قضايا راهنة

روسيا والبُعد الدولي للحل السياسي للأزمة في سوريا

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تغييرٍ ما في الموقف الروسي حيال النّظام السّوري، والأزمة السّورية بشكل عام، في ظل استمرار التقارب الرّوسي التّركي الذي اعتمد دبلوماسيّة “توافق المصالح”؛ إلى جانب ظهور بوادر تحرّك دولي في محاولة لكسر الجّمود لحلّ الأزمة السّورية سياسياً، بعد تيقّن الجميع باستحالة أي حل عسكري لهذه الأزمة، وخوفهم من الصّدام العسكري بين الدول، كالذي حدث بين القوات السّورية والتركيّة، الأمر الذي سيترتّب عليه، فيما لو وقع فعلاً، نتائج كارثيّة لا يبدو أنّ أيّ من هذه الدّول مستعدّ لدفع كلفتها؛ لا سيّما في ظل استمرار جائحة كورونا.

إن الحل السّياسي للأزمة السوريّة ذو بُعد دولي، فقد تدوّلت الأزمة بشكل كامل، وبات الحلّ الآن مرهوناً بالتوافقات الدّوليّة التي تستند إلى مصالح القوى الدّوليّة المعنيّة بالأزمة السوريّة، ولن يُجدي نفعاً استبعاد أي من هذه القوى كما حدث في أستانا, كما أن الجّلوس بين الأطراف السوريّة لمناقشة الحلول بعيداً عن هذه التوافقات لم يعد يُجدِ نفعاً أيضاً، فقد اندمج كل طرف مع الجّهات الدّاعمة له لدرجة عدم القدرة على التصرّف خارج إرادة هذه القوى.

إن تمركز القوى الدوليّة في مناطق انتشارها في سوريا بات تمركزاً استراتيجيّاً، ولن تنسحب منها طواعية، وعدا عن ذلك فإن الانسحاب أصبح يشكل هزيمة دوليّة على الصّعيد المعنوي لها. كما أن معظم القوى المساهمة في الأزمة السوريّة هي في حالة تضاد وتضارب في المصالح، بل وبعضها في حالة من العداء المستحكم أيضاً.

تمّت الإشارة في دراسات سابقة لمركز الفرات إلى أن “عدم مشاركة الكرد في المحافل الدولية هو سبب مهم في تأخر صناعة حلٍ لهذه الأزمة، في حين أنه من المفترض إن حدث أي تدخّل سياسي مباشر للغرب (الأوروبّيون والأمريكان) سيكون من خلال منح الكرد وضعاً تفاوضيّاً مرموقاً في ملف الأزمة السوريّة، وهو سيكون بمثابة المدخل باتجاه حل حقيقي لهذه الأزمة، وهو ما لا يحدث حتى الآن”. كان هذا قبل شهور قليلة، ولكنه الآن في طور التفعيل من خلال بحث قوى الغرب عن أرضية للمصالحة الكرديّة- الكرديّة لتكون مدخلاً لهذه القوى والكرد في المساهمة في الحل الحقيقي والنهائي، بعد أن أدرك الجميع بأن أي حل من دون موافقة الكرد ومشاركتهم هو حل ناقص، وعديم الجدوى، وهو ما نقصده- في جانبٍ منه- بمقولة التحرّك الدّولي لكسر الجمود لحل الأزمة السوريّة سياسيّاً.

كل ما سبق يفيد بصعوبة تصوّر وجود حلول وسطيّة تتّفق عليها كافة الأطراف المحليّة والإقليميّة والدّوليّة في هذه الأزمة، ورغم ذلك فلا سبيل سوى البحث عن صيغة ما، قد تكون صعبة، ولكنها تظل أهون من مسألة “الحل العسكري”، بسبب استحالته، وجدّيّة خطورته.

روسيا وأطروحات الحل السياسي للأزمة السوريّة

كانت روسيا تصرّ، ولا تزال، بأنها كانت تحمي الدّولة، وليس نظام بشار الأسد، في حين أنه لم يكن هناك فرق في واقع الأمر، لأن نظام الحكم في سوريا يسير على مبدأ لويس الرابع عشر في فرنسا (أنا الدّولة، والدّولة أنا)، فبشار الأسد هو الدولة والدولة هي بشار الأسد، وقد كان النّظام قاب قوسين أو أدنى من السّقوط عام 2015 حين رمت له موسكو طوق النجاة، وأنقذته. لكن روسيا الآن تئنّ تحت وطأة أزمة ماليّة تفاقمت بفعل العقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة والدّوليّة، والهبوط الحاد لأسعار النفط، والإغلاق العالمي التام للمرافق الاقتصادية، وازداد التفاقم مع تعرضها لموجة جديدة من هجوم فيروس كورونا، حيث تسجّل روسيا أعداداً مرتفعة من الإصابات قياساً مع الدول الأوروبيّة التي كانت في الشهر الماضي مركزاً للوباء. وإذا ما استمر الوضع على هذا الحال، فهي مضّطرة إلى تغيير بعضٍ من سلوكها؛ لا سيّما تلك التحرّكات خارج حدودها، والّتي تزيد عن حاجتها.

ظهرت بعض المؤشرات حول بعض التغيير في السلوك الروسي تجاه سوريا، قبيل أزمة كورونا، ثم ظهرت بحلّة جديدة ما بعد كورونا، وهذه المؤشّرات هي عبارة عن تقارير ودراسات وتصاريح صادرة عن وكالات إعلامية، وعن مراكز دراسات مقربة من الكرملين أو الخارجية الرّوسيّة، وعن دبلوماسيّين سابقين، والرّابط بينها وبين مركز القرار الرّوسي هو توافقها المعهود في هذه القضايا، وهي صفة لصيقة بالأنظمة الشموليّة، في حين أنّه لم يصدر عن الموقف الرّسمي الرّوسي أي تصريح متزامن مع تلك المزاعم، بل على العكس، فقد نفى السّفير الرّوسي في طهران في 17 أيار/ مايو 2020 الأنباء التي تتحدّث عن عدم رضى بلاده عن رئيس النّظام السّوري، والمزاعم حول الاتّفاق على تنحيته. فقد كانت هذه التّقارير والتّصاريح جديدة، وغريبة في المضمون والشّكل، وأظهرت موقفاً مغايراً عمّا هو معهود بينها- كجهة روسيّة معتبرة- وبين النّظام السّوري في دمشق، ومنها، على سبيل المثال، وفي مناسبات مختلفة، بأن الأسد منفصل عن الواقع، وأنّه بات عبئاً، وأنّ سوريا باتت صداعاً ينبغي على الكرملين التخّلص منه، وأنّ الأسد أصبح ضعيفاً وغير قادر على إدارة البلاد، وبأنّ استقالته هي أحد أوجه الخروج من الأزمة السوريّة؛ فضلاً عن أنّ أرقاماً متدنيّة أظهرها استطلاعٌ للرأي، أجرته إحدى المؤسّسات الرّوسيّة حول نسبة داعمي الأسد في انتخابات عام 2021، بل أن تقارير أخرى صدرت تتحدث عن توقّعات باتّفاق روسي- إيراني- تركي للإطاحة بالأسد، وإقرار وقف شامل لإطلاق النار لفرض الحلّ السّياسي في سوريا، وهو ما يفيد بأن الأسد قد يكون مهدداً بالسقوط بيد روسيا، لأنه يشكّل أحد مداخل الحلّ في سوريا، وإن ما يؤخر هذا الاحتمال هو عدم وجود بديل عن الأسد للتوصل إلى اتفاق ما. ويمكن ربط هذه المواقف الإعلامية والبحثية بخوف روسيا من عدم القدرة على إعادة ما تم صرفه على سوريا، واكتملت خيبة الأمل مع العقوبات المفروضة على سوريا؛ فضلاً من الخوف الأكبر من قانون قيصر المُزمع تطبيقه في حزيران القادم، ويضاف إلى ذلك حالة الإحباط التي شعر بها رجال الأعمال الرّوس من الفشل في دخول الاقتصاد السّوري والاستفادة منه، الأمر الذي يفسّر جانباً من الشّرخ الذي أصاب العلاقة ما بين الرّئيس الأسد ورامي مخلوف، والكثير من التّقارير تفيد بوجود علاقة ما تربط روسيا بالحدث الأخير، فقد قامت بالإشراف على عمليّات اعتقال مديري وموظّفي شركات رامي مخلوف للاتصالات.

إن أكثر المواقف وضوحاً في الطّرح الرّوسي للحلّ في سوريا كان في التقرير الذي نشره المجلس الرّوسي للشّؤون الدّوليّة في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وكان من الخطورة بحيث أنّه يشير إلى بوادر تحوّل عميق لم تشهده السّياسة الرّوسية في سوريا منذ اندلاع الأزمة، فبحسب التقرير، هناك خياران معقّدان لا ثالث لهما للخروج من الأزمة السوريّة؛ الأوّل: أن تقبل القوى الموجودة في سوريا بمناطق نفوذ بعضها البعض، وتبقى سوريا منقسمة إلى ثلاث مناطق، الأولى مناطق سيطرة النّظام تحت حماية طهران وموسكو، والثانية منطقة سيطرة المعارضة السوريّة بدعم من أنقرة، والثّالثة منطقة سيطرة قوّات سوريا الدّيمقراطيّة في شرقي الفرات الواقعة تحت حماية ونفوذ واشنطن. أما الخيار الثّاني فيقضي بانسحاب كافّة القوى الأجنبيّة بعد استقالة الأسد، ووقف كامل لإطلاق النار في كافة أنحاء سوريا، وتوحيد البلاد عبر تحوّل سياسيّ يستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، ويفيد التّقرير بأنّ هذا الخيار هو الأقل تكلفة لجميع الأطراف، فهو يقوم وفق الرّؤية الرّوسيّة على حلول وسطيّة تحقّق وحدة الأراضي السوريّة[1].

إن الخيار الأول رغم أنه أمرٌ واقعٌ حاليّاً، إلّا أنّه لا يعبّر عن مخرج حقيقي للأزمة السوريّة، فهو يفتقر إلى المحدّدات النّهائية، وإلى جدول زمني، وإلى قبول دولي في الأمم المتّحدة أو مجلس الأمن؛ وفضلاً عن هذا وذاك فإن القبول بهذا الخيار يعني-كرديّاً- ضياع المناطق الكرديّة (عفرين ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض/ كري سبّي) وبقاءها تحت الحكم التركي، لذا فهو من الخطورة بمكان ممّا يستوجب الانتباه والحذر. في حين أنّ إسقاط النّظام في دمشق في الخيار الثاني ليس بالأمر السّهل، حتى ولو أرادت روسيا ذلك، والسّبب هو إيران، فالتضاد بين موسكو وطهران في هذه الحالة واضح تماماً، فإن كانت روسيا تبحث عن مساومة ما أو مقايضة لحل الأزمة في سوريا، على احتمال أن يكون الأسد أحد أشكالها، فإنّ إيران مستعدّة بالتّضحية بآخر سوري من أجل بقائه في السّلطة، فهي حريصة على بقاء الأسد لأسباب عقائديّة، وأخرى سياسيّة- استراتيجيّة، ثم إن نفوذها الميداني في سوريا في هذه المرحلة مرهون ببقائه، بسبب الارتباط الطائفي معه ومع حزب الله اللبناني. وما يزيد قلق إيران مما يجري الآن، هو أنّها كانت بعيدة تماماً عن التّفاهمات الرّوسيّة- التركيّة بخصوص إدلب ومناطق شرقيّ الفرات، فلا وجود لقوات إيرانيّة بين الدّوريات المشتركة، كما أن اتّفاق موسكو الأخير في 5 آذار 2020 سمح لتركيا بتعزيز قوّاتها العسكرية إلى نحو 16 ألف عنصر، وآلاف الآليات والدبابات شمال غرب سوريا، مما يجعل من تركيا أحد الدّول الأربعة، أصحاب النفوذ المباشر في سوريا، إلى جانب روسيا وإيران والولايات المتحدة.

البعد الدّولي للحلّ السّياسي للأزمة في سوريا

ليس بغريب أن يستند الحلّ الرّوسي السابق الذي افترضه إحدى أهم مراكز الأبحاث في روسيا إلى بُعد دولي، ولكن الجديد فيه هو طرح قضية تنحية الأسد كأحد المخارج من الأزمة، بعد أن غاصت روسيا في الدم السوري حتى الرُكَب من أجل “حماية الدولة”. في حين أن حقيقة الأمر هو أن الوضع أكثر تعقيداً مما تم تصوّره؛ لا سيّما في غياب صيغة توافق واضحة بين القوى الدّوليّة المتدخّلة في الأزمة السوريّة، في حين أن الموقف الرسمي لروسيا غير واضح بهذا الشّأن، بل أنه يسير بعكس هذا التصوّر إن شئت، ما خلا عدة إشارات، لا ترتقي إلى درجة نسج تخمينات بفضّ العلاقة ما بين موسكو والنّظام السّوري، وإذا ما عدنا بالذّاكرة إلى الوراء، نجد أنّ روسيا استخدمت الفيتو 14 مرّة ضد أي قرار يدين النّظام السّوري، وكان آخره يتعلق برفضها فتح المعبر الدّولي في اليعربية/ تل كوجر، وبإدخال المساعدات الإنسانية من هذا المعبر، كما إنها انسحبت مؤخّراً من جلسات مجلس الأمن- مع الصّين- بخصوص تدارس مسألة استخدام النّظام السّوري للسّلاح الكيمياوي.

إن الفرصة الوحيدة في تغيير هذه الحقائق، هو تطبيق قانون قيصر على سوريا في شهر حزيران القادم، الأمر الذي سيضع النقاط على الحروف في عدة قضايا تخصّ سوريا، ومنها أنّه سيزداد الصّداع الرّوسي في سوريا، وسيصبح الأسد أكثر عبئاً على بوتين، في الوقت الذي تتعرّض فيه روسيا لموجة هجوم شرس من كورونا. وإلّا فإن الافتراض الأكثر واقعيّة هو التجاء بوتين إلى بحث موضوع المصالحة بين أردوغان والأسد، بدعم من طهران أيضاً، ليتحدى هذا القانون، ولإبعاد أنقرة أكثر فأكثر عن واشنطن، وتثبيت مناطق نفوذه في سوريا والأناضول سويّة، وبالتالي استمرار الأزمة لشوط إضافيّ آخر.

لا نحتاج إلى الكثير من التفكير في طبيعة السّياسة التركيّة في سوريا؛ لا سيّما فيما يتعلّق بالكرد ومشروعهم الدّيمقراطي، إلّا أن ما يسير كالماء تحت القش، هو محاولات التمدّد والتّمركز الرّوسي في شرقيّ الفرات، وهو بحاجة إلى بُعد نظر، وعمق في التأمّل؛ إذ لا بد من فهم مشروع الحلّ والأهداف النهائيّة للتدخّل الرّوسي في سوريا حتى يتسنى لنا معرفة ما ستؤول إليه الأمور. إن ما يمكن أن يساعد في التّخمين هو فهم حقيقة الموقف الرّوسي من النّظام السّوري مؤخّراً، فهو إن كان خاطئاً، وبقيت موسكو تميل إلى إعادة النّظام إلى ما قبل آذار 2011، فهي حتماً لن ترضى بقبول أيّة صيغة تحتوى على إدارة أو لا مركزية أو ما شابه، وما قيل حول هذه الصيغة سابقاً في موسكو كان لذرّ الرّماد في العيون لا أكثر. في حين أنه لو صحّ ما ورد في التّقارير حول التّغيير المزعوم في الموقف الرّوسيّ، فإنّنا قد نشهد تطوّراً روسيّاً ملموساً حيال الوضع شرقيّ الفرات، وهو سيكون موقفاً جديداً وجديّاً أكثر ممّا شهدناه من الأطروحات الرّوسيّة السّابقة حول منح الكرد نوعاً من الحقوق الثقافيّة.

بالعودة إلى قانون قيصر وتطبيقه الشّهر القادم، فهو في حقيقة الأمر تصوّر للحل السّياسيّ القادم، إلى جانب كونه وسيلة ضغط على النّظام السّوري وداعميه الدّوليين، للرّضوخ للتحوّل السّياسيّ المطلوب في سوريا، وهو ما كانت الولايات المتّحدة والأوروبّيّون تتجنب التدخل فيه مباشرة حتى اليوم. وهو يعني بشكل آخر التّأكيد على عدم وجود مساعدات دوليّة لإعادة الإعمار، وإصلاح ما تم تدميره على يد الأسد وروسيا وإيران والمعارضة، إلى أنّ يحدث تحوّل سياسي بتوافق دوليّ تمّ رسم ملامحه في مجلس الأمن تحت القرار رقم 2254.

إن تنفيذ هذا القانون سيكون بمثابة الموقف الجدّي الأوّل لواشنطن في بحث تفاصيل الحلّ السّياسي القادم في سوريا؛ ففضلاً عن الضغط على النّظام السّوري سياسيّاً واقتصاديّاً وتقنيّاً، فهو يطرح الحلّ السّياسي (منذ 15 نوفمبر 2016، وهي الفترة التي تمّ فيها إقرار هذا القانون) من خلال تحديد حكومة انتقاليّة في سوريا تقوم بما يلي:

  • الإفراج عن جميع المعتقلين السّياسيّين.
  • إبعاد كبار مسؤولي “الحكومة السّوريّة السابقة” من المناصب الحكوميّة.
  • تنظيم عمليّة انتخابات حرّة ونزيهة تحت إشراف دوليّ ووفق جدول زمنيّ محدّد.
  • إقامة سلطة قضائيّة مستقلة.
  • احترام حقوق الإنسان.
  • احترام معاهدات حظر الأسلحة الكيميائيّة والنوويّة والبيولوجيّة والسّامة.
  • وقف تطوير ونشر الصّواريخ العابرة للقارّات.

وردت هذه الصّيغة في مفردات قانون قيصر عام 2016، ولكنّها اليوم بحاجة إلى تعديلات هامّة جدّاً، ومنها ضرورة تبيان شكل ونموذج الحكم، لأن هذه الرّؤية لا تُظهر ماهيّة الدّولة، وإذا ما كانت اتحاديّة أم مركزيّة، كما إنّها لا تتطرّق إلى طبيعة عمل مؤسّساتها، وإلى التّفاصيل المرتبطة بها، ومنها تلك التي تشغل بال مكوّنات الدّولة السوريّة من حيث تنوّع سكّانها وثقافاتهم.

إنّ أكثر التّعديلات إلحاحاً هي تلك الّتي يجب أن تطرأ على القرار رقم 2254، الذي صوّت عليه مجلس الأمن في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2015، ونصّ على بدء محادثات السّلام في سوريا في يناير/ كانون الثاني 2016، واقتصر فيه- وهو مشروع قرار أمريكي- على تحديد طرفيّ الحوار والمفاوضات على النّظام والمعارضة فقط، وتمّت فيه الدّعوة إلى تشكيل هيئة حكم غير طائفية تشمل الجّميع، واعتماد صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتّحدة. كان هذا في وقت كانت العلاقة فيه بحالٍ حسنٍ بين المعارضة والغرب ودول الخليج العربيّ، وبعد تلاشي الفرق ما بين المتشدّدين (داعش والنّصرة) وبقيّة فصائل المعارضة، بدأ التباعد بينها وبين داعميها المذكورين، وتوجّه البعض منهم (كقوى الغرب) صوب القوى الدّيمقراطيّة في سوريا (الكرد وباقي مكوّنات شرقيّ الفرات)، واستمرّت تلك العلاقات وفق تطوّرات ميدانيّة وسياسيّة وصلت إلى مستوى التّحالف العسكري ضد تنظيم الدولة، وأدّت إلى ظهور الأثر الواضح لفريق ثالث كان يعمل في سوريا منذ بداية الأزمة السوريّة، وكان الأكثر اعتدالاً وموضوعيّة من الأطراف السّوريّة الأخرى الّتي استمرّت في الحرب الدّموية الّتي أحرقت الأخضر واليابس في سوريا، واستمرّ هذا التّحالف إلى الوقت الحاضر، وهو ما يستوجِب التّعديل في القرار 2254 على أساس المفاوضات بين الأطراف السورية جميعها تحت إشراف الأمم المتّحدة، وليس بين النّظام والمعارضة فقط.

الكرد ودورهم في الحلّ السّياسيّ للأزمة السّوريّة

يرتبط دور الكرد في الحلّ السّياسيّ في الأزمة السوريّة بعاملين اثنين، احدهما ذاتيّ، والآخر خارجيّ، فالأوّل يعتمد على قدرة الكرد على تخطّي حالة التّناحر السّياسيّ، والاجماع على “كلمة سواء” تتضّمن التّوافق على صيغة مشتركة في تصوّر وضع الكرد ومكانهم في الحلّ السّياسيّ المرتقب في سوريا، وهي فرصة تاريخيّة قد لا تتكرر لعقود قادمة من الزّمن، ونستطيع القول أنّه من يثبت عليه التهرّب من هذه المصالحة سيكون مسؤولاً عن تصرّفه هذا أمام الشعب الكرديّ وأمام التّاريخ، وهو امتحان صعب لكافّة القوى الكرديّة؛ إذ يتطلّب الأمر التحلّي بالجرأة، وروح التّضحية، وإن الموقف الصائب سيسجله التّاريخ في صفحات كفاح ونضال الجّهة الأكثر تمسّكاً به من عناصر الحركة الكرديّة.

أما العامل الخارجي فيرتبط، كما هو الحال في عالم السّياسة، بالدّاعمين الدّوليين، والقوى العظمى صاحبة القرار، والحلفاء الذين تربطهم مع الكرد ومناطقهم الجغرافيّة المصالح السّياسيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة المشتركة.

إن الحرص الغربي (الولايات المتّحدة وفرنسا وبريطانيا) وسعيه إلى تحقيق المصالحة الكرديّة- الكرديّة مؤشّرٌ هام على حدوث تقدّم دوليّ ما في الأزمة السوريّة، وهو ما تمّت الإشارة إليه في دراسات سابقة، على أن التدّخل الغربيّ السّياسيّ المباشر في حلّ الأزمة السوريّة سيكون من خلال منح الكرد الكرسيّ الثّالث على طاولة المفاوضات السوريّة- السوريّة برعاية أمميّة، لعدّة اعتبارات منها:

  • إنّ أي حلّ سياسيّ بين روسيا وإيران وتركيا، وبين مواليهم من النّظام والمعارضة، سيكون أساسه تثبيت قواعد إيران في المنطقة، وهو خطّ أحمر غربيّ وإسرائيليّ؛ فضلاً عن القواعد الرّوسيّة والتّركيّة، وتعزيز فرص مشاريع الطّرفين في الهيمنة على مناطق إنتاج الغاز وخطوط نقله ثم استعماله كورقة ضغط على أوروبّا.
  • حاجة قوى الغرب إلى مناطق نفوذ لمجابهة مناطق النّفوذ الرّوسيّة والإيرانيّة والتّركيّة.
  • تنقّل تركيا بين أحضان الرّوس والغرب، حيث أصبحت الآن أقرب إلى روسيا منها لحلفائها القدامى في النّاتو.
  • موضوعيّة واعتدال الطرح الكرديّ في حلّ الأزمة السوريّة أوّلاً، والنّجاح الذي حقّقته قوّات سوريا الدّيمقراطيّة في حماية مناطقها ثانياً، وتحقيقهم لنموذج متقدم من الدّيمقراطيّة من خلال إشراك جميع مكوّنات المنطقة في إدارة مناطقهم.

إن التعامل مع الروس جزءٌ من اللعبة السياسية التي يجب على الكرد الانتباه إليها، والتعاطي معها بحذر شديد، فوضع البيض كله في سلّة واحدة في هذه الظّروف باتت مغامرة كبرى، وعليه فإن العلاقة مع واشنطن يجب أن لا تحجب القدرة على التّحرك الدّبلوماسي في الاتّجاهات كافّة بالنّسبة للكرد، أي أنّ روسيا- ورغم عدم الثّقة بها- يمكن الاستفادة منها واستخدامها كورقة ضغط دبلوماسي على واشنطن الحليف المتردّد، وأنقرة، العدوّ المتربّص. فقد يكون الحضور الرّوسي في شرقيّ الفرات شكليّ أو ضعيف، إلّا أنّه فعّال بنسبة ما، والتّعامل مع هذه المسألة ينبغي أن يستند إلى حنكة وحذر في الوقت نفسه.

من الممكن كسب تأييد الروس في شرقي الفرات في مسألة منح الكرد مقعداً على طاولة المفاوضات في المحافل الدولية، إلّا أنّ هذا الفرض ضعيفٌ جدّاً في ظلّ التّقارب الرّوسيّ التركيّ؛ إذ لم يحدث أنْ تقرّب الرّوس من الكرد إلاّ للضّغط على أنقرة، في حين أنه يتم تناسي المسألة الكرديّة كلّما تحسّنت العلاقات بين الطّرفين.

ختاماً..

إن جميع الصّيغ المفترضة لحلّ الأزمة السوريّة صعبة، وليس من السّهل تحقيق أيّ منها، فمحليّاً لا تظهر أيّة بوادر إمكانيّة الحوار بين النّظام والمعارضة، وإنْ ظهرت رغبة جديّة لدى المعارضة، فهذا لأنّها كانت الأقرب إلى الهزيمة والانكسار، في حين أنّ النّظام لم يكن جديّاً في أيّة جلسة من جلسات المفاوضات مع المعارضة، لا في جنيف ولا في أستانا، وكلاهما يسعيان إلى تصفية الآخر حتّى هذه اللحظة. في حين أنّ المسألة على المستوى الإقليمي ترتبط بتركيا وإيران وإسرائيل بالدّرجة الأولى، فتركيا ترفض أيّ حلّ يسمح للكرد بالمحافظة على مكتسباتهم، وإيران ترفض سقوط الأسد رفضاً قاطعاً، وإسرائيل ترفض الوجود الإيرانيّ على حدودها رفضاً تامّاً.

أمّا دوليّاً، تستطيع روسيا أن تضبط الأمور، وتحرّك المبادرات، وتجمع كافّة الأطراف الدّوليّة والإقليميّة والمحليّة لبحث الحلول في سوريا إن أرادت ذلك، إلّا أنّ ما يمنعها ويمنع معظم الأطراف الفاعلة في الأزمة السوريّة هو تضارب المصالح، ومن الصّعب تصوّر تجاوز الخلافات حسب الظروف الحاليّة، والفرصة الوحيدة هي أن تضع أزمة كورونا وقانون قيصر حدّاً لاقتصادات هذه الدول التي تسهم في تدمير سوريا.

قد يكون لقانون قيصر فاعلية كبيرة فيما لو تمّ تطبيقه، ولكن من المهمّ الأخذ بعين الاعتبار أنّ سقوط الأسد لصالح المعارضة خطأٌ فادح، وخطر محدق؛ إذ سيتمّ استبدال نظام طائفيّ بنظام طائفيّ آخر، فقد أثبتت المعارضة السوريّة عدم امتلاكها لأي مشروع حوكمة واضح المعالم، وإنّ أردنا أن نعرف كيف ستكون سوريا تحت حكمها في المستقبل، علينا أن ننظر اليوم إلى جرابلس والباب وإعزاز وعفرين وإدلب؛ فضلاً عن خضوعها وخنوعها التّام لسياسات أنقرة وأطماعها في المنطقة.

إنّ الحلّ الذي اقترحه وطرحه الكرد هو بناء سوريا ديمقراطية تعدّديّة لا مركزيّة، يعيش فيها أبناؤها جميعاً بعزّة وكرامة، ودون وجل أو خوف، ومن دون إقصاء أيّ طرف، هو الحلّ الأكثر موضوعيّة من بين ما تمّ طرحه من حلول حتّى الآن. ويحتاج الكرد اليوم لأن يجدوا لأنفسهم مقعداً على طاولة المفاوضات الحقيقيّة القادمة برعاية أمميّة، ليطرحوا حلولهم، ومبادراتهم، ورؤيتهم لماهيّة الحلّ السّياسيّ في سوريا، وهو أمر لن يكون ذو فاعليّة إلّا بالتوصل إلى مصالحة عامّة يتمّ فيها توحيد كلمة الكرد في المحافل الدّوليّة.

[1] Kamran Gasanov, Syrian Unity Is Impossible without a Deal between Russia, the USA and Turkey, RIAC, November 22, 2019.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى