق سوريا في اكتوبر 2019، واحتلال سريه كانية (رأس العين) وكريه سبيه (تل أبيض)، والمنطقة لم تغب عن صدارة المشهد، كمركز تنافس بين القوى الدولية، لتعزيز نفوذها في البقعة الأهم في سوريا؛ والتي دخلت الآن في تعقيدات أخرى، بسبب التهديد التركي بعدوان جديد، وملامح إعادة ترتيب الحضور لبعض القوى المتداخلة، خاصة موسكو التي تصدرت المشهد مؤخراً، بتحركات جديدة، ضمن استراتيجية تعزيز الحضور العسكري في شمال شرق سوريا، وذلك باستقدامها لتعزيزات، وإجراء مناورات عسكرية لأول مرة مع النظام السوري، على خطوط التماس مع تلك المناطق التي تحتلها تركيا والفصائل السورية الموالية لها، وهو تحرك يأتي بالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية.

إلا أن التحرك الأهم، هو ظهور مقاتلة من طراز سوخوي Su-35 في مطار القامشلي، أحد أهم المواقع الاستراتيجية القريبة من القوات الأمريكية بالقرب من الحدود التركية، وهو تحرك قد يبدو للكثيرين مجرد مهمة روتينية لفترة قصيرة، أو نوعٌ من حالة الطوارئ، للتزود بالوقود أو إعادة التسليح، أو مهمة تدريبية لطيارين سوريين على المقاتلات الحديثة في مطار القامشلي. خاصة أن المطار كان يستخدم لعمليات منتظمة لحوامات روسية في مهمة حماية الشرطة العسكرية الروسية على الحدود التركية.

لكن وجود هذه المقاتلة، خاصة مع نشر دفاعات جوية، وأنظمة رادار، وغرفة عمليات عسكرية، بالقرب من قاعدة “هيمو”، التي لا تبعد عنها بضع كيلومترات، وتضم فريق استخباراتي أمريكي، هو تطور جديد ولافت، ويضع احتمالية وجود رسائل ومؤشرات تريد روسيا أن ترسلها لأطراف محددة، أكثر من كونها مهمة روتينية، ويمكن تناول كل ذلك كما يلي:

استكمال لحلقة قواعدها حول تركيا

تمتلك موسكو مجموعة من القواعد العسكرية القريبة من تركيا، كما في شبه جزيرة القرم، وأرمينيا وجورجيا، ويأتي مطار القامشلي في سوريا، بالإضافة إلى حميميم وطرطوس، ضمن سلسلة القواعد التي تحاول روسيا نشرها في محيط تركيا.

وهي خطوة ليست بجديدة، ففي يناير 2016 نشرت شبكة CNN الأمريكية تقارير لمسؤولين أمريكيين، بأن روسيا قد تتخذ خطوات لإنشاء قاعدة جوية في شمال شرق سوريا، على الحدود مع تركيا، حيث شوهد عدد محدود من العسكريين الروس، يبدون كفريق استكشافي في مطار القامشلي، ربما لتحديد كيفية استخدامهم للموقع، وهو وضعٌ يزيد من تعقيد الوضع العام.

وكلها نوايا تأتي نتيجة العلاقة المشحونة مع تركيا، بعد إسقاط الأخيرة لمقاتلة روسية في نوفمبر 2015، بزعم انتهاكها للمجال الجوي التركي، حيث وصلت العلاقة بين البلدين إلى أدنى مستوياتها في تلك الفترة.

وقد ركّز الروس – لاحقاً – على زيادة الطلعات الجوية على الحدود مع تركيا، بهدف تنفيذ ضربات جوية على المجموعات المسلحة من المعارضة غرب البلاد، ووصلت في بعض الأحيان إلى حد الاشتباك مع القوات التركية، وأسفر عن خسائر، وفي الآونة الأخيرة تطوّر النشاط الروسي ليصل إلى شمال شرق البلاد، عبر تنفيذ طلعات تدريبية في اكتوبر 2021، على الشريط الحدودي مع تركيا، وألقت بالونات حرارية في المناطق المحتلة من قبل تركيا والفصائل الموالية لها.

كل ما سبق يؤكد العلاقة المتباينة بين الطرفين، فتركيا عازمة على عدوانها في مناطق الكرد وإضعاف قدرات النظام السوري، وروسيا تسعى إلى مواصلة قدراتها، للوصول إلى المرافق الجوية شرق المتوسط، ويأتي مطار القامشلي كأحد النقاط التي لا تقل أهمية عن باقي القواعد العسكرية الروسية في مناطق أخرى، وتأثير هذه الخطوة بشكل خاص على أي تحرك تركي، كونها:

  • تهدّد النفوذ والتوسع التركي في المنطقة.
  • تعيق محاولاتها لاجتياح مناطق شمال شرق سوريا، حتى لو كانت هذه الخطوة الروسية هي تحرّكٌ لا يُقصدُ به حماية الكرد، لكنها ستعيق أي تحرك جديد لأنقرة، أو تحرك واسع على أقل تقدير.
  • تحركٌ تقصد به موسكو أن القامشلي هدف غير مشروع لأنقرة، مما سيشكل مصدر قلق دائم للأخيرة.

انخراط أكثر في الملف الكردي

في إطار مساعي روسيا لاستكمال المصالحات مع النظام السوري، عبر إيجاد صيغ لتفاهمات سياسية وعسكرية مشتركة في شمال شرق سوريا، يأتي وجود السوخوي، والتمهيد لإنشاء قاعدة عسكرية في مطار القامشلي، كأحد احتمالات التقارب الروسي مع الإدارة الذاتية، في إطار التفاهم، وقرب المصالحة مع النظام السوري.

وقد برز العديد من النشاطات الدبلوماسية للإدارة الذاتية مؤخراً، وكانت روسيا إحدى الأطراف ضمن هذا النشاط، استغلته بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وخطتها بالانسحاب من العراق، بالإضافة إلى استغلالها للتهديدات التركية، فهي تحاول الانخراط أكثر في الملف الكردي، لدفعهم للمصالحة مع النظام السوري، ومحاولة الاستفادة من ثروات شمال شرق سوريا لإعادة البناء، فهي تستخدم كل إمكاناتها للمشاركة في أي لعبة سياسية شرق الفرات، كونها ضمان لمنع انهيار النظام السوري.

إذاً، فروسيا تحاول ملئ الفراغ الأمريكي – بعد مغادرته – من خلال التقارب مع الإدارة الذاتية عبر تفاهمات سياسية وعسكرية مشتركة في المنطقة، الأمر الذي يمهّد لحل سياسي شامل عبر التفاوض بمشاركة الكرد.

ومن ناحية أخرى، تحاول الإدارة الذاتية أيضاً خلق وضع سياسي جديد في علاقاتها مع موسكو، تحقق منه دعماً إضافياً في المنطقة، مما يخفف من قلق احتمالية الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من سوريا، كما فعلت في أفغانستان. فالتقارب مع الروس في الوضع الراهن، يضمن قوة عسكرية وإقليمية داعمة لمكاسب الكرد في سوريا، في إطار توافق الضرورة، كونها إحدى الأطراف الرئيسية والمؤثرة في سوريا، كما أنه تقارب يبدو كمناورة لمنع أي عدوان تركي جديد.

إذاً، وجود السوخوي في مطار القامشلي، هو بمثابة إعلان لنوايا موسكو في ملئ الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي، وتعزيزٌ لوجودها في الجزء الشرقي من سوريا، ورسالة لتركيا، بالسيطرة على المجال الجوي في المنطقة.

تفاهم غير معلن مع الولايات المتحدة

لا شك أن محيط مدينة القامشلي شكّل مسرحاً لمواجهات بين روسيا والولايات المتحدة، والتي تطورت في بعض الأحيان إلى مشاجرات واحتكاك بين الجنود والمركبات، وسلسلة مواجهات جوية وحوادث أخرى، بسبب منع القوات الأمريكية للمحاولات الروسية في التحرك ضمن المنطقة دون تنسيق. الأمر الذي أبقى الروس في غرب الفرات، لتفادي التصادم مع القوات الأمريكية، رغم بعض التجاوزات بين الحين والآخر.

وفي خطوة لزيادة نفوذها في المنطقة في نوفمبر 2019، وقّعت موسكو مع دمشق اتفاقية تأسيس قاعدة عسكرية روسية في مطار القامشلي، ألا أنها اقتصرت على عدد محدود من الحوامات، ونظام دفاع جوي للمراقبة، ودعم دورياتها المنتشرة في المنطقة. لكن نشر مقاتلة سوخوي في مطار القامشلي، يرقى لمستوى انتهاك كبير للبروتوكول المتفق عليه مع الجانب الأمريكي حول مناطق النفوذ، ما لم يحمل في ثناياه مؤشراً جديداً على تحولات في السياق الإقليمي، لمرحلة جديدة تشبه إعادة ترتيب الأوراق في بعض القضايا، يفضي إلى تفاهمات بين القوتين، بينها هذه الخطوة، كونها:

  • لا تستهدف واشنطن، أو تشكل تحدّياً لها، وهذا ما صرّح به المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية “جون كيربي” التأكيد على إبقاء قنوات منع التصادم مع الروس.
  • الأمريكيون ومنذ بداية انخراطهم في سوريا، لم يعمدوا إلى نشر قواتهم في المدن، وإنما اهتمامهم كان يصب في الضواحي فقط، فامتلاك الروس المزيد من المعدات العسكرية، لن يسبب لهم المشاكل، طالما يوجد ترتيب لمنع التصادم، وهذا ما أكده “كيربي” أيضاً، تعليقاً على نشر مقاتلة حربية روسية من طراز Su-35 في القامشلي بالقرب من القوات الأمريكية، للتأكيد على عدم وجود حسابات خاطئة، وعواقب غير مقصودة.
  • المنطقة تدار باتفاقيات دولية محدودة، وليست بالقوة، فبالنسبة للأمريكيين هذه الخطوة ليست محاولة للسيطرة الكاملة على المنطقة، ولن يقدموا على مثل هذه المحاولة في الوقت الحالي.
  • جزءٌ من خطة أمريكية لإعادة ترتيب وجودها في المنطقة، وإعادة تشكيل هذا الوجود وفق تفاهمات تفضي إلى تحجيم النفوذ الإيراني.
  • إخراج المنطقة من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار، عبر تفاهمات تضمن المصالح الأمريكية وحلفائها المحليين في المنطقة.

في الختام.. يمكن القول: إن التحرك الروسي ونشاطه في مناطق تسيطر عليها القوات الأمريكية، بنشر مقاتلات حربية في مطار القامشلي، وتحرك شرطتها العسكرية بين دير الزور والرقة برفقة قسد، هو تحوّلٌ روسي من غربي الفرات إلى شرقه، بعد أعوام من منعه بالقوة، أو عبر تفاهمات مع الجانب الأمريكي، وهو تحول يرجح فرضية التفاهم بين الجانبين، وينهي حالة الانقسام، ويقرب المصالحة بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق برعاية روسيا، والتوصل لاتفاق يحقق مصالح الاثنين، ويتيح للكرد دور في مستقبل سوريا.

كما أنه ليس من الصدفة استبعاد موسكو لمدينة القامشلي عن مخطط الدوريات المشتركة بينها وتركيا على طول الحدود، والتي تم الاتفاق عليها في سوتشي اكتوبر 2019، حيث كان الهدف إبعاد تركيا عن منطقة تقع ضمن استراتيجية روسية لإنشاء قاعدة جوية فيها، لمراقبة التحركات التركية، ومنعها من أي صدام محتمل في المستقبل، سواءً مع النظام أو قسد.

وبهذه القاعدة الجديدة ستكون موسكو قد:

  • خطت خطوة نحو شرق سوريا، وهي منطقة استراتيجية للغاية من الناحية الجغرافية، كونها قريبة من حقول النفط والغاز، وممر العبور الرئيسي بين العراق وسوريا.
  • أنشأت قاعدة جوية روسية جديدة ودائمة في سوريا، تتمتع بموقع استراتيجي مهم، بالقرب من تركيا والعراق.
  • تمكّنت من مراقبة الأجواء التركية والعراقية. بالإضافة إلى تعقب النشاط الأمريكي من جهة الشرق.
  • انخرطت أكثر في القضية الكردية.
  • شكّلت وريداً لتغذية نقاط وجودها في المنطقة، والعمل أكثر على بناء حاضنة محلية في شمال شرق سوريا.
زر الذهاب إلى الأعلى