قضايا راهنة

روسيا ونهج المسار المزدوج مع كُرد سوريا

مركز الفرات للدراسات

عند قراءة الدور والموقف الروسي في أي منطقة نزاع كائنة ضمن نطاق مصالح روسيا الحيوية، يبقى الهاجس الوحيد لها هو احتواء الموقف؛ والبحث عن الاستقرار كأولوية استراتيجية؛ فتعمل على  الحفاظ على الأنظمة التي ترعى مصالحها في ذلك المجال؛ ونظراً لأهمية سوريا في الفلك الجيوسياسي الروسي، وعلاقتها التي اتصفت بالديمومة؛ منذ أيام الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، والتي تجاوزت حدود الصداقة التقليدية، إلى استراتيجية التعاون والتنسيق المشترك؛ ومع تعقّد الأزمة السورية الحالية، بدأت موسكو البحث عن حل سياسي، يضمن لها وجوداً استراتيجياً طويل الأمد، ويخلصها من التهديدات التي تواجه مصالحها، بإيجاد موطئ قدم لها على المياه الدافئة. فأصبح تأهيل النظام الحالي؛ وتسويقه، الهاجس الروسي الأنسب للاستقرار، وتشكيل منصات للتقارب بينها والمعارضة، فساعدت إلى حد كبير في الترويج لحليفه “النظام السوري” وإكسابه المزيد من النفوذ على حساب الطرف المعارض.

أما في شمال وشرق سوريا؛ فقد استغلت موسكو العمليات العسكرية التركية، وقرار الانسحاب الأمريكي المفاجئ، لإحداث تحول نوعي في العلاقات بين الكُرد والنظام السوري، والترويج لاهتمامها بالقضية الكُردية. ففي كثير من المناسبات بدأت روسيا بإلقاء اللوم على أطراف أخرى بتعقيد القضية الكُردية، وخاصة الولايات المتحدة، وبالمقابل زادت نشاطها الدبلوماسي للحفاظ على علاقتها مع الكُرد في سوريا، وتقديم نفسها كلاعب مؤثر وقادر على دعم حقوقهم، حيث حاولت ضم الكُرد إلى العملية الدستورية، والحوار مع دمشق، وهي دبلوماسية تقوم على أساس احتواء الصراع، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، إضافة إلى محاولاتها لضم الكُرد للمنصات التي ترعاها، كــــــ “منصة القاهرة، ومنصة موسكو”، ودورها للوساطة بينهم والحكومة السورية، لفرض صيغة مصالحة، ترسم من خلالها خارطة طريق؛ تُقرّب كافة الأطراف اليها، وتستفيد قدر الإمكان من دعم أكبر عدد من الجماعات العرقية في سورية، فقد ساعدت جهودها في جمع ممثلين من العشائر والأطياف السورية في مؤتمر سوتشي، لتضفي مصداقية على مزاعمها في صياغة دستور يشمل كافة تلك الأطياف، بما فيهم الكرد مستغلة القبول الأميركي، لإشراكهم في أي حوار سياسي، لتبدو موسكو هي الطرف الأساسي الذي يتعامل مع القضية الكُردية بجدية، بهدف جلب الكرد إلى جانبها على غرار علاقة المجلس الوطني الكُردي مع تركيا في المجال السياسي. وتقديم نفسها كوسيط مستقل، في مسعى منها لتحقيق التوازن بين مصالح القوى الإقليمية؛ لكن بعض الحقائق تشير إلى أن السلوك الذي تتبعه موسكو للوصول إلى تسويات في مناطق الكُرد، يُظهر عدم رضاها عن إدارة هذه المناطق، فهي ترى في وجودهم معضلة كبيرة، كونها واجهت معارضة لسياستها من قبل الكرد في أكثر من مناسبة، لأنه بدا معروفاً لدى الجميع أن موسكو، تبرم الاتفاقيات التي توفر فيها الفرص لنفسها، فالسيناريو الروسي حول التفاوض بين المعارضة والنظام، انتهى بإقصاء الأول؛ وتمكين نفوذ الأخير، وهو السيناريو نفسه التي تحاول فرضه على الكُرد.

كل ما سبق يكشف “نهج المسار المزدوج” لموسكو مع كُرد سوريا، المتضمن “مسار دبلوماسي وسياسي عبر الدعوة إلى مفاوضات خارج إطار الأمم المتحدة؛ ووفق شروط تناسبها، وتجعلها تنفرد بالحل لوحدها. ومسار آخر يقوم على آلية الضغط القاسي والموجع؛ مستغلةً الظروف لفرض واقع جديد؛ يناسب استراتيجيتها؛ إلا إن هذا النهج كان له تداعيات على الطرفين نستعرضها في ما يلي:

منحى سلبي لمكاسب الكُرد في بداية مسار التفاوض مع الروس

ارتبط الكُرد في سوريا؛ بعلاقات مختلفة مع القوى الإقليمية والدولية، وحتى المحلية، فكان لكل علاقة منها نتائج مختلفة من حيث الضرر والفائدة، سواءً مع الولايات المتحدة أو الدول العربية، أو روسيا. إلا إن العلاقة مع الأخير كانت تأخذ منحىً سلبياً دائماً. فمنذ البداية؛ عندما نشرت موسكو قواتها في مدينة “عفرين” في مارس 2017، بحجة منع أي صدام بين الكُرد والقوات التركية، وميليشياتها من الجيش السوري الحر، فقد انتهت إلى أكثر الأحداث مأساوية بالنسبة للكرد في سوريا، عندما سحبت قواتها من تلك المنطقة؛ بالتنسيق مع تركيا تمهيداً لغزوها، الأمر الذي نتج عنه احتلال يستمر حتى الآن، مع تزايد في عمليات الخطف والقتل والتهجير، وتشريد الآلاف من سكان تلك المنطقة المدنيين، لدرجة وصلت إلى حالة صعبة، للتعامل مع المتورطين في انتهاكات حقوق الانسان. وقد استغلت روسيا هذا المسار؛ لتظهر جدية تعاونها مع تركيا حتى النهاية؛ عند تسليمها عفرين، بهدف تهيئة محادثات بين النظام السوري وتركيا رغم تخاصمهما، مستغلة القضية الكُردية للتقارب والتعاون بين الطرفين عبر منصات مستقلة.

رهان كُردي خاسر على شريك غير موثوق

لم يسجل التاريخ أي عداء بين روسيا والكُرد، لكن مع نهج المسار الروسي تجاه الكُرد في سوريا، يمكن القول إن الروس ليسوا أصدقاء أيضاً، أو شركاء جديرين بالثقة، فهم لم تقدموا أية مساعدة للكُرد ضد داعش؛ حتى قبل تشكل التحالف الدولي لمحاربة التنظيم. كما لم تقدم موسكو أية إدانة فعلية عند الغزو التركي للمناطق الكردية، بل على العكس فقد وهبت روسيا تلك المناطق لتركيا؛ بهدف تأجيج الموقف، والضغط على الكُرد لقبول مسارها؛ وفق شروط قاسية وموجعة بحقهم. إذا ما قورن بالموقف المفاجئ للولايات المتحدة تجاه الكُرد، عندما سمحت أيضاً لتركيا بغزو “رأس العين / سري كانييه” و”تل ابيض / كري سبيه”، لكن بالمقابل شهد الكُرد وقوف المؤسسات الأمريكية الأخرى إلى جانبهم، ورفض الغزو التركي، وإدانة هذا العدوان، سواءً من الديمقراطيين أو الجمهوريين، وتصويتهم لفرض عقوبات على تركيا، الأمر الذي أثر في قرار الانسحاب، وأدى إلى التراجع عنه، بالإضافة إلى تقديم دعم لوجستي وعسكري لهم، والتحالف مع الكُرد ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، والعمل على تمكين “التوافق الكُردي الكُردي” تحت رعايتها.

وبالعودة إلى هذه العوامل؛ فإن رهان الكُرد على الروس في عقد أية صفقات سريعة مع دمشق برعايتها، سيبدو خاسراً بشكله الحالي، فتصريحات المسؤولين الروس بشأن الحوار مع دمشق؛ مجرد إعلان وضرب من التأليف لمستقبل مثالي لا وجود له، فرغم حضورها الميداني في شمال وشرق سوريا، إلا إن روسيا لم تستطع تحقيق أي إنجاز حتى الآن، كونها تعاني من المشاحنات الأمريكية لقواتها في المنطقة. إضافة إلى أن الانتقال إلى الفلك الروسي، من قبل الكرد؛ بات كتعليق الأحلام على حبال وهمية، فروسيا محاصرة بعقوبات مالية، وشملها قانون قيصر؛ أسوة بالبقية، لذلك فإن الصورة المتخيلة للرهان على الحماية الروسية؛ والدور الروسي لضمان الحقوق، باتت غير واقعية، لأنها تفتقد للمصداقية بالدرجة الأولى.

رهان روسي خاسر على نهجها المزدوج مع الكُرد

لا تستطيع موسكو صرف النظر عن الأحداث التي تجري في شمال وشرق سوريا، فتداعياتها السلبية تطالها؛ وتطال حليفها النظام السوري؛ ولحماية ما تحقق لها من مكاسب، فهي تسعى للتدخل في شمال وشرق سوريا، فرغم سماحها لتركيا بغزو مناطق الكُرد واستفزازهم، إلا إنها أيقنت أن هذه العمليات أضرّت بالمصالح الروسية؛ بدلاً من المنفعة، فالهجمات العسكرية التركية لمناطق الكُرد؛ لم تصب في مصلحتها، ولم تنته بسيطرة النظام السوري عليها، وإنما انتهت بسيطرة الجماعات الجهادية، وبات من الصعب التوافق أو التفاوض معهم، كون الكلمة لا تعود لجهة أو لجماعة محددة؛ لذا فإن سقوط أية منطقة أخرى من مناطق الإدارة الذاتية، بالنسبة لروسيا هو غياب الصوت الواحد، مما يصعّب الأمر عليها في إيجاد مخرج ما، كما يحصل في إدلب حالياً، فالمواقف غير المتوافقة فيها، تجعل أي صفقة غير قابلة للإنجاز.

 إذاً الوضع في مناطق الإدارة الذاتية مختلف عن باقي المناطق، كونهم المجموعة الأكثر تنظيماً، فباحتلال مناطقهم من قبل أية قوة معارضة أخرى يعني خروج تلك المنطقة من مظلة جماعة منظمة وموحدة، إلى مظلة جماعة أخرى تُحكَم بعلاقات شخصية، وآراء متعددة، وتبتعد عن أي صيغة موحدة، بالإضافة إلى خلفيات بعضهم الإرهابية. فإذا كانت التكلفة باهظة على الكُرد، إذا ما حصل أي غزو محتمل لمناطقهم، فستكون باهظة أكثر على روسيا والنظام السوري، لصعوبة التفاوض أو التوافق مع الجماعات الأخرى التي قد تحتل مناطقهم.

والآن يجد الروس أنفسهم في موقف حرج، نتيجة رهانهم على العمليات العسكرية التركية في سوريا، الأمر الذي يُعقد عملية التسوية بشكل أكبر، ويجعل مهمتها صعبة للحفاظ على مصالحها؛ والتكيف مع مصالح أطراف أخرى في هذه المناطق. فالتدخل التركي في شمال وشرق سوريا شكّل انتكاسة لتلك المصالح.

فالتحدي الأكبر الذي تواجهه موسكو أمام تركيا، كون الأخيرة تدير علاقات مع جماعات متطرفة، بما فيها هيئة تحرير الشام في ادلب، وفصائل ما يسمى “الجيش الوطني السوري”، وتجاهلها لسلوك تلك الجماعات في المناطق التي سيطرت عليها تركيا؛ إثر عمليتي “غصن الزيتون” و”نبع السلام”، فالكل أصبح مدركاً رغبة أنقرة في تأسيس منطقة يديرها جهاديون، يعملون كأدوات لدى الحكومة التركية، للتأثير على الأحداث الإقليمية، فزيادة أي نفوذ جديد لها في سوريا؛ يعني زيادة نفوذ تلك الجماعات، والعكس صحيح، وبذلك تحويل المكان إلى أرض خصبة للإسلام المتطرف.

ختاما،،، يمكن القول إن جُلَّ ما تسعى إليه موسكو، في مسارها المزدوج؛ هو الضغط على الكرد، لعقد اتفاق مع الحكومة السورية، أو إجراء مفاوضات للوصول إلى تفاهمات محددة؛ والتي حتى الآن لم تتناسب مع تطلعات كُرد سوريا، لعدم جديتها، فالانتهاكات لا تزال مستمرة، وآلاف الكُرد لا يزالون مهجرين ومخطوفين؛ وهو نهج خاسر، انعكست تداعياته على روسيا أيضاً؛ لذا فالسبيل الوحيد لتعديل مسار هذا النهج هو السعي لتحقيق مصلحة مشتركة تقوم على أساس:

  • الضغط بشكل جدي على النظام السوري؛ للتوصل إلى اتفاق مع الكُرد، وفق شروط تناسب تطلعات الأخير، لتجنب أي مستقبل دموي في المنطقة.
  • تهيئة ظروف مناسبة لمشاركة الكُرد بقوة في أي عملية سياسية، فالموقف الروسي لايزال مربكاً للكرد، فهو يسعى نحو موافقة تركيا قبلهم، لذا فإن تفويت أية ظروف مناسبة يعني فقدان الكثير من حقوقهم وتقديم التنازلات.
  • على روسيا تبيان حسن نيتها كطرف ضامن يمكن التعويل عليه من قبل الكرد، خاصة حيال دورها تجاه ما يحصل الآن من انتهاكات واستفزازات للمناطق الكُردية.
زر الذهاب إلى الأعلى