دراسات

ظاهرة الانحراف في مجتمع الجزيرة السوريّة

 

 1- المدخل

يعاني الطفلُ في (مجتمع الجزيرة) من جملة من العوامل التي تؤثّر في حياته, وتمنعه من التكيف في المجتمع وتؤدي به إلى الانحراف, وما هذه الظاهرة في المجتمع إلا نتيجة مجموعة مترابطة من الأسباب التي تتضافر فيما بينها مؤدية إلى خلق تلك الظاهرة التي تشوّهه, وتخلق نتائج تأخذه إلى الانحراف والتخلف وعدم القدرة على التكيف فيه, لأن هؤلاء الأطفال هم جزء رئيس لهذا المجتمع, فإذا صحت تربية هؤلاء الأطفال وإذا أحسن توجيههم وتعليمهم والأخذ بيدهم يتوصل إلى الغاية التي يرغب بها في خلق مجتمع متوازن قدر الإمكان, خالٍ من الحوادث والاضطرابات والأنماط السلوكية السيئة، لأن “الإنسان السويّ هو القادر على التفاعل مع مواقف متنوعة بطريقة إيجابية أساسها اليقظة والوعي وهدفها تحقيق إنسانية الإنسان, والتواصل الحميم مع الآخرين ومشاركته أفكارهم ومشاعرهم عبر علاقة متبادلة مشبعة بالحب الأصيل”[1].

وتشكل هذه الظاهرة مشكلة خطيرة في المجتمع, وذلك لعدم الاهتمام بها, وعدم وجود دراسات كافية خاصة بهذه الظاهرة, تعكس الواقع الذي وصلت إليه, لأن معظم الحالات التي تم تشخيصها لم تعطِ صورة واضحة بحثية سليمة عنها, ولا تعبر النتائج والأرقام التي تم التوصل إليها عن الواقع الحقيقي لهذه الظاهرة, ولا يتم التطرق إليها إلا في فترات حدوث الأزمات والمشاكل والجرائم في المجتمع, ما يدفع به إلى البحث عن حلول آنية /وقتية/ لها, أما بعد أن تتوقف تلك الحوادث ولفترة من الزمن يعود المجتمع ويطمئن إلى الحال التي وصل إليها, فيتوقف هو أيضاً عن البحث عن الأسباب التي تؤدي إليها وتفسيرها تمهيداً للوصول إلى إيجاد حل لها.

ثم إن النتائج والإحصاءات التي يُتوصل إليها في المجتمعات المتقدمة لا تمثل الحالة التي يكون عليها المجتمع المحلي, ولا تتطابق معه, لاختلاف ظروف المعيشة وأنماطها ومستوى التطور بينهما؛ ناهيك عن جهل بعض المجتمعات وتخلّفها, ما يحول دون قدرتها على دراسة هذه الظاهرة, والتوصل إلى نتائج حقيقية في هذا المجال تساعد على درء خطرها والتخلص منها. ما يدفع إلى ضرورة بحث هذه الظاهرة في المجتمع, ودراسة أسبابها, مظاهرها ونتائجها, للوقوف عليها, فلكل مجتمع خصوصيته التي يختلف بها ةعن غيره من المجتمعات.

وإذا كانت هذه المظاهر تشابه إلى حدّ كبير مع ما يوجد في المناطق المجاورة والدول إلا أنها تبقى في (مجتمع الجزيرة) ظاهرة خاصة به, ما يجعل الحاجة ماسة إلى الإحاطة بظروف معيشته, عاداته, تقاليده, أنماط التربية, وسائل التعليم عنده, نظرته إلى هذه الظاهرة وطريقة تعامله معها, من أجل التوصل إلى فهم واضح لأسبابها وتفسيرها تفسيراً صحيحاً لا لبس فيه ولا غموض, على الرغم من صعوبة التوصل إلى دراسة متكاملة في هذا المجال, ويرجع سبب ذلك إلى تشعب الأسباب التي تؤدي إليها, نفسية كانت أم اجتماعية, وللظواهر العديدة التي ينتج عنها من جريمة, عنف, عدوان وغيرها من المظاهر التي تشوّه صورة المجتمع, وتبعث على القلق والخوف, لازديادها, وانتشارها على مدىً واسع. وتحاول هذه الدراسة الإحاطة بالأسباب التي تتسبب في حدوث هذه الظاهرة, والنتائج التي تتمخض عنها.

فالانحراف “ليس مجرد استجابة آلية لعوامل مولّدة للجريمة بل نهاية تطور حياتي يؤدي الى تغير كلي في موقع الشخص من المجتمع وطبيعة ارتباطاته به من خلال تغيير جوهري في الانتماء الجماعي (من انتماء الى جماعات متكيفة الى اخرى مضادة لها غير متكيفة), إنه في نهاية الأمر انقلاب كلي وجذري في نمط الوجود عندما يصل الجانح درجة الاحتراف”[2].

فالطفل يشكل نسبة لا يستهان بها في حياتنا, وهو عماد المستقبل الذي نحاول ونسعى أن نخلقه له ليحيا بعيداً عن التناقضات والظواهر الاجتماعية السيئة التي تؤثر سلباً على حياته, وبالتالي على مستقبله/ مستقبلنا الذي نحاول قدر الإمكان أن نضع له أسساً سليمة, قواعد ناجعة, ووسائل تربوية تعليمية جيدة تحميه وتبعده عن مثل هذه الظاهرة وغيرها, والتي تكون سبباً في ضياعه, وعدم الاستفادة من إمكاناته وطاقاته التي لا يستهان بها, وتصب في خدمة (مجتمع الجزيرة). وتدفع بعجلة تقدّمه نحو الأمام.

وما الفقر والتشرّد والحرمان من الرعاية الاجتماعية, التعليمية والتربوية الجيدة للطفل إلا أسباب تدفع به بقوة إلى الانحراف, وتساهم في إقصائه عن حركة المجتمع والانخراط فيه بشكل سليم لائق, بالإضافة إلى عدم المعرفة بأساليب التربية الحديثة ووسائلها ووسائل العلاج الناجعة لمثل تلك المظاهر, والجوّ الأسريّ القلق والمشحون بالاضطرابات الذي يعكس صورته على حياة الطفل ويؤثّر فيه بشكل كبير, ناهيك عن دروب الانحراف المتوافرة بكثرة في المحيط الاجتماعيّ الذي يعيش فيه الطفل, ويقصد هنا الشارع, الأسواق, أماكن اللعب والتسلية /إذا أسيء استخدامها/, والتي تساعد على خلق سلوك سلبيّ لدى الطفل, خاصة إذا كان مَن يختلط معه منحرفاً, كبيراً كان أم صغيراً, بالإضافة إلى استعداد الطفل بطبيعته للانحراف إذا لم تتوفّر له رعاية صحية, نفسية واجتماعية تبعده عن هذه الظاهرة الخطرة, فهي من شأنها أن ترسّخ عادات سيئة في حياة الطفل, وتخلق لديه سلوكاً عدوانياً, هذا ما عدا مظاهر الجريمة التي نلحظها أحياناً في حياة بعض الأطفال نتيجة جملة من التراكمات التي تؤدي إلى ذلك السلوك العدواني.

وما السرقة والعنف والتسرب الدراسيّ إلا صور مشوهة لتلك العوامل التي تؤثّر على الطفل وتسبب في انحرافه وتلك العدوانية المتولدة عنده. لذلك لابدّ من التنبيه إلى أهمية دراسة ظاهرة الانحراف في (مجتمع الجزيرة) لأنها شبه مهمشة أولاً, فالمجتمع لا يوليها أهمية كبيرة, ومن جانب آخر, فالمجتمع يفتقر إلى الثقافة في هذا المجال بالذات, مما يجعل سُبل التوصل إلى حل لمعالجة هذه الظاهرة صعباً, والوقوف عليها معضلة كبيرة, فهي تتطلب وعياً وإدراكاً لماهيتها/ حقيقتها من أجل التوصل قدر الإمكان إلى خلق مجتمع خال من الأمراض والظواهر التي تعيق مسيرة حياته وتتسبب في تدهوره وهدمه, وهناك نظريات عالجت ظاهرة الانحراف ووقفت عليها منها:

النظرية النفسية: وترى بأن الانحراف هو نتيجة عوامل البيئة والحياة الاجتماعية والتعلم من المجتمع بصورة خاطئة.

النظرية العضوية: وترى بأن الانحراف هو نتيجة تلف في وظائف الجسم بسبب بيولوجي/ عاهات- أمراض.

فـ”ليست مشكلة الانحراف المبكر من المشكلات الراهنة بسبب تضخم أعداد المنحرفين الأحداث فحسب, وإنما لخطورة القضايا والتساؤلات التي تطرحها حول مستقبل هؤلاء, وكذلك الحلول المتقدمة, التي تتكشف لمواجهة هذه المشكلة الخطيرة”[3]. لذلك ساهمت جميع العلوم والدراسات النفسية, الاجتماعية, الاقتصادية والقانونية إلى بيان خطورة هذه الظاهرة وتأثيرها على الفرد والمجتمع بما يعيق حركة الفرد والمجتمع, وآثارها السلبية في حياة كل منهما.

وقد حاول كلُّ علم أن يوضح أسباب هذه الظاهرة وتجلياتها بما يتفق ووجهة نظره وآرائه. واستطاع إعطاء صورة واضحة لها, والوقوف على أسبابها ونتائجها بشكل جيد, ما دفع المجتمعات المتقدمة إلى محاولة التخلص من هذه الظاهرة, والبحث عن الحلول الناجعة لها, من أجل تحقيق تكيف أفضل للفرد, وإعادة تأهيله فيه بما يتناسب مع مبادئ المجتمع وأفكاره وقيمه.

هذه المجتمعات التي تغيرت نظرتها إلى ظاهرة الانحراف, فبعدما كان ينظر إلى المنحرف نظرة شكِّ وريب واحتقار, أصبحت تدرك أسباب هذه الظاهرة, تقف عليها وتعالجها بكافة الوسائل, من أجل خلق صورة جديدة لمجتمع خالٍ من التشوّه والتفكّك والضعف. “إن اهتمام القيمين على إصلاحيات القاصرين, في أن يأخذوا بعين الاعتبار شخصية الحدث المنحرف, ليفسحوا في مجال الإفادة من الاجراءات الآيلة إلى تحسين إعادة تربيته وتكيفّه مع المجتمع, قد أسهم في تقديم عون مهمّ للأفكار الجديدة التي تسعى أكثر فأكثر إلى التأثير في مفهوم العدالة التأديبية المستوحاة من علم الجريمة”[4].

فتغيير نظرة المجتمع إلى هذه الظاهرة بفضل الدراسات التي قدمتها العلوم الإنسانية أدى إلى تحقيق تقدّم كبير في معالجة هذه الظاهرة لإعادة تأهيل الفرد في المجتمع, وتغيير تلك النظرة العدائية والشاذة نحوه, لينعم المجتمع بمواهبه وطاقاته بدلاً من أن يخسرها, فتكون تلك الخسارة جسيمة, لأنه إضافة إلى خسارته لفرد من أفراده كان من المفترض أن يعمل بشكل إيجابيٍّ فيه, يظهر فيه من يعمل بشكل سلبيِّ لتشويه صورته وقيمه ومبادئه.

فـ “الدراسة الأولية لشخصية المنحرف تقودنا, بلا شك, إلى كشف العوامل التي أدت إلى السلوك الانحرافي: عوامل بيولوجية (جسدية), نفسية, عائلية وثقافية. لكن يظل واجباً, ألا تدفعنا هذه إلى تجريد المنحرف من مسؤوليته الشخصية. ونحن, في اعتبارنا للمسؤولية الشخصية, نعتقد أن هذه ليست فقط نقطة الانطلاق لتدخل القضاء, بل نقطة النهاية إلى عمل تربوي إصلاحي كذلك. فالتربية تعني, بشكل خاص أن تحمل الكائن على الشعور بالمسؤولية أمام نفسه, وأمام الآخرين”[5].

ويقوم الأخصائيون بجهود حثيثة من أجل إعطاء صورة واضحة للحالات التي يظهر فيها الانحراف في المجتمع من خلال جداول وإحصاءات رقمية تبين أعداد المنحرفين, الأمر الذي يتطلب لفت الانتباه/ التنبُّه إلى خطورة تزايد تلك الأرقام, ولكن تبقى تلك الأرقام مجردة من كلّ فائدة ما لم تلقَ الدعم والاهتمام من العلوم النفسية والاجتماعية في تشخيص كل حالة, والبحث عن طرق العلاج لها. فالشخصية كلٌّ متكاملٌ, تقوم جميع أجزائها وأعضائها بالوظائف الملقاة على عاتقها من أجل إنجاح عملية التكيف والانسجام في المجتمع, وعند توفر عوامل أخرى مساعدة خارجية تحقق هذه الشخصية رغباتها دون أن تشعر بضغط أو قلق أو خوف يتهددها, ولكن عندما تصطدم بعوائق تمنعها من تحقيق تكيفها تصاب بالإحباط واليأس والأمراض النفسية التي تحاول الظهور في سبيل التغلب على مشاكلها بمظهر منحرف, وسلوك غير سويٍّ ولائق يولد شعوراً بالرفض والنفي لذلك السلوك من قبل أبناء المجتمع.

فـ”الجانحون هم, على وجه العموم, أشخاص يتميزون بعدم الاكتراث بالأعراف والقوانين والآداب العامة وعدم الاستفادة من الخبرات والتجارب السابقة وعدم الإحساس بالندم أو الشعور بالذنب”[6].

“لذلك يمكن القول بأن العامل الاقتصادي لا يؤدي بذاته إلى السلوك الإجرامي إلا إذا تضافرت عوامل أخرى معه كالتربية العائلية والتربية الدينية, والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان وغيرها من الأسباب التي تساهم في تقرير السلوك الإجرامي”[7]. وقد يظهر السلوك المنحرف نتيجة لتناقضات المجتمع بين “الأهداف التي يدفع إليها وبين عدم توفر الوسائل المشروعة لبلوغ تلك الأهداف يؤدي إلى حالة صراع شديد خصوصاً عندما تزداد الضغوط في اتجاه الأهداف.

هذه الزيادة تؤدي عادة إلى اختلال التوازن بين الغايات والمعايير وبالتالي يظهر التراخي الاجتماعي. ويكون من نتيجته ظهور السلوك المنحرف”[8]. فالعوامل المؤدية إلى الانحراف والتي تحدثه كثيرة جداً, وتظهر واضحة في كلّ حالة على حدة, ومستقلة عن الحالة الأخرى, ما يدفع إلى ضرورة الإحاطة بجميع الجوانب الاجتماعية والنفسية لحياة الطفل عند تشخيص حالته من أجل التوصل إلى أسهل الطرق لوقايته من تلك الحالة, وتعويضه عن النقص الذي يشعر به في حياته.

 

2- الهدف من دراسة ظاهرة الانحراف لدى الطفل في (مجتمع الجزيرة).

تعدّ دراسة ظاهرة الانحراف ضرورية, وذلك بسبب تفشي هذه الظاهرة بصورة تبعث على القلق والخوف, لاتساعها, وزيادة أنماط السلوك المنحرف,كالسرقة, التشرّد, التسوّل, ممارسة العنف, العدوان على الآخرين وغيرها من الصور التي يتبدى فيها السلوك المنحرف, والذي يشكل تهديداً خطيراً لمصالح الناس وحياتهم من جهة, وحياة المجتمع من جهة أخرى.

إذ تُطلعنا الصحف والأخبار كلّ يوم على “أشكال مختلفة من الاعتداء يرتكبه أفراد ويكون موجهاً ضد الآخرين في سلامتهم أو ممتلكاتهم أو حرياتهم الشخصية…… بين هذه الأشكال من الاعتداء ما هو من نوع الإجرام, وبينها ما ينطوي على  انحراف جنسي, وبينها ما فيه إدمان”[9].

فالمجتمع المنحرف مجتمع غير سويِّ, وتنعكس صورة انحرافه على أبنائه وخاصة الأطفال الذين هم بحاجة إلى المساعدة والعطف والرعاية حتى يكتمل نضجهم, ويستطيعوا بناء شخصيتهم بناءً سليماً خالياً من مظاهر الانحراف التي تشوّه صورة هذا المجتمع وتسيء إلى سمعته.

فانحراف الطفل يؤدي إلى خسارة المجتمع وفقدانه الجزء الأهم فيه والذي سيعتمد عليه في المستقبل, ويحرمه من مساهمته ومشاركته في بنائه, إضافة إلى الأعمال السلبية التي يقوم بها الأطفال المنحرفون من جريمة, عنف, عدوان, سرقة وغيرها من أشكال السلوك الشاذّ والمخالف والتي تجلب السخط والتذمّر من قبل أبناء المجتمع. لذلك لابد من تسليط الضوء على هذه الظاهرة, وبيان ما يكتنفها من عوامل مساعدة ومهيأة له, من أجل الوقوف عليها, ومحاولة التخلص منها ما أمكن, للتوصل إلى مجتمع سليم وسويّ خالٍ من الانحراف ومظاهره, لأن”المجتمع السوي يهدف إلى تأمين الأوضاع الضرورية لتحقيق قدرات الإنسان على الحب والإنتاج والتفكير, بعيداً عن أساليب القهر والاستغلال والانتهازية,…..ويعزز التماسك والتضامن الإنساني لأن مصلحة الفرد في مصلحة المجتمع”[10].

 

3- طبيعة الانحراف

“يستخدم علماء الاجتماع كلمة الانحراف للدلالة على مجموع متباين من الانتهاكات, والسلوكيات المستهجنة والأفراد الهامشيين”[11]. فبهذه الدلالة تظهر طبيعة الانحراف جلية ًواضحة, إنها تشير إلى تلك المجموعة المتباينة من الانتهاكات التي يمارسها الفرد ضد المجتمع أو الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه, ويوجه سلوكه نحو تصرفات وأفعال تلقى ردَّ فعل مواجهٍ من قبل المجتمع الذي يملك منظومة معينة من العادات, القيم والمبادئ, وعندما تخرج تلك السلوكيات عن القيم التي ارتضاها المجتمع لنفسه, فإنها تلقى استهجاناً منه, ورفضاً, لأنها لا تصبح حالة عامة, بل تبقى حالة خاصة بفئة معينة, هي فئة المخالفين والمنحرفين, ويمكن أن توضع سبع فئات تحت قائمة الانحراف بمعناه الواسع وهي: (الجرائم والجنح- الانتحار- تناول المخدِّرات والمسكرات- الانتهاكات الجنسية- الانحرافات الدينية- الأمراض العقلية- العوائق الجسمية).

فعلم الاجتماع وسّع من نطاق ظاهرة الانحراف, فلم تعد تقتصر على الجريمة والقتل وتناول المخدِّرات, بل أصبحت تشمل كلَّ ما له علاقة بالسلوك الإنساني الشاذّ, ويمكن تعريف الانحراف بأنه “مجموعة من التصرفات التي يراها أعضاء جماعة من الجماعات غير متماثلة مع توقعاتهم, وقيمهم أو مع معاييرهم والتي, لهذا, يحتمل أن تثير من جانبهم استهجاناً و جزاءً”[12].

والنظرة إلى هذه الظاهرة تختلف بحسب المجتمعات, فما يراه مجتمعٌ من المجتمعات منحرفاً, ربما لا يكون كذلك بالنسبة للآخر, فيتوقف شكل الانحراف أو طبيعته على “شروط حياة كل شعب, والنابعة بدورها من بنية المجتمع. مثلاً يلاحظ أكثر الانحرافات شيوعاً في البلدان المتخلفة ذات طابع حركي (ضرب, جرح, قتل, اعتداء, تحطيم, تخريب..الخ). أما في المجتمعات المتقدمة فتتميز الانحرافات بالتحول من العنف إلى الأشكال العقلية الاحتيالية (جنح ضد الملكية, إساءة أمانة, تزوير, احتيال)[13].

ولكنَّ السلوك غير المرغوبٍ فيه, أو اللااجتماعي, يثير دائماً, سخطاً من جانب المجتمع, في أي وقتٍ كان, لأنه لا يتفق مع مبادئه وقيمه, ويشير اصطلاح السلوك اللااجتماعي “إلى أشكال من التصرف الذي يمكن أن يقوم به الفرد (مجموعة من الأفراد) ويكون موجهاً ضد الجماعة من حيث هي مجتمع أفراد, ومن حيث هي نظام, ومن حيث هي مجموعة من القواعد والقيم. وهو بالتالي سلوك عدواني يمكن أن يكون موجهاً إلى الأفراد في حياتهم أو ممتلكاتهم أو مؤسساتهم التي تخصهم, كما يمكن أن يكون موجهاً ضد ما قامت عليه الجماعة وقبلته من نظام أو قيم وقواعد اجتماعية وأخلاقية، وبهذا المعنى يكون العدوان على الآخر بالقتل سلوكاً لااجتماعيا, وتكون ممارسة البغاء سلوكاً لا اجتماعيا كذلك”[14]. “ومن ثم فكل من المتخلفين عقلياً والمتفوقين عقلياً معتبرون غير عاديين”[15].

 

4- لماذا تُسمّى ظاهرة؟

اتسعت مظاهر الانحراف والجريمة في الفترة الأخيرة لدرجة تبعث على الخوف والقلق, لذلك فإنها تحتاج إلى الوقوف عليها, خاصة عندما يصل الانحراف, ويطال الطفل, لأنه يشكل الجزء الهام من المجتمع, وهو الذي يشكل القاعدة التي يستند عليها في المستقبل, إضافة إلى حاجته إلى الرعاية والاهتمام أكثر من الراشد, بسبب طبيعته وقلة إدراكه, لذلك أصبح من الواجب الوقوف عليها لبيان الأسباب التي تؤدي إليها, لأن المجتمع المنحرف مجتمع مريض يحمل كل أسباب الانهيار والسقوط, فلابدّ من تسليط الضوء على هذه الظاهرة, ومعرفة أسبابها, والنتائج التي تؤدي إليها, للحيلولة دون اتساعها, ومحاولة تجنب المجتمع مظاهر الانحراف والجريمة, من أجل التوصل إلى مجتمع سليم خالٍ من مظاهر الانحراف وعلله.

و”قد بلغ من أهمية ظاهرة الإجرام أو الانحراف أن أصبحت هذه الظاهرة موضوعاً لفرع إجرامي يتخصص فيه الكثيرون من باحثي العلوم الاجتماعية عموماً وعلم الإجرام على وجه الخصوص”[16].


 

المصادر والمراجع

– حجازي، مصطفى، الأحداث الجانحون، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1981.

– الرفاعي, نعيم, الصحة النفسية, دراسة في سيكولوجية التكيف, منشورات جامعة دمشق, ط13, 2000-2001.

– سليمان, عبد الرحمن سيّد, سيكولوجية ذوي الاحتياجات الخاصة, مكتبة زهراء الشرق, القاهرة, الجزء الأول, 1999.

– شازال, جان, الطفولة الجانحة, ترجمة: أنطوان عبده, منشورات عويدات, ط1, بيروت, كانون الأول,1972.

– عبد المنعم, سليمان, علم الإجرام والجزاء, منشورات الحلبي الحقوقية, بيروت, 2003.

– علي علي, فرزندة, فلسفة أيريك فروم, دراسة في مشكلة الإنسان, أطروحة دكتوراة غير منشورة, جامعة دمشق, ص167.

– مجموعة من المؤلفين, المطول في علم الاجتماع, , بإشراف ريمون بودون, ترجمة: وجيه أسعد,الجزء الثاني, منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب, وزارة الثقافة, دمشق, 2007.

– نعامة, سليم, سايكولوجيا الانحراف, دراسة نفسية واجتماعية, مكتب الخدمات الطباعية, دمشق, ط1, 1985.

 

[1] – علي علي, فرزندة, فلسفة أيريك فروم, دراسة في مشكلة الإنسان, أطروحة دكتوراة غير منشورة, جامعة دمشق, ص167.

[2] – حجازي, مصطفى, الأحداث الجانحون,  ص 83, 84, دار الطليعة, بيروت, ط2, 1981.

[3] – شازال، جان، الطفولة الجانحة، ص14، ترجمة: أنطوان عبده، منشورات عويدات، ط1، بيروت، 1972.

[4] – شازال، جان ، ص16.

[5] – شازال، جان ، ص20.

[6] – نعامة، سليم، سايكوجيا الانحراف، ص111، دراسة نفسية واجتماعية، مكتب الخدمات الطباعية، دمشق، ط1، 1985.

[7] – نعامة، سليم ، ص149.

[8] – حجازي, مصطفى, ص90.

[9] – الرفاعي, نعيم, الصحة النفسي, دراسة في سيكولوجية التكيف, ص319, منشورات جامعة دمشق, ط13, 2000, 2001.

[10] – علي علي, فرزندة, فلسفة أيريك فروم, دراسة في مشكلة الإنسان, أطروحة دكتوراة غير منشورة, جامعة دمشق, ص168.

[11] – مجموعة من المؤلفين، المطول في علم الاجتماع, بإشراف ريمون بودون, ص107، ترجمة: وجيه أسعد, الجزء الثاني, منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب, وزارة الثقافة, دمشق, 2007.

[12] – مجموعة من المؤلفين ، ص109.

[13] – حجازي, مصطفى, ص 68.

[14] -الرفاعي, نعيم, ص320.

[15] – سليمان، عبد الرحمن سيّد، ص11, ج1.

[16] – عبد المنعم, سليمان, علم الإجرام والجزاء, ص331, منشورات الحلبي الحقوقية, بيروت, 2003.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى