دراسات

دراسة البنية الإنتاجية للمجتمع الديمقراطي المعاصر

إنّ معرفةَ البنية الإنتاجية للمجتمع الديمقراطي المعاصر هو بحدّ ذاته العملُ على إقامة مجتمع متكامل ومتفاهم وذي نسيج متجانس فكرياً و حضارياً.  وفي هذه الدراسة سوف نبدأ أولاً بشرح أسس البنية التي تنتج المجتمع الديمقراطي المعاصر. تتأسس هذه البنية على ثلاثة أُسس، وهي الديمقراطية والإنسانوية والعلمانية :

1- الديمقراطية : من الواضح جداً أنّ الديمقراطيةَ ستكون أحد الأسس الأساسية في تكوينة المجتمع الديمقراطي المعاصر، إذ إن الديمقراطية هي من الأسس الأولية والثابتة التي يُبنى فيها المجتمع الديمقراطي المعاصر. وما علينا الآن سوى أن نقوم بشرح أهميتها التي تبدأ من أسسها، إذ لا يمكن الحديث عن تطبيق فعلي وحقيقي للديمقراطية ما لم يتم تكريس مجموعة الأسس التي يتميز بها هذا المفهوم. وعليه يمكن القول إنّ هناكَ مجموعةٌ من الأسس التي ما لم يتم تكريسها تبقى الديمقراطية مجرّد معانٍ جوفاء وشعارات دون تطبيق حقيقي. وعليه سنتناول في هذه الفقرة مجموع الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي.

 أولى هذه الأسس هو أُسّ الحرية، وهذا ما لا نجده في دول العالم الثالث، التي لا تعرف أو تعترف بالحرية السياسية خاصة، بحيث لا تزال أغلب دول هذا العالم محرومة من الانتخابات النزيهة، بل نجدها انتخابات مزورة  أو مزيفة أو يقوم بها نظام الدولة نيابة عن الشعب.

إن الحرية في النظام الديمقراطي لا تعني أن يفعل الإنسان كلّ ما يريده،  لأن أشدّ الدول ديمقراطية تضع حدوداً لحريات الأفراد دون أن يُقصدَ من ذلك القضاء على الحريات أو التقليل من شأنها، بل تنظيمها، بغية الحفاظ على مصالح الجماعة و حقوق الآخرين.

إنّ ثاني أس من أسس الديمقراطية هو المساواة، إذ تعتبر المساواة بين أفراد المجتمع عنصراً من عناصر الديمقراطية، فعلى النظام السياسي الذي يطبّق الديمقراطية أن يقوم بممارسة المساواة بين أفراد الشعب، دون تفرقة لسبب من الأسباب. فعلى النظام السياسي أن يساوي في معاملته بين جميع المواطنين في ظله، وألا تكون الديمقراطية لفئة على حساب فئة أخرى. وهناك عدة نصوص تتناول هذه الفكرة، فقد نصت وثيقة الاستقلال  الأمريكية  على أنه “إننا نؤمن بأن الناس قد خلقوا متساوين”، ونصّ إعلانُ حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي في مادته الأولى: “يولد الناس أحراراً  ويبقون كذلك و متساوين في الحقوق”.

كما أريد التوضيح بأن المساواة كأسٍّ من أسس الديمقراطية لا تعني المساواة الفعلية بين الأفراد من حيث الظروف الحياتية والمعيشية، بل المساواة القانونية التي تعني عدم التفرقة أو التمييز بين الأفراد في تمتعهم بالحقوق والحريات التي يكفلها الدستور. وما أعنيه بالمساواة القانونية هو أن يكون القانون واحداً بالنسبة لجميع المواطنين دون تفرقة أو تمييز.

إذاً فالنظام الديمقراطي هو النظام الذي يستطيع ضمان الحرية والمساواة لمجتمع قائم على وجود نظام يستمد سيادته ومشروعيته من سيادة الشعب.

كما أن مفهوم الديمقراطية مرتبطٌ أوثق ارتباط وأشده بمفهوم الإصلاح أو بمفهوم النهضة، وقد كانت الديمقراطية في الغرب تتويجاً لسيرورة نهضوية طويلة ومؤلمة ومخاض عسير، أبرز ملامح تلك السيرورة كان الانتقالُ من التفتت والتشظي والتحاجز الاجتماعي إلى الوحدة التناقضية، أي الجدلية، وحدة الاختلاف، في ظل الدولة المركزية الحديثة؛ وكانت الديمقراطية بذرة تنمو في تلك الوحدة التناقضية بنسبة اعتراف الدولة بمضمونها الاجتماعي، ولكنها كانت تنمو على كل حال.
كما أنه ليس من الممكن قيام نظام ديمقراطي على أرضية مجتمعٍ تقليدي، لا تزال بناه وعلاقاته بنى وعلاقات ما قبل وطنية وما قبل مدنية.

كما وليس من الممكن قيام نظام ديمقراطي مع سيطرة السلطات الشمولية على جميع مجالات الحياة الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولعلّ تحريرَ المجالين الثقافي والسياسي من هيمنة السلطة الشمولية أمرُ لابدّ منه وضروريٌ جداً.

وكذلك يجب أن ندركَ حقيقةً مفادها:  إذا كان الاستبداد الديني يقوم على احتكار الحقيقة،  الاستبداد السياسي يقوم على احتكار السلطة والثروة والقوة،  فإن كسر احتكار الحقيقة و احتكار السلطة واحتكار الثروة و احتكار القوة شرطٌ لازم لوضع بلادنا على خط تجاوز الحاضر. إن كسرَ الاحتكار هو المبدأ والمنطلق، لا على صعيد السلطة فحسب، بل على صعيد الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية خاصة، إذ لا تزال كل منها تحتكر الحقيقة والوطنية، وتبني مشروعيتها على هذا الأساس الذي لا يفضي إلى شيء سوى إعادة إنتاج الاستبداد والتسلط.

2- الإنسانوية : وتعني الاعترافَ الكامل بالكرامة الإنسانية، وبأن الإنسانَ هو المعيارُ  الأساسي لجميع القيم ومنتجها، وبأن الماهية الإنسانية تتجلى في الفرد الذي يستمد قيمته منها، لا من أصله وفصله ونسبه وحسبه، ولا من ثروته أو تراثه، ولا من عقيدة دينية أو دنيوية،  وبأنّ الفردَ،  ذكراً أم أنثى، ذاتٌ حرّة ومستقلة ومسؤولة وشخصية فريدة، وجميع الأفراد متساوون في الإنسانية، وهم على استعدادات وملكات وإمكانات متساوية، وربما هم  مختلفون في جميع الصفات الأخرى، وبأن شرف الفرد وعلو منزلته منوطان بما يقدمه من نفعٍ لمجتمعه ولبني جنسه.

إن الإنسانَ غايةٌ في ذاته ولذاته، لا يجوز أن يكون وسيلة لأي غاية مهما سمت، وحريته وحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية مقدمة على كل ما عداها. إن الإنسانَ يستمد قيمته من ذاته، وكل شيء في عالم الإنسان يستمد قيمته من الإنسان، فليس ثمة ما هو جوهري في عالم الإنسان سوى الإنسان ذاته.

في ضوء ذلك تبدو قضية حقوق الإنسان قضيةً مركزية في نسق الديمقراطية وفي منظومتها القيمية وفي الثقافة الديمقراطية ذاتها سواء بسواء، ولا يمكن فصل مقولة الحرية أو مشكلة الحرية، بتعبير الفلاسفة، عن قضية حقوق الإنسان وكرامته. ومن المهم أن نلاحظ أنّ هذه القضية كانت غائبة عن ثقافة الشرق الأوسط وعن الفكر السياسي خاصة، ولا تزال غائبة، ولذلك كان من السهل تذويب الفرد في العشيرة والطائفة والجماعة الإثنية وفي الحزب السياسي  وغيره، والتضحية بحقوقه وبحياته أحياناً على مذبح القضايا الكبرى، وهل هنالك قضية أكبر أو أسمى من قضية الإنسان ذاته…؟، وهذه التضحية لم تكن وليست اليوم في “ثقافة الاستشهاد” تعبيراً عن حرية الفرد أو  تعبيراً عن الحرية، بل هي تعبيرٌ عن غياب الفرد وغياب الحرية معاً. إن غيابَ قضية حقوق الإنسان عن الثقافة العربية وعن الفكر السياسي خاصة هي جذر تعلقنا بالتحرر لا بالحرية، وليست حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الجماعات وغيرها سوى تفريعات على أصل هو حقوق الإنسان ذاته.

3- العلمانية: وهي التتمة المنطقية والتاريخية للإنسانوية، وتعني، على المستوى الوجودي، رفضَ أي سلطة على عقل الإنسان وضميره سوى سلطة العقل والضمير. وتجلى ذلك في التاريخ الطويل برفض سلطة المؤسسة الدينية التي كانت ولا تزال تؤسس الاستبداد الديني وتعززه وتؤازر الاستبداد السياسي وتعززه.

إن العلمانية تعني على المستوى الاجتماعي، تساوي جميع الأفراد في حرية الفكر والضمير وحرية الاعتقاد و ممارسة شعائرهم الدينية، ونمو الدين، بما هو ضمير فردي، وبما هو مبدأ معرفة ومبدأ عمل ومبدأ جهاد النفس الأمارة بالسوء، في رحاب المجتمع، وصيرورته وازعاً أخلاقياً يرقى بالقانون الوضعي العام إلى مرتبة المبدأ المقدس لدى جميع الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية. وعلى هذه القاعدة لا يحق لأي جماعة أن تفرض عقيدتها الدينية أو الدنيوية على المجتمع، ولا يحق لها كذلك أن تغضّ من شأن المعتقدات والمذاهب الأخرى، إن العلمانية بهذا المعنى هي التجسيد العملي للمساواة.

أخيراً.. إن البنية الإنتاجية للمجتمع الديمقراطي المعاصر بأسسها الثلاثة الديمقراطية والإنسانوية والعلمانية، هي الحل الوحيد والأمثل لبناء مجتمع حضاري ومتقدم و إنساني كما ذكرنا سالفاً، إذ أن تعدد القوميات والأديان والمذاهب وخاصة في الشرق الأوسط تخلق حالة صراع لا منتهي في غياب الوعي الديمقراطي وتأسيس المجتمع الديمقراطي المعاصر، إذ أن البنية الإنتاجية للمجتمع الديمقراطي يحفظ جميع خصائص ومميزات هذه الجماعات الوظيفية وبالتالي يحفظ وجودها ويحافظ على تنوّع المجتمع وتطوره.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى