قضايا راهنة

سوريا و”الخلافة الإسلامية” الزائلة… ماذا بعد؟

بات إعلان التحالف الدولي، وقوات سوريا الديمقراطية عن تحرير آخر بقعة جغرافية في سوريا (الباغوز في ريف دير الزور الشرقي) من تنظيم “الدولة الإسلامية” وشيكاً للغاية، لتنتهي بذلك أسطورة الخلافة المزعومة، التي بدأت من العراق عام 2013، وامتدت لسوريا، وهدفت، لاحقاً، للسيطرة على العالم بأسره, إلا أن توجهها نحو كوباني كانت بداية نهايته, حيث كان ذلك من إحدى الأسباب الرئيسية لتشكيل تحالف عسكري جمع وحدات حماية الشعب مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد التنظيم عام 2014، وبالتالي بداية انكماش بقعة الزيت التي خلفتها “داعش”

استطاع التنظيم توجيه بوصلة الأزمة السورية باتجاهه طيلة خمس سنين مضت، ونجح في تحييد تداعيات الأزمة البنيوية التي تعاني منها سوريا منذ عقود, والمسببات الرئيسية التي دعت للحراك الجماهيري عام 2011.

القول أن تفاقم الأزمة السورية كانت من مفرزات التنظيم وإرهابه؛ وأن نهايته تعني نهاية الأزمة؛ هو قول خاطئ، فمن غير المعقول اختزال كل ما جرى في سوريا من قتل وتدمير وتهجير في سبب واحد، وبالتالي فيجب معالجة الظروف التي أوجدت هذا الفكر المتطرف، وخلقت حاضنة شعبية له في بعض المناطق.

كان واضحاً أن الأرضية التي بنى عليها التنظيم دولته إنما جاء استغلالاً لحالة الفقر والتخلف وغياب الحريات العامة والخاصة، من جملة أسباب أخرى عديدة، وقد استفادت من حالة التهميش التي طالت السواد الأعظم من شعوب المنطقة، واستغلت حالة التشرذم القائمة بينهم، وحققت هدفها في اللعب على الوتر الديني تارة، والطائفي تارة أخرى، كما استغلت الوتر القومي في عدد من المناطق، خصوصاً ضد الشعب الكُردي في كل من كوباني وشنكال.

يمكن القول أن “داعش” بات في حكم المنتهي عسكرياً، ويترقب العالم الإعلان الرسمي عن انتهاء دولة الخلافة، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف ستكون مرحلة ما بعد “داعش”؟ وما السبيل لتمهيد الأرضية المناسبة للحل في سوريا؟
بات من المسلّم به أن غالبية الشعب السوري يدرك أن كلاً من المعارضة والنظام القائم لا يملكون أي قرار بشأن الحل، حيث استحوذت المحاور الإقليمية والدولية على القرار السوري بشكل شبه كامل.

يبقى مستقبل المنطقة مرهوناً بين عدة محاور، وبـ استراتيجيات متباينة، بخصوص كيفية التعامل مع قضايا الشرق الأوسط.

من الواضح أن وضع إيران سيكون على طاولة المناقشات بعد الانتهاء الكامل من “داعش”، وهذا بالتالي سيؤدي إلى المزيد من التعقيدات في المشهد السياسي، فضلاً عن أن النظام أيضاً بات يعول كثيراً على التقدم الذي أنجزه من الناحية العسكرية بمساعدة إيران وروسيا، وتجلى ذلك في الخطاب الأخير لبشار الاسد.

إن اختيار وارسو لعقد مؤتمر برعاية أمريكية يحمل بين طياته دلالات كثيرة، والذي جمع عدد من الدول الأوربية والعربية وإسرائيل، ربما يكون حلقة أولى في سلسلة قد تفضي قريباً إلى تشكيل تحالف حقيقي لمواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة عامة، وسوريا بشكل خاص، وعليه فإن المرحلة المقبلة ربما ستشهد خطوات عملية لمناهضة نفوذها في المنطقة.

وكذلك فإن المجموعة الدولية المصغرة حول سوريا (التي تضم فرنسا وألمانيا والأردن والسعودية ومصر وبريطانيا والولايات المتحدة) هي الأخرى لديها توجه لوقف التمدد الإيراني، وسلمت في اجتماعها الأخير في واشنطن إعلان مبادئ عامة حول الأوضاع في سوريا، مشترطة قطع العلاقة بين الحكومة السورية وإيران و”وكلائها العسكريين”. ومشددة أن لا حل عسكري في سوريا، ولا بديل عن الحل السياسي، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254؛ فضلاً عن تمييز اللجنة الدستورية بأنها “يجب أن تبقى اختصاصاً حصرياً للأمم المتحدة، وأن تؤمن انخراط جميع القوى السياسية السورية المطلوبة لتفعيل وتنفيذ الإصلاح الدستوري، وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة، ولا سيما الحكومة السورية وممثلين عن شمال وشمال شرق سوريا، وشخصيات المعارضة السورية الراغبة في الالتزام بحل يتوافق مع المبادئ الموصوفة”.

وبالمقابل فإن جولة أستانا الرابعة (بين روسيا وإيران وتركيا) التي عقدت في سوتشي هي استكمال لـ تحالف الضرورة بين الدول الثلاث التي تجمعها مواجهة المحور الدولي المتمثل في “المجموعة المصغرة” وربما “مؤتمر وارسو أيضاً” وكذلك القضية الكُردية في سوريا كهدف تركي وإيراني، ولكن يبدو أن “الترويكا” هذه غير متسقة، حيث لم يظهر توافق حقيقي في الرؤى بينهم، كـ الموقف من “المنطقة الآمنة”، وإدلب، واللجنة الدستورية العالقة، وتحديد لائحة مشتركة بخصوص الإرهاب.

فـ الجانب الروسي يهدف إلى إعادة تأهيل النظام بالتوافق بين حلفاء أستانا، وجر تركيا للتعامل المباشر مع النظام من خلال تفعيل اتفاقية أضنة.
أما إيران فـ تهدف إلى نقل صراعها مع الولايات المتحدة إلى الملعب السوري، وإبقاء سوريا ممراً لنقل الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، وبالتالي استمرارها قائداً لمحور “المقاومة” وتحاول استغلال مسار أستانا لتحويله إلى حلف ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

أما تركيا فتسعى إلى القضاء على مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، القائم منذ كانون الثاني/يناير 2014 كآخر حصون القلاع ضد التطرف الديني والقومي الذي لا تقوى أنقرة على قيادة أي مشروع دونهما.

وعليه فإن مواجهة الأطماع التركية يجب أن تكون بالتشارك بين المجتمع الدولي، والإدارات الذاتية، عن طريق دعم الإدارة سياسياً، وضمان مشاركتها في صياغة مستقبل سوريا، واعتماد مبدأ اللامركزية في الحكم، كحل أوحد لضمان السلام والاستقرار.

يبدو أن فرصة “مؤتمر وارسو” و”المجموعة الدولية المصغرة” هي الأكثر واقعية للاستمرار، بسبب ثقل الدول المشاركة فيهما، وانسجام أهدافهم، وتواجدهم في موقع المبادرين، بعكس “محور أستانا” الذي لا يجمعهم سوى أهداف مرحلية، وتظهر خلافاتهم على العلن في كل قمة بين زعمائها، والدول الثلاث في موقع الدفاع، فـ روسيا تواجه عقوبات اقتصادية أمريكية وغربية، وتركيا هي الآن متهمة بقضايا تتعلق بحقوق الإنسان، بينما إيران تواجه ضغوطات أمريكية بدأت منذ إلغاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاتفاق النووي الذي وقع سلفه باراك أوباما ربيع العام 2015.

فـ الحل السياسي المرتقب في سوريا، يجب أن يبنى على قاعدة عدم ترك أي فراغ يمكن أن تستغله القوى المتطرفة، أو الدول التي تتحين الفرص لتوسيع نفوذها.

ومن المرجح أن يعمد التحالف الدولي إلى جعل منطقة شرق الفرات منطلقاً لتحقيق أهدافهم، وليس من المستبعد أن تكون قوات سوريا الديمقراطية مدعوة لتكون جزءاً من الجهود الدولية هذه، ومن المتوقع دعم مشروع الإدارات الذاتية القائم منذ عام 2014 كنموذج للتجربة الديمقراطية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى