قضايا راهنة

خيارات “بايدن” لتصحيح المسار الأمريكي في سوريا

أضحت سوريا خلال أزمتها الحالية إحدى المحطات التي تعكس مسار نجاح أو فشل الإدارة الأمريكية إزاء سوريا، فبالرغم من رؤية الإدارتين اللتين سبقتا إدارة ” بايدن” بتحقيق الأهداف وفق مقاييسهما في محاربة الإرهاب، إلا إن الحالة المأساوية في سوريا، والتي أعقبت فترة حكمهما، مثّلت فشلاً ذريعاً لسياستهما ضمن هذا البلد، وهذا ما أشار إليه مسؤولون من أمريكا نفسها، كتأكيد المسؤول الأممي “جيفري فيلتمان” في يناير 2021 لصحيفة “الشرق الأوسط اللندنية” بأن السياسة الأمريكية في كل من إدارتي “أوباما وترامب” فشلت في تحقيق نتائج ملموسة إزاء أهداف واشنطن”.

فاستراتيجية إخراج أمريكا من مستنقع الشرق الأوسط، وتقليص نفوذها، كما حصل في عهد ترامب، بعد الإعلان عن القضاء (الظاهريّ) على داعش، يعني ترك المجال مفتوحاً بشكل أو بآخر أمام جهاديين ومتطرفين وأنظمة دكتاتورية بالاستمرار، وتعزيز نفوذهم؛ والسماح لروسيا بالوصول للمتوسط وأقصى الغرب في سوريا، ولإيران بتمكين نفسها في شمال شرقها.

إلا إن الضغوط التي تتعرض لها إدارة “بايدن” بشأن إنهاء حروب أميركا إلى الأبد، وخاصة في أفغانستان، أكبر مما هي عليه في سوريا، لأن أفغانستان أقرب إلى أعداء أمريكا – إذا صح التعبير – وهي روسيا وإيران، أما في سوريا فالوضع مختلف.

فالمناورات الجيوسياسية للقوى الإقليمية والدولية، التي تسعى لبسط نفوذها في سوريا، تجعل من الوجود الأمريكي بمثابة ثقل استراتيجي لمعالجة الخلل في موازين القوى، مقابل النفوذ الروسي والايراني في المنطقة، الذي استثمر الانكفاء الأمريكي في ظل إدارتي “أوباما وترامب”، ليقابله صعود واضح لنفوذهما، ويصبحان الفاعل المؤثر في العديد من الملفات، والتي تمثّلت في التحالفات الصلبة – بعيداً عن الفلك الأمريكي – بينهما وبين النظام السوري والميليشيات الشيعية؛ وتوافقات الضرورة، كالتقارب مع الصين، بما يخدم مصالحهما الحيوية ويدعم رؤيتهما الاستراتيجية في الشرق الأوسط،. كل ذلك حدث نتيجة غضّ الطرف من قبل الإدارتين الأمريكيتين السابقتين، مما ساهم في تصاعد نفوذ الآخرين وميليشياتهم.

فماذا يترتب على الإدارة الجديدة “إدارة بايدن” من أعمال إذا اختارت البقاء في سوريا؟. وأي خيارات تمتلكها لتصحيح المسار؟، بما تفرض فيه واقعاً جديداً، يتحول إلى إنجاز لها في سوريا.

لتصحيح المسار الأمريكي، يتوجب على الإدارة الجديدة القيام بخطوات حقيقية؛ ولعب دور المؤثر الرئيسي في الحالة السورية، لإنهاء حالة الحرب والفوضى؛ وهذا ما يتركز بشكل رئيسي في اتجاهين:

الاتجاه نحو التمكين على الأرض

تأتي خطوة العودة الأمريكية إلى سوريا، في ظل إدارتها الجديدة، كأهم الخطوات من أجل تمكينها على الأرض، وهذا لن يتحقق بدون التعاون مع شركاء محليين؛ فهي تدرك إن فك أي ارتباط لها مع حلفائها على الأرض في سوريا، وبشكل خاص قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو تقليص مساعداتها ودعمها لهم، سيؤدي إلى خلق صعوبات أمام تصحيح المسار، أو تحقيق أي هدف، خاصة بعد تعافي علاقتها معهم.  والتي تدهورت إثر القرار الذي اتخذه الرئيس السابق ترامب بسحب قوات بلاده من مناطق شمال شرق سوريا قبل التوغل التركي، والذي علّق عليه بريت ماكغورك المبعوث السابق للتحالف الدولي لقتال تنظيم داعش، والمستشار الحالي في مجلس الأمن القومي الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا “إنها شكّلت انقلاباً كاملاً على السياسة المرسومة سابقاً”.

قوات سوريا الديمقراطية هي الحليف الأساسي لتنفيذ أي مهام؛ وتحقيق أية أهداف للإدارة الجديدة يكمن في استمرار دعمها وتمكينها لهم علناً. فإدارة “اوباما” أخفقت في البداية عندما ركزت على تقديم مساعدات انسانية، وعسكرية سرية، لإنشاء قوة معتدلة بعدد محدود وغير منظم، وانتهت بنتيجة غير مرضية، كونها كانت مشوّشة ومختلطة مع أهداف أخرى كالإطاحة بالنظام السوري، ولم تحقق إلا جزءاً يسيراً من أهدافها في محاربة “داعش”، وذلك عندما ركز على تأسيس حليف قوي على الأرض، وساهم في ثباته، ليؤسس قوّة منظمة بمختلف الأطياف، في شمال وشرق سوريا تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية”.

نجاح الإدارة الأمريكية الجديدة مع حلفائها قوات سوريا الديمقراطية، يستوجب قيامها بزيادة دعمها من خلال تقديم التجهيزات والمعدات العسكرية المتطورة لهم، وتقديم المعلومات الاستخباراتية، وتوفير الدعم الجوي، وعدم التفكير بالانسحاب في الوقت الحالي لأن أي انسحاب لأمريكا، يعني اكساب خصمها وخصم قوات سوريا الديمقراطية قوة أكبر، وخلق فراغ أمني يستغله المتطرفون وغيرهم. وهذا ما حذّر منه مسؤولون أمريكيون، بأن “أي انسحاب للقوات الأمريكية في الوقت الراهن سيشل قوات سوريا الديمقراطية، ويجبر مقاتليها على التراجع لمناطق ذات مساحة أصغر، ويجبرها على تسويات مع النظام السوري، وروسيا”.

الاتجاه نحو دور “الفاعل المؤثر” في المعادلة السورية

ما ورثه بايدن من سابقيه، هو تقلص النفوذ الأمريكي في سوريا، مما جعل من دور أمريكا غير مؤثر، ودون مغزى؛ وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية الأمريكي الجديد “أنتوني بلينكن” بأنه في الوقت الذي كان لدى الولايات المتحدة نفوذ في سوريا لتحقيق بعض النتائج الإيجابية، لسوء الحظ قامت إدارة ترامب بتحويل ذلك إلى انسحاب كامل”، كما انتقد “بلينكن” إدارة الرئيس أوباما، حين تغاضيها عن تخطي النظام السوري للخطوط الحمراء، ولم تتخذ أي خطوة تجاه ذلك، وهذا ما أنقص من هيبة الولايات المتحدة”.

فشل الإدارتين السابقتين، يكمن في تعاملهما مع القضية السورية على أنها قضية ثانوية، والتركيز على محاربة الإرهاب فقط، دون الالتفات لعملية الاستقرار، مما عكس فشل السياسة الخارجية الأمريكية في سوريا خلال فترة الرئيسين السابقين، فمواقفهما بتجنب أي حرب في سوريا وعدم إرسالهم قوات برية إليها، فتح المجال للروس والايرانيين بالتدخل والتمدد، وتوسيع مناطق نفوذهما، ودعم النظام السوري، دون التخوف من أي رد فعل أمريكي؛ وبالاستناد إلى شرعية زائفة.

انتبهت الإدارة الجديدة إلى هذه التجاوزات، لذلك قامت ببعض الخطوات التي تعيد لها ثقلها في المشهد السوري، وذلك بتصحيح مسارها وإعادة الأمور إلى نصابها من خلال تمكين نفوذها العسكري، حيث قامت بتنفيذ ضربة عسكرية في 25 فبراير 2021، هي الأقوى من نوعها، ضد بعض الميليشيات المدعومة إيرانياً، كرسالة مباشرة لإيران على استخدام القوة. ونشرت مدرعات “برادلي” القتالية في سوريا، كتحذير لروسيا بعدم العبث مع الأمريكيين، وهو ما صرّح به كينيث ماكنزي قائد القيادة المركزية الأميركية، عند زيارته في مايو 2021 لقائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي، وللقواعد الأمريكية المنتشرة في شمال وشرق سوريا، “بأنها خطّة مناسبة بسبب التواجد العسكري الروسي في المنطقة الشرقية” وتأكيداً لاستكمال مهمتهم العسكرية بثبات، ووجودهم، وقدرتهم على الظهور. بالإضافة إلى استمرار دعمهم للقوات المحلية “قسد” كمهمة رئيسية، كما ورد سابقاً في كلمة لـه أمام مؤتمر معهد الشرق الأوسط في فبراير 2021 أن الولايات المتحدة تعمل على “تمكين الشركاء المحليين على مقاتلة “داعش” بدون مساعدة من أحد”.

في السياق، نذكر ما أشارت إليه “ميليسا كاردونا” الملازم بالجيش الأمريكي، والمتواجدة في شرق الفرات، وفق صحيفة لوس انجلس تايمز أن مدفع هاوتزر M777 العملاق، في وضع الخمول، حيث لا يوجد الكثير من عناصر التنظيم لاستهدافهم، ومع ذلك فإن جنودنا يطلقون قذيفة بعيدة المدى كل أسبوعين على مناطق نائية، يُعتقد أنها تأوي مقاتلي التنظيم، فقط لتذكيرهم “أننا ما زلنا هنا”؛ فهذا الوجود يمثل أداة ضغط على تنظيم الدولة “داعش”، وعلى أي قوى أخرى.

كل ما سبق يؤكد أن أمريكا أرادت أن تقول للجميع بأنها لا زالت موجودة في سوريا، وهذا الوجود – بغض النظر عن العدد – سيشكّل تمكيناً لقدرات حلفائها على الأرض، إلا إن كل هذه الرسائل والتحركات تأتي في إطار التمكين وإعادة التموضع، كجزء من الخطة العسكرية، لكنها لن تكون كفيلة بتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى، ما لم تتزامن مع خطة سياسية لدعم الاستقرار في شمال وشرق سوريا.

مهمة الولايات المتحدة لم تنته بعدُ، ولن ينتهي الأمر بالقضاء على الإرهاب. في العراق مثلاً، وبعد إسقاطها لنظام صدام حسين، انقسمت السلطة وعائداتها بين كتل سياسية وعسكرية وعرقية مختلفة، وولّد سقوط النظام العراقي جماعات إرهابية أكثر خطورة على أمريكا، كالميليشيات الشيعية التي لا تتوقف عن مهاجمة قواعدها العسكرية إلى اليوم، فضرب النظام والتطرف لا يكفيان، إن لم يقترن ذلك بدعم الاستقرار السياسي.

لذا لدى الإدارة الأمريكية الجديدة في سوريا فرصة لدعم حلفائها سياسياً، والانطلاق نحو الاستقرار، فالمسألة لم تعد عسكرية فقط، وإنما عليها الانخراط سياسياً، لتقديم الدعم اللازم في المناطق التي حرروها من الإرهاب، والبقاء في الجوار معهم، حتى الوصول لحل سياسي.

يجب أن تتزامن العمليات العسكرية الأمريكية في سوريا مع عملية سياسية واسعة وعلى مختلف الصعد، فتأسيس حكومة فاعلة لقوات “قسد” في مناطق سيطرتها، والاعتراف بها، يضفي استقراراً أكثر، من شأنه أن يصحح مسار الإدارتين السابقتين، لضمان عدم قدرة داعش على تجنيد السكان المحليين، واستمرار الشركاء -“قسد”-على الأرض كقوة رادعة، وتعزيز نفوذها كمؤثر رئيسي، وطرف فاعل لحل الأزمة السورية، بعيداً عن مسارات التسوية الأحادية كاستانا، والانطلاق إلى مسارات بتسوية جديدة، تناسبها وشركاءها “قسد” في المقام الأول.

وفي الختام… يمكن القول إنه إذا كان الأمريكيون ينظرون الى المنطقة كخطر لا بد من تجنبه، فهذا لن يعزلهم عنها، فالإدارة الأمريكية حتى الآن، واجهت – ولا تزال – قرارات صعبة حيال مراجعاتها السياسية المتعلقة بمغادرة الشرق الأوسط، لذا لن تكون بمعزل عن العنف المستمر فيها، وستسمح بنمو الجماعات المعادية لها على اختلاف مشاربهم.

المهمة التي بدأ بها أوباما بمحاربة تنظيم داعش، وزعْم ترامب بأنها توجّت بالقضاء على الخلافة المزعومة، خلقت فوضى، وأزمة شائكة ومعقدة فيما بعد؛ ولتجنب بايدن ما يلاحق سابقيه من فشل في سوريا، لابد من تصحيحه لهذا المسار، للقيام بدور أفضل، لأن تعزيز الوجود العسكري هو ترسيخٌ لمناطق النفوذ، والدعم السياسي سيساهم في تغير التوازنات الخاصة بما تتناسب ومصلحة الولايات المتحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى