قضايا راهنة

جو بايدن… عودة السياسات الأمريكية التقليدية إلى الواجهة

باتت انتخابات الرئاسة الأمريكية، المقرر أجراؤها، يوم الثلاثاء في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2020، بين مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، واليميني الشعبوي دونالد ترامب، الحدث الرئيس في وسائل الإعلام الدولية، لما يحمله من تأثير على النسق الدولي، وجغرافية الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وتتضارب نتائج مراكز الاستطلاع الأمريكية، بين مؤكدة لانتصار بايدن، وأخرى مشجعة لحظوظ ترامب في الفوز.

الانقسام السياسي في أمريكا

انتهت حقبة الحرب التقليدية بين الحزبين الكبيرين، “الجمهوري” و”الديمقراطي” في الولايات المتحدة الأمريكية، ودخل الصراع السياسي إلى مرحلة جديدة مع صعود اليمين عالمياً. ويصف المفكر الغربي سلافوي جيجك، هذه المعضلة كما يلي: “تحوِّل الولايات المتحدة نفسها من نظام الحزبين إلى نظام أربعة أحزاب: جمهوريو المؤسسة، ديمقراطيو المؤسسة، اليمين البديل الشعبوي والديمقراطيون الاشتراكيون” [1]. يدخل ترامب في الصراع الانتخابي كمرشح “جمهوري”، ولكنه لا يمت بأي صلة بميراث الرؤساء الجمهوريين، وعلى العكس يمكننا اعتبار ترامب نتيجة تنامي موجة “صعود اليمين العالمي”، وخير تمثيل “لما بعد الحداثة السياسية” التي ترفض “العقل الكلي” والمؤسساتية السياسية. وفي وقت سابق، أي قبل عدة أشهر، كان الصراع بين الديمقراطي المؤسساتي جو بايدن، والديمقراطي الاشتراكي بيرني ساندرز الذي عقد عليه الكثير من الآمال لتغيير جذري للسياسة الأمريكية، في أوجه.

انتهى الصراع بين قطبي الحزب الديمقراطي، ساندرز الاشتراكي، وبايدن الوسطي، بالاتفاق على ترشيح بايدن كممثل للحزب في انتخابات الرئاسة في 6 يوينو/حزيران الماضي، لدعم حظوظ الحزب الديمقراطي في الانتصار أمام ترامب. وعلى الأرجح؛ في حال فوز جو بايدن بالرئاسة، سيكون لبيرني ساندرز صوت في الفريق الجديد للإدارة الأمريكية.

فشل ترامب؛ رجل الصفقات

يصف عالم اللسانيات والفيلسوف الأمريكي الشهير، نعوم تشومسكي، شخصية ترامب، بأنه ظاهرة تتمحور أيديولوجيته حول حرفين ” Meأنا” وكل سياسته مبنية على ذلك. كان لصعود ظاهرة ترامب، تأثيراً كبيراً على السياسة العالمية، التي أضحت “سائلة” – استخداماً لتعبير عالم الاجتماع الكبير زيجمونت باومان – وخارجة عن السياق المألوف. أصبحت المؤسساتية ضحلة، ودخلت الصفقات التجارية والسياسية مع صعود ترامب في الحيز السياسي الدولي. كان شعار “أمريكا أولاً” ضرباً من ضروب القومية السائلة، الخارجة عن الزمكان، ويمكننا اعتباره “إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء”. ولكن، لم تنجح سياسات ترامب في تحقيق الغاية الأسمى التي كانت وراء صعوده إلى سدة الحكم في البيت الأبيض. ألا وهي إيقاف انحسار الهيمنة الأمريكية، وجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. هذا ما فشل فيه ترامب، حيث دفعت سياسته الفوضوية في الشرق الأوسط، إلى صعود نفوذ روسيا وتركيا (التي ستسبب مشاكل جمة للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة)، وازدياد الأزمات في المنطقة. نجح ترامب في تضييق الخناق على إيران، ولكن، لم يحقق ذلك النتائج المرجوة إلى الآن.

فشل الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، في أبرز القضايا التي عصفت بالولايات المتحدة الأمريكية، في الآونة الأخيرة. ويمكننا إيجاز ذلك في ثلاث قضايا:

  1. أزمة فايروس كورونا، حيث تسجل الولايات المتحدة أكثر منطقة من حيث عدد الإصابات بالفيروس في العالم حسب موقع “World Meters”، ولم تستطع إدارة ترامب التعامل مع الأزمة؛ رغم ادعاءاته الجوفاء. إذ، وعلى حد تعبير بيرني ساندرز، تحتاج المؤسسة الصحية في أمريكا إلى تغيير راديكالي وإتاحة التأمين الصحي لكافة شرائح المجتمع الأمريكي، وهذا ما لم ترد أن تراه إدارة ترامب.
  2. أزمة مقتل المدني الأسود “جورج فلويد”، الذي أدى إلى موجة غضب عارمة في الولايات المتحدة، والتي عوملت بعنجهية مفرطة من قِبل ترامب وإدارته. تعامل ترامب مع قضية العنصرية، من منظور فرض قوانين الطوارئ وكم الأفواه واتهام اليسار بإثارة الفوضى وسماهم “بالإرهاب المحلي” مستحضراً الخطابات والسرديات الفاشية التقليدية، واستخدام اللاهوت الديني، في مشهد رفع فيه ترامب للإنجيل، وكأنه هتلر عصره.
  3. وتمثلت الضربة القاضية لترامب، بنشر جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، كتابه “الغرفة التي شهدت الأحداث”، التي يعري فيه بولتون سياسات ترامب الخاطئة وجهله بالقضايا العالمية.

تشير كل المعطيات، بأن حظوظ ترامب في الانتخابات المقبلة، ضئيلة جداً. ويدعم العشرات من الجمهوريين، الذين سبق وأن خدموا جميعاً تحت قيادة رؤساء جمهوريين سابقين مثل رونالد ريجان وجورج بوش الأب وجورج بوش الابن، وبعض مسؤولي الأمن القومي، جو بايدن، ليس لأنه الأمثل، ولكن ترامب بات يشكل خطر غير قابل للسيطرة عليه.

الابن البار لمؤسسة الحكم الأمريكية

عمل جوزيف روبينيت “جو” بايدن لسنوات طويلة، قريباً من مؤسسات الحكم في واشنطن. انتخب لمجلس مقاطعة نيو كاسل التابعة لولاية أوكلاهوما، في عام 1970، وانتخب أول مرة لمجلس الشيوخ في عام 1972، وأصبح سادس أصغر سيناتور في تاريخ الولايات المتحدة وأمضى ما يقارب الـ36 عاماً في الكونغرس، وثم أصبح نائب الرئيس الأمريكي السابع والأربعين السابق، باراك أوباما لثماني سنوات. حاول بايدن الترشح عن الحزب الديمقراطي للرئاسة في عام 1988 وفي عام 2008، وفشل في كلتا المرتين. ويُعرف بايدن، بالوسط السياسي كبيروقراطي تقليدي، وأستاذ قانون عمل كثيراً في اللجان القضائية.

  وصل بايدن إلى مجلس الشيوخ في حملة تحت شعار الاعتراض على حرب فيتنام، وصار رئيس لجنة العلاقات الخارجية، هذا المنصب البارز في المنظومة الأميركية الذي سمح له بنسج علاقة مع باراك أوباما حين وصل إلى مجلس الشيوخ عام 2005. عارض بايدن حرب الخليج الأولى عام 1991 لكنه كان مؤيداً لتدخّل الحلف الأطلسي العسكري في الحرب البوسنية عامي 1994 – 1995. كما صوّت لصالح إعطاء تفويض للرئيس الأسبق جورج بوش الابن لغزو العراق عام 2003.

تدرج بايدن في مناصب الإدارة الأمريكية، يعطيه الأفضلية في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية. ولكن؛ الأهم من ذلك، هو الفريق الذي سيحكم البيت الأبيض، فيما لو فاز بايدن. كل المعطيات، تشير بأن، سيكون لفريق بيرني ساندرز، حضور في الإدارة الأمريكية الجديدة. حيث عقدت اتفاقية سياسية بين طرفي الحزب الديمقراطي، وعليه انسحب ساندرز من الانتخابات لدفع قاعدته الشعبية لدعم بادين. ويرى مما سبق، أن الإدارة الأمريكية الجديدة، في حال فوز بادين، ستكون أكثر انفتاحاً على حل القضايا العالقة عالمياً. وتتصدر قضايا البيئة والمرأة، أهم هذه القضايا. لذا، فوز بايدن، سيعني عودة السياسات التقليدية الأمريكية إلى الواجهة، التي تعني سياسة أكثر استقراراً في هذه المرحلة.

وسطي مسيحي

يقع جو بايدن، على المستوى الأيديولوجي، في الوسط، بين اليمين المحافظ الشعبوي البديل، الذي يمثله ترامب، والاشتراكية الديمقراطية لبيرني ساندرز. ويميلُ بايدن، كونه يأتي من جذور كاثوليكية إيرلندية، إلى الديمقراطية المسيحية الوسطية. وبأخذ حياته السياسية البيروقراطية، التي تؤمن بالليبرالية التقليدية، بعين الاعتبار، تكتمل اللوحة على أكمل وجه. بايدن، ليس ليبرالي تكنوقراطي على شاكلة هيلاري كلينتون، ولكنه الابن البار لتلك المؤسسات، كما ذكرنا آنفاً. يقول بايدن في إحدى تغريداته على “تويتر” في /4/ تموز، إن “التاريخ الأميركي ليس خرافة. كانت المعركة من أجل روح هذه الأمة بمثابة شد وجذب ثابتين لأكثر من 240 عاماً. ولكنها معركة نستطيع أن نكسبها معاً” [2]. يريد بايدن، العودة إلى مسار “السياسات التقليدية” للولايات المتحدة الأمريكية. وسينم عن ذلك، إعادة تأسيس العلاقات المؤسساتية الأمريكية، مع العالم.

برنامج بايدن الانتخابي

اتهم الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، أكثر من مرة منافسه الديمقراطي جو بادين، بأنه “دمية بيد اليسار الراديكالي”، لممارسة التضليل الإعلامي. وعلى العكس من ذلك، بايدن، لا يدّعي بأنه يريد حل المشاكل جذرياً بالمؤسسة السياسية الأمريكية، وإن غرّد قبل فترة في /6/ تموز، قائلاً: “سنتفوق على دونالد ترامب. وعندما نفعل ذلك، لن نعيد بناء هذه الأمة فحسب، بل سنعمل على تحويلها”. أثارت هذه التغريدة جدلاً واسعاً بالإعلام الأمريكي، وكان فريق ترامب قد سبب هذا الجدل الواسع، واتهموا بايدن، بأنه يريد تسليم البيت الأبيض لليسار في حال فوزه. بالطبع، وكما يقول الفيلسوف سلافوي جيجيك: “جو بايدن، أبعد من يكون مثالياً ولكنه أفضل من ترامب” [3].

        لن تتغير سياسات بايدن، بخصوص دعم المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه قد يعيد توزيع القوى في العالم والشرق الأوسط. سيعتمد بايدن – بعكس ترامب- على المؤسساتية في النظام الدولي، وسيدعم المنظمات غير الحكومية والشركات العالمية الكبرى.

        يدعم المرشح الديمقراطي، جو بايدن، الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبرها “العمود الفقري” للاقتصاد الوطني في أمريكا. ويبني بايدن، كافة سياساته الداخلية بناء على ذلك. اتخذ بايدن جملة “إعادة البناء بشكل أفضل”، كشعار لحملته الداخلية، ووعد برفع الحد الأدنى للأجور. وفي وقت سابق، قال بايدن إن “تحويل قطاع الكهرباء الأميركي لإنتاج الطاقة من دون أن ينجم عنه تلوث كربون … سيكون أكبر محفز لخلق وظائف وللتنافسية الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين، لهذا السبب سنصل إلى قطاع كهرباء خال من تلوث الكربون بحلول عام 2035 [4]”.

وعد بادين بأنه سينضم مجدداً إلى اتفاقية باريس للمناخ، التي انسحب منها ترامب في 2017، ويقوم بتمويل بناء 1,5 مليون من المنازل الجديدة الموفرة للطاقة، ويطور معايير الأجهزة ويجعل الطاقة المتجددة أولوية.

        أما فيما يخص الرعاية الصحية، فقال بايدن، بأنه سيدعم خيار التأمين الصحي للجميع، وسيعود لمنظمة الصحة العالمية، بعدما أعلن ترامب انسحابه منها على خلفية الصراع الصيني – الأمريكي بخصوص فيروس كورونا.

        تتركز حملة، المرشحين الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطي جو بايدن، على القضايا الداخلية، لكسب الرأي العام الداخلي. حيث سببت قضيتا كورونا والعنصرية في أمريكا، أزمة كبيرة لم تعالج بشكل جيد من قبل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب.

السياسة الخارجية في الشرق الأوسط

دعم ترامب، حكم الرجل الواحد في الشرق الأوسط، وأثنى على الدكتاتوريات القائمة. وعلى سبيل المثال، أصبح لأردوغان، الرئيس التركي الحالي قوة كبيرة داخل تركيا وخارجها. حيث كان لدعم ترامب اللامحدود، دوراً في ذلك. وبات يُعرف، بأن توجهات النظام العالمي، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، بتوجهات الإدارة الأمريكية.

ستدخل القوة الناعمة المدموجة بالعنف المباشر، حيز التنفيذ في حال فوز المرشح الديمقراطي، جو بايدن. حيث يقول “بوصفي رئيساً، سوف أرفع مستوى الدبلوماسية باعتبارها الأداة الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية. وسأعيد الاستثمار في السلك الدبلوماسي، الذي أفرغته الإدارة السابقة من محتواه، وأعيد الدبلوماسية الأميركية إلى أيدي خبراء حقيقيين” [5]. لن يستطيع بايدن، التراجع عن كل خطوات ترامب المحققة، حال فوزه، ولكنه سيحاول -من خلال القوة الناعمة- إعادة التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط، وإدارة الأزمة على أكمل وجه.

تُشكل إسرائيل النواة لسياسات القوى المهيمنة في الشرق الأوسط، من بريطانيا “العظمى” إلى “الإمبراطورية” الأمريكية. وأدلى بايدن، في عام 1986 في قاعة مجلس الشيوخ، قائلاً: “لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترع إسرائيل لحماية مصالحنا في المنطقة” [6]. تقع إسرائيل، في مركز الاهتمام في حملة بايدن، مثل أي رئيس أمريكي آخر. ويُتوقع من بايدن، أن يستمر بالدعم اللامحدود لإسرائيل، مع طرح الخيارات الدبلوماسية، مثل حل الدولتين في الأجندة. تتعارض نظرة بايدن مع نتانياهو -الذي دعمه ترامب بشكل هائل- بخصوص حل القضية الإسرائيلية – الفلسطينية، حيث يرفض بايدن، سياسات الضم، ويشجع الحوار الدبلوماسي وحل الدولتين.

أما بخصوص إيران، من المحتمل أن يحاول بايدن الوصول إلى اتفاق أقوى مع إيران، لاسيما تمارس إدارة الرئيس الأمريكي الحالي سياسة “الضغوط القصوى” على النظام الإيراني. وصرح عن ذلك جو بايدن، قائلاً “محاسبة الحكومة الإيرانية والانضمام إلى اتفاق دبلوماسي لمنع إيران المسلحة نووياً، إذا عادت إيران إلى الامتثال لخطة العمل المشتركة الشاملة، باستخدام الالتزام المتجدد بالدبلوماسية للعمل مع حلفائنا لتعزيز وتوسيع الاتفاق الإيراني، والدفع ضد أفعال إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار” [7]. وبحسب المعطيات الحالية، لن يعود بايدن، لسياسات أوباما الناعمة مع إيران، حيث لا أحد يقبل ذلك مؤسسات الحكم الأمريكية، بل من المرجّح أن يحاول الوصول إلى اتفاق دبلوماسي، يقلص النفوذ الإيراني في المنطقة، وفي حال عدم إذعان إيران لذلك، ستستمر سياسات “الضغوط القصوى” على إيران.

وفيما يخص، العلاقات الأمريكية – الخليجية، يتضح أن لا شيء سيتغير بشكل جذري مع بايدن، حيث تكمن المصلحة الأمريكية في الاستمرار بعلاقة منسجمة مع دول الخليج، التي تعتبر حلفاء واشنطن الأكبر في المنطقة العربية، وأكبر عملاء لشراء الأسلحة والخدمات العسكرية الأمريكية.

مقاربة بايدن لسوريا وللإدارة الذاتية

تعتبر المقاربة الأمريكية للقضية الكردية، استمراراً للسياسات البريطانية في المنطقة. ووضع الحجر الأساس لهذه السياسات في مؤتمر القاهرة (1920) بقيادة وينستون تشرتشل، الذي كان وزيراً للمستعمرات البريطانية في الحكومة آنذاك. حيث كان “أحدُ أهمِّ تشخيصاتِ ذلك المؤتمر، هو الإبقاءُ على القضيةِ الكرديةِ في الأجندة للتمكنِ من تأمينِ سَرَيانِ وبسطِ الهيمنةِ الرأسماليةِ في الشرقِ الأوسط” [8]. وأثبتت فضيحة “ووترغيت” الأمريكية في سبعينيات القرن المنصرم، أن التعامل الأمريكي مع الكرد، مبني على أساس اللاحل واستخدامهم كورقة، لتمرير أجنداتهم في المنطقة. وتغيرت ملامح هذه السياسات، مع أزمة الأوسط الأخيرة التي بدأت عام 2011.

اعتمدت السياسية الأمريكية في سوريا، على دعم المجموعات المحلية، لمحاربة تنظيم “داعش” وتغيير نظام الحكم وتمرير أجنداتها، بأقل تكلفة ممكنة. لذا، دعمت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، الكرد ومكونات المنطقة، منذ معركة كوباني التاريخية عام 2014، ضد أعتى تنظيم إرهابي “داعش” في القرن الواحد والعشرين، وتشكّلت نتيجة لذلك قوات سوريا الديمقراطية من كافة مكونات المنطقة، وقضت على “داعش” عسكرياً في معقلها الأخير في الباغوز في 23 آذار عام 2019. وبعد فوز ترامب في انتخابات 2017، وتعيين جيمس جيفري مبعوثاً في سوريا، توجهت الاستراتيجية الأمريكية نحو دعم تركيا مقابل إضعاف إيران في سوريا، وإعادة تركيا لمسارها المرسوم لها منذ أعوام 1952. ونتيجة لذلك، احتلت تركيا وفصائلها المتشددة، مدينة عفرين الكردية السورية عام 2018، ضمن ما يسمى عملية غصن الزيتون بالاتفاق مع الروس، ومدينتي سري كانيه وتل أبيض عام 2019 ضمن ما يسمى عملية نبع السلام، بالاتفاق والتنسيق المباشر مع الأمريكان. وفضح كتاب جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، سياسات إدارة ترامب ودعمه المباشر للغزو التركي، الذي أضعف الحضور السياسي الأمريكي في الملف السوري، وخدم روسيا وإيران. والحال هذه، كيف ستتعامل إدارة جو بادين، مع هذا الملف الشائك؟

انتقد بايدن قرار سحب القوات الأمريكية من مناطق قوات سوريا الديمقراطية، واعتبره “خيانة للحلفاء الأكراد”، وفق تعبيره. وتعهد بايدن بإبقاء 1000 مقاتل أمريكي في سوريا في حال فوزه بالرئاسة، كما أكد أنه سيؤمن حماية جوية للمناطق المحررة من داعش في شرق الفرات. وقال إن “المشكلة في سوريا هي حلفاء أمريكا، مثل تركيا، التي دفعت بآلاف المقاتلين الأجانب بما في ذلك أشخاص مرتبطين بتنظيم القاعدة لفعل أي شيء لإسقاط نظام الأسد، ولم تنجح، وتحول ذلك إلى فوضى ودمار تبعه ظهور داعش وانتشاره في العالم”.

على الأرجح، ستبنى إدارة بايدن -في حال فوزه- سياستها تجاه الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، على نفس أساس سياسات أوباما. وبحسب المعطيات سيستمر الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد خلايا “داعش” النائمة، مع دعم الاستقرار وأخذ حساسيات تركيا بعين الاعتبار. بحسب المعطيات السياسية ستقوم الأمريكية في الشأن السوري، مع بايدن، حول النقاط التالية:

  1. الاستمرار بدعم المجموعات المحلية، مثل قوات سوريا الديمقراطية.
  2. دعم منصتي الرياض والقاهرة.
  3. تقليص النفوذ الإيراني.
  4. الضغط الدبلوماسي على روسيا، لتغيير سلوك النظام السوري، على حد تعبير الإدارة الأمريكية.

وبحسب المصادر الدبلوماسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ستدعم إدارة بايدن، دمج الإدارات الذاتية في شرق الفرات، مع المعارضة السورية المعتدلة، وسيركز على دعم منصتي القاهرة والرياض، مع إبقاء تركيا بعيدة عن شمال شرق سوريا. قد نشهد، تحولاً بالعلاقة الأمريكية – الروسية في الملف السوري، في حال فوز بايدن. حيث سيضغط الطرفان، على بعضهما، للوصول إلى شكل جديد من النظام السياسي في سوريا، قد يشبه النظام العراقي الفيدرالي الحالي نوعاً ما.

بالإضافة، إلى اللوحة المعروضة في الأعلى، لا يوجد إلى الآن أي مشروع أمريكي بحل القضية الكردية في الشرق الأوسط. ما هو موجود، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم المجموعات المحلية، في الحرب ضد الإرهاب. قد تؤثر الانتخابات الأمريكية على المنطقة بشكل عام، وسوريا بشكل خاص، ولكن الحل دائماً يبدأ من الداخل وبمشروع وطني ديمقراطي، يعمل على التغيير والبناء من جديد.

تركيا؛ الملف المعقد في المنطقة

بعد انضمام تركيا إلى حلف الناتو عام 1952، تحولت تركيا بشكل رسمي إلى ممثل الهيمنة الأمريكية الصاعدة في الشرق الأوسط، في مواجهة الاتحاد السوفيتي. كان تركيا، البوابة الرئيسية لتمرير سياسات القوى المهيمنة في المنطقة، بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الاستراتيجي. لذلك، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية، الحركة القوموية المتطرفة في تركيا، وساعدتها في إنشاء جيشها الخاص المسمى بـ”الذئاب الرمادية”، مرتكبة جرائم ضد الإنسانية بحق الإثنيات الأخرى وكافة الديمقراطيين في تركيا والمنطقة. حيث جندت الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، الكولونيل ألب أرسلان تركش، الزعيم اليميني المتطرف المتأثر بالنازيين وهتلر بشكل خاص – إذ كان يستخدم شذرات من كتاب “كفاحي” لهتلر في خطاباته – في عمليات المسماة بالغلاديو. وتأسس، بناءً على ذلك، تشكلت دائرة الحرب الخاصة، التي دمجت الغلاديو التابع للناتو ببنية الدولة التركية. ويعتبر تاريخ “الجيش السري للناتو” في تركيا، أكثر عنفاً من أي عملية من عمليات “أبقى-خلفاً” في أوروبا الغربية [9]. وبقيت تركيا طوال هذا التاريخ، الأداة الأقوى بيد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في المنطقة.

ومع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، عام 2002 – 2003، بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح لتركيا دور جديد في المنطقة، وهو الترويج للإسلام السياسي تحت مسمى المرونة والانفتاح، لترويض القوى الديمقراطية الأخرى وتقزيم القوموية العربية والأصوات الشاذة. ولكن، وبعد تصفية أردوغان لقائده الروحي وزعيم حركة الخدمة، فتح الله غولان، أصبح هو المسيطر على مفاصل الحكم. ومع صعود ترامب وفشل الانقلاب في عام 2016، قوى أردوغان تحالفه مع ممثلي الغلاديو القديم (القومويين المتطرفين والشرقيين الأوراسيين)، وبدأ بإعلان الحرب في المنطقة. من المهم الإشارة هنا، بأن الدولة التركية، تهندس نظامها حسب التغييرات العالمية، وتبني فريقها الإداري حسب ذلك.

كان لعلاقة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، أثر سيء ومسبب فعلي للأزمة في المنطقة. حيث فضح مستشار الأمن القومي السابق للرئاسة الأمريكية، جون بولتون، هذه العلاقة في كتابه “الغرفة التي شهدت الأحداث”. ويمكننا تشبيه ذلك، بالقول، كل اتصال هاتفي بين أردوغان وترامب، كان يعني غزو تركي جديد في المنطقة.

تتدخل تركيا بشكل مباشر في شؤون الدول القائمة في الشرق الأوسط، مثل قطر، وسوريا، والعراق وليبيا، واليمن، ومصر عن طريق دعم الإخوان وغيرها من دول شمال أفريقيا، وحتى لتركيا دور في فلسطين، حيث تدعم حركة حماس الإخوانية.

أسست علاقة الرئيس التركي اليميني رجب طيب أردوغان، مع نظيره الأمريكي، دونالد ترامب، إلى شهر عسل بين الدولتين، سينتهي على الأرجح في حال فوز بايدن. ومن المحتمل أن تركز إدارة بايدن، على العقوبات الاقتصادية والتعامل القانوني المؤسساتي مع تركيا، التي قد تكبح جماح تركيا إلى حد ما. إذ، ستبقى العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا في منحاها الاستراتيجي، إن تخللها بعض المشاكل، من وقت لأخر.

ومن المحتمل أن يدعم بايدن، في حال فوزه، بعض القوى المنشقة عن العدالة والتنمية في تركيا. وشهدنا في الفترة السابقة، صعود كلا من باباجان وداود أوغلو، بحزبي “دفا” و”المستقبل”، الذين، كما يظهر للعيان، ضعيفين جداً، ولا يملكان أدوات التغيير.

الصراع الأمريكي الصيني

يجادل السوسيولوجي الأمريكي، إيمانويل فالرشتاين، منذ مطلع الألفية، بأن الهيمنة الأمريكية العالمية، في انحسار دائم في القوة. ولفالرشتاين كتاب في صدد ذلك، معنون بـ “انحسار القوة الأمريكية – الولايات المتحدة في عالم من الفوضى”. بحسب فالرشتاين، دخلت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية مرحلة الانحدار، نتيجة الفراغ الناجم عن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. حيث لم تكن تنتظر أمريكا هذا الحدث، بحسب فالرشتاين. وأصبحت السياسات الأمريكية في المنطقة – وخاصة بعد التدخل في العراق عام 2003 – لا يقينية ويصعب التنبؤ بها. ولم ينجح صعود ترامب في وقف هذا الانحسار، حيث أصبحت الصين وروسيا قوتان صاعدتان في العالم والمنطقة.

ستبنى جيوسياسة المنطقة على العلاقة الصينية الأمريكية. حيث يشكل صعود الصين الاقتصادي، كابوساً للولايات المتحدة الأمريكية. “وفي جميع الأحوال، هذه اللعبة الخفية بين الصين والولايات المتحدة – أي السعي غير المعلن إلى الشراكة – ستبقى المحرك الرئيسي في النظام العالمي خلال العقود المقبلة” [10]. بحسب المراقبين، ستنسحب أمريكا ببطء من الشرق الأوسط (على مدار العشرين العام المقبلة) وتركز على شرق آسيا والتنافس مع الصين. لذا، ومن المرجح وبموافقة إسرائيل، أن تفوض الولايات المتحدة الأمريكية، تركيا كقوة إقليمية صاعدة، أمام تمدد الهيمنة الروسية في الشرق الأوسط. وبناءً على ذلك، تحاول روسيا تقديم العروض لتركيا، مثل شراء S-400 ومشروع غاز توركستريم، لممارسة الدبلوماسية الناعمة، حاصلة على دعم الجناح الشرقي في الدولة التركية (دوغو برينجك والأرغنكون) لها.

الخاتمة

بلا ريب، تشكل الانتخابات الأمريكية، أهمية خاصة في النظام العالمي، لما لها تأثير على التوجه السياسي العالمي. و”لنفترض أن جو بايدن هو من فاز بالانتخابات المقبلة، ما يعني أن انتخابه هو استمرار لسياسة الرئيس السابق باراك أوباما التي لا يمكن اعتبارها سياسة عظيمة، لكنها أفضل بكثير من سياسة ترامب المدمرة والتي تقود الولايات المتحدة إلى الهاوية وإلى الدمار” [11].

إذا فاز ترامب في الانتخابات المقبلة، تزداد احتمال صعود الفاشيات في العالم وستكون أسوأ من التي كانت في القرن العشرين. أما في حال فوز جو بايدن، ستعود السياسات التقليدية الأمريكية إلى واجهة النسق العالمي.

المراجع

المراجع الأجنبية:

1-

  1. Zizek, Slavoj. «US enters brutal ideological civil war as four-party system begins to take form.» RT English (2020): 2. Document.
  2. https://twitter.com/JoeBiden
  3. Slavoj Zizek: Biden is ‘far from ideal’ but ‘better than Trump’
  4. https://twitter.com/JoeBiden
  5. JOE BIDEN AND THE JEWISH COMMUNITY: A RECORD AND A PLAN OF FRIENDSHIP, SUPPORT AND ACTION
  6. Ganser, Daniele. «NATO’s Secret Armies: Operation GLADIO and Terrorism in Western Europe.» 224. Book.
  7. China and the United States: Partners?

المراجع العربية:

  1. بايدن يكشف عن خطة بقيمة تريليوني دولار لمكافحة التغير المناخي
  2. الطريق إلى البيت الأبيض… «بايدن» ملك ملفات الشرق الأوسط في مواجهة ترامب
  3. أوجالان، عبد الله، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، ص276، “الـقـضـيـــة الـكـرديـــة وحل الأمة الديمقراطية” (دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكَّي الإبادة الثقافية)
  4. نعوم تشومسكي : إعادة إنتخاب ترامب ستكون كارثة لا توصف على أمريكا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى