قضايا راهنة

لِكَسْرِ عزلتها.. تركيّا تبدأ بِحَرْقِ بعضِ أوراقها

إنّ اعتماد نهج القوّة ومعاداة السّلام، في مقابل الدبلوماسيّة، أمرٌ مُكْلِف للغاية. بالنسبة لأيّ طرفٍ يعتمده. لِما يَتْبعهُ من تنامي دائرة المقاطعة، واستفحال الأزمات الدبلوماسيّة، التي تعمّق من عُزلة معتمديها. وهذا ما ينطبق على تركيّا بقيادتها الحاليّة، ونهجها المُتّبع في سياستها الخارجيّة التي وضعتها في عُزلة مع شركائها. مثل تدخّلها في صراعات عسكريّة خارج حدودها، في سوريا، وليبيا التي أرسل إليها الأسلحة والمرتزقة السوريّين، وشنّ هجمات في العراق، وتورّطها بصراع جنوب القوقاز.

الغطرسة التي اتّسمتْ بها الحكومة التركيّة، منعتها من الجَّهر بأخطائها، أو من خلال التصريحات الرسميّة، عن أيّ تحرّك جديد مخالف لاستراتيجيّتها السابقة، واستنكار أيّ تصريح أو مبادرة لا تتوافق مع استراتيجيّاتها.

فعندما طالبتْ وزيرة الخارجيّة السويديّة “آن ليندي” في تشرين الأول/أكتوبر 2020″ تركيا بِسَحْب قوّاتها من سوريا، لأنها ساهمتْ في اضطهاد الكُرد، وحوّلت جزءً مهمّاً من هذا البلد إلى مركز لتجميع الجهاديين، ونقلتهم إلى بؤر توتّر أخرى، ردّ نظيرها التركيّ “جاويش أوغلو” بانفعاليّة قائلاً “إن أوروبا تُعامِل تركيّا بعجرفة، وتدعم الإرهابيّين الأكراد”. وكذلك الأمر عند محاولتها التقرُّب من مصر، أنكرتْ أية شروط مصريّة لتحسين العلاقات بين البلدين، وهو أيضاً ما دحضه وزير الخارجيّة المصريّ “سامح شكري” بأنّ الأقوال لا تكفي” وإنّما ترتبط بالأفعال والسياسات، والأفعال هي التي تُعيد أيّة علاقات إلى وضعها الطبيعيّ، في إشارة تؤكد شروط مصريّة بانتظار تطبيقها لتفعيل أيّ تقارب مع تركيّا.

يبدو أنّ الحزب الحاكم في تركيّا أدرك مؤخراً أنّ نهجه الحاليّ غيرُ مُجْدٍ، وأنّه زاد من عُزلته، وجعله يُغرِّد وحيداً، وباتَ الخِناق يضيق عليه من كُلّ حَدْب وصَوْب، فالمقاربة السياسيّة القائمة على التطرّف في فرض الإيديولوجيّا، والقوّة الخشنة، بدل الناعمة، باتتْ عقبة أمام مستقبله السياسيّ لذا بدأ بالتحرّك ببطء قائم على سلسلة من التنازلات لدفع ثمن أخطائه، وكبادرة حُسْن نيّة لِكَسْر هذه العُزلة بدأ بِحَرْقِ بعض أوراق الضغط لديه بالتدريج.

ورقة الإخوان المسلمين

لَم تُخْفِ أنقرة دعمها المُطْلَق لجماعة الإخوان المسلمين، الذين شكّلوا المحور الأساسيّ لإبراز نفوذها الإيديولوجيّ في المنطقة، وسَعَتْ للحفاظ على نفوذ لهم. إلا أن هذا المحور شكّل أزمة لها، وتسبّبَ في عُزلتها، فبدأتْ تفكِّر بالتنازل عن هذه الجماعة لمواجهة هذه العُزلة خاصة مع مصر، ففي آذار/مارس 2021 قال المتحدث باسم الرئاسة التركيّة “إبراهيم كالن” بإمكانيّة فَتْح صفحة جديدة للعلاقات مع مصر ودول الخليج التي دخلتْ مرحلة الجمود منذ عَزْل “محمد مرسي” عام 2013. عبر اتّخاذ عدِّة خطوات بدأتها بمرحلة كَمّ أفواه الإعلاميّين للتخفيف من انتقاد الرئيس المصريّ “عبدالفتاح السيسي” وتهديدهم بفرض عقوبات إذا خالفوا الأوامر، إبّان اجتماع عقده مسؤولون في الخارجيّة التركيّة مع رؤساء أشهر ثلاث قنوات إعلاميّة للإخوان المسلمين في تركيّا، وهي “الشرق، والوطن، ومكمّلين”، لمطالبتهم بتغيير سياستهم التحريريّة، بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة للتقرّب مع القاهرة، وهو ما أكّده “أيمن نور” مدير قناة الشرق أنّ السلطات التركيّة طلبتْ منهم، بأدب، تعديل سياستهم التحريريّة تجاه مصر، وهو ما نفّذوه باعتذارهم عن بثّ برنامج “شوارع مصر” التي كانت مخصّصة لمهاجمة سياسة الرئيس “السيسي”. وتأتي هذه الخطوة كتأكيد لتحوّل السياسة الإعلاميّة العدائيّة تجاه الحكومة المصريّة، لأشهر ثلاث قنوات إعلاميّة لجماعة الإخوان، بين ليلةٍ وضُحاها إلى تغطية لبرامج أخرى.

وفي خطوةٍ أخرى، بادرتْ تركيّا، بحسب تقارير، بتقييد حركة جماعة الإخوان المسلمين وتحويلاتهم الماليّة، وإعادة النّظر في تصاريح الإقامة للمُقيمين على أراضيها منذ عام 2013، فبدأتْ جماعتهم بالبحث عن بلدٍ يستوعبهم، وتوزيع قادتهم في أنحاء آسيا وأوروبا، فوِفْق، مصادر، عقدتْ جماعة الإخوان اجتماعات لها في لندن، ركزتْ فيها على التقارب التركيّ – المصريّ ومنعكساته على قياداتهم المُقيمة على الأراضي التركيّة، وما ينجُم عنه من تداعيات نتيجة هذه المصالحة، قد تؤدّي لتسليم بعضهم للحكومة المصريّة. وأعدّوا تصوّرات، بينها تأمين ملاذات آمنة لهم خارج تركيّا، وهو ما يؤكّد تحوّل تركيّا إلى طلب مغادرتهم لأراضيها، والإبقاء على آخرين، بشرط عدم ممارسة أيّ نشاط معادٍ لمصر.

ورقة ما بعد الإخوان المسلمين

لا يخفى أنّ التنازل التركيّ بِحَرْقِه لورقة الإخوان المسلمين، له تأثيره على باقي أوراق الضغط التي كانت تعتمدها، فتركيّا ترى أنّ مصلحتها أكبر من بعض الملفّات التي ترعاها. كما جاء على لسان وزير خارجيتها لوكالة “سبوتنيك” في تشرين الأول/أكتوبر 2021 حين قال إنّ المصالح المشتركة بينها وبين مصر أكبر من ملفّ الإخوان”، وهذا تأكيد لتبعات أخرى غير الإخوان المسلمين في مصر، وخاصة الملفّ السوريّ.

المأزق الذي تعيشه السياسة التركيّة باتَ كبيراً، بعد خروج العديد من دول “الربيع العربيّ” من صفّها كمصر وتونس وليبيا؛ وقد تحوّلت نحو الأزمة السوريّة كنوعٍ من المنفعة، لدعم تحرّكها السياسيّ، فمَيْل النظام التركيّ الاستبداديّ لاعتقاده بمعرفته كلّ ما هو جيد، وغطرسته دفعته للانخراط في الأزمة السوريّة، التي أوصلتْ بلاده الى حافّة كارثة حقيقيّة، نتيجة تدخّله المباشر، عسكريّاً، وتخبّطه سياسيّاً بتحالفاته غير المتوازنة، مما زاد من عزلته، فبحسب صحيفة “لوموند” الفرنسيّة فإنّ الرئيس التركيّ يواجه عزلة أكثر من أيّ وقت مضى، فهو يواجه حليفه الروسيّ، في الوقت الذي تدهورت علاقاته مع حلفائه الغربيّين، فاستراتيجيّته في سوريا فشلتْ بعد مقتل جنوده في إدلب”؛ لذا باتَ البحث عن أيّ معبر آمن لإنقاذ نفسه هو همه الأول؛ فأصبح يمارس استراتيجيّة براغماتيّة واضحة، ويُبْرِم اتفاقيّات على أصوات المدافع، بهدف إعادة تموضعه وتعزيز علاقته مع حلفاء النظام السوريّ، لكسر هذه العزلة، بعد ابتعاده من حلفائه الغربيّين. فَلَم يَعُد خافياً أنّ تركيّا باتتْ مستعدّة للتخلّي عمّا تبقّى من ورقة المعارضة السوريّة “المسلّحة والسياسيّة”، وحتى تمهيد الطريق للتنازل عن باقي المناطق الواقعة تحت سيطرتها، ورسم نهاية لهذه المعارضة “معتدلة ومتطرّفة”، فكلّ مشاركة تركيّة بأيّ مسار يتعلق بالملفّ السوريّ أصبح محكوماً عليها بالدوران في فَلَك داعميّ النظام السوريّ بعدما انكشف الضعف الجوهريّ لاستراتيجيّتها القائمة على دعم المعارضة السوريّة، وعجزها عن مواجهة النظام السوريّ وحلفائه، وعزلتها حتى من شركائها في “الناتو” لدعمها في سوريا.

وما يؤكد تبعات الملفّ المصريّ على الملفّ السوريّ، تلقى المقاتلين المدعومين من تركيا في ليبيا أوامر بالمغادرة. حيث أفادت تقارير بمغادرة حوالي 9 آلاف مقاتل، وإحدى هذه المجموعات تابعة لـ “فيلق الشام” إحدى أكبر فصائل المعارضة السوريّة المسلحة، ويضمّ تحالف جماعات إسلاميّة معارضة، المعروف بانتهاكاته لحياة المدنيّين السوريّين في المناطق التي يسيطر عليها، وكونه أحد الفصائل المفضّلة لدى النظام التركيّ، هذا يعني أنه لا يستثني أحداً من سلسلة تنازلاته اللاحقة، والمحطة التالية يُرَجَّح أن تكون سوريا لإنهاء هذا الملفّ، والتي قد تشهد إخلاء جنودها في ما تبقّى من مناطق سيطرتها في شماليّ سوريا لتسليمها للنظام السوريّ، التزاماً بتفاهمات تقوم على المنفعة، التي تقتضي بِحَرْق ورقة المعارضة السوريّة في الوقت الراهن.

في الختام.. لا بُدّ من القول إن تخلّي الحزب الحاكم في تركيّا عن جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من المرتزقة، لن يَحْدُث بشكلٍ جذريّ، فالسياسة الخارجيّة لها مبنيّة تجاه دعم هذه الجماعات التي يستثمرها في المنطقة كأوراق ضغط لزعزعة استقرار الحكومات، وتعزيز طموحاتها السياسيّة. فالتخلّي التامّ يعني انتحار النظام التركيّ الحاليّ، لكن الاستمرار معهم سُيبقي مصدر عُزلته، فمن اعتمد عليهم وشكّلوا مصدر قوة له رحلوا أمثال “محمد مرسي في مصر وعمر البشير في السودان وفايز السراج في ليبيا”، لذا فالاستراتيجيّة الشاملة لحكومة العدالة والتنمية في تركيّا لن تتغير، إنّما سيكون مجرّد تنازل جزئيّ، أو مؤقّت، وستعود هذه الاستراتيجيّة بمجرد أنْ تسمح الظروف بها مجدداً، وسيواصل دعم هكذا جماعات إذا ما استمرّ هذا الحزب في حُكْم تركيا، فالمرحلة الحالية استدعتْ حرق بعض أوراقه كبادرة لِكَسْر عزلته، وهي لا تتعلّق بالشخصيّات المؤثّرة لجماعة الإخوان أو المعارضة السوريّة وغيرهم من الشخصيّات التي أصبحت ذات صولات، والذين باتوا يملكون الأموال والعلاقات القويّة مع بعض أصحاب القرار في أنقرة، إنما ترتبط بالفئة المتوسّطة والضعيفة ممّن تبنّوا فكرة الإيديولوجيا الإخوانيّة والمتطرّفة، وغيرهم ممّن ساروا كمرتزقة خلف الأوهام التركيّة، فتنازل تركيّا عنهم مصحوب بكونهم أصبحوا منبوذين، ويحملون معهم جرائم داعميهم الذين تنازلوا عنهم وعن قياداتهم الذين تجرّدوا منهم وفرّوا، وقد أُغلقتْ جميع الأبواب في وجوههم، بالإضافة إلى افتقارهم للوثائق التي تمنحهم حريّة التنقّل والسفر، فلعبة المصالح تركتهم في أزمة كبيرة. وجعلتهم منبوذين ومكروهين أينما اتجهوا، ومصدراً لزعزعة الاستقرار في نظر أيّ بلد اخر.

إذاً إنّ ما يحصل من تراجع النظام التركيّ عن العديد من مواقفه السابقة وتنازله عن حلفائه، إنّما يشير إلى ضعف فعاليته كشريك حقيقيّ وموثوق مهما طالَ به الزمن، الأمر الذي زعزع ثِقة الجماعات التي كانت تعمل تحت إمْرَتِه ممّا قد يُشَكِّل معضلةً له فيما لو دعتْ استراتيجيّته إلى العودة لدعم هذه الجماعات.

زر الذهاب إلى الأعلى