قضايا راهنة

مآلات التهديد التركي لشرق الفرات

تتصاعد تداعيات الأزمة السورية وتشتد حدتها، وعامها الثامن يشارف على الانتهاء؛ إذ لا تزال الأزمة في تفاقم رغم التصاريح الصادرة عن بعض السياسيين هنا وهناك بأنها في حالة تحسن أو أنها شارفت على الانتهاء، وذلك في غياب الحل السياسي الواقعي والعقلاني، مقابل تعنّت الأطراف السياسية السورية التي كانت، وما زالت تسعى إلى بلوغ الانتصار الكامل، في حين إن الطرف “المعارض” قد أصبح أقل تمسكاً بهذا المبدأ، وذلك بعد خساراته الميدانية التي أسهمت فيها تركيا على وجه الخصوص.

كان مبدأ “بلوغ الانتصار الكامل” وبالاً على سوريا وشعوبها؛ إذ قامت القوى المتصارعة بالبحث عن حلفاء لها، وكانت الأرضية الطائفية لها قد أفرزت تحالفات إقليمية طائفية في البداية، وزادت من حالة الاستقطاب السني الشيعي في سوريا، وأسهمت الخلافات السياسية والاقتصادية بين الدول الداعمة لأطراف الحرب السورية في ترسيخ الخلاف السوري السوري، فتحولت بذلك سوريا إلى ميدانٍ للصراع على النفوذ بين كافة الجهات، المحلية والإقليمية والدولية.

كانت تركيا من أوائل الدول التي دخلت على خط الأزمة السورية، وقامت من مبدأ توسعي يتمثل بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، بأدوات حداثية، لعل من أبرزها استخدام الإسلام السياسي وعلى رأسه  جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وذلك بتحريض القوى المعارضة السورية على التحرك من منطلق طائفي، مما أفرغ الحراك الشعبي السوري من محتواه الثوري- الوطني، وقامت إيران بالدور نفسه في الجهة المقابلة، وأدت هذه الحالة إلى تخندق معظم القوى المحلية في هذين المحورين، ولعل الكرد، وتحديداً حزب الاتحاد الديمقراطي، إلى جانب بعض الأحزاب الكردية والعربية، وفي هيكل هيئة التنسيق الوطنية، كانت من القوى القليلة التي شعرت بمدى خطورة الحالة في ذلك الوقت، وكانت قد حذّرت مراراً وتكراراً من دخول الأزمة السورية في طور جديد لا يُحمد عقباه.

أدرك الكرد أيضاً الدور الخطير لـ “تركيا العدالة والتنمية” التي استدعت من جانبها بعض مسؤوليهم السياسيين إلى أنقرة للتباحث، في بدايات الأزمة. فقد تم اكتشاف أهداف تركية غير معلنة تستند إلى أطماع تاريخية ومرحلية في سوريا والعراق، وذلك من خلال استثمار الحراك الجماهيري السوري وتوجيهه إلى مسارات طائفية تخدم غاياتها في المنطقة؛ فضلاً عن اكتشاف استمرارها في كتم صوت الكرد المطالبين بحقوقهم السياسية، رغم استجلاب أنقرة لفكرة محاورة الكرد في ذلك الوقت.

دفعت الإدراكات الكردية بتركيا إلى بيع حلفائها من “المعارضة” في أكثر من مزاد، بل وأدت بتركيا إلى تخبط سياسي أثار الجدل في الأوساط الإقليمية والدولية، وظهر جلياً كيف أن أنقرة قد دخلت في حالة من التخبط الاستراتيجي، ورست أخيراً في تحالف مع أعداء حلفائها، الذين باتوا لا حول لهم ولا قوة.

كان انضمام تركيا إلى محور أستانة بمثابة “الطلاق المؤقت” بينها وبين حليفتها أمريكا، والذي بدأ منذ إسقاط أنقرة لطائرة السوخوي الروسية أواخر العام 2015 والانقلاب الفاشل في تركيا منتصف العام 2016، وحالة التخبط السياسي الداخلي، الذي برز بشكل جلي بإبعاد منظّر السياسة التركية الأبرز أحمد داود أوغلو؛ فضلاً عن حادثة مقتل القنصل الروسي أواخر العام 2016.

رغم كل ذلك لم تستطع أنقرة تصور حدوث تحالف بين الكُرد وحلفائهم الذين حاربوا تنظيم “الدولة الإسلامية” في الشمال السوري من جهة وبين أمريكا التي رأت في هذه القوى بأنها الأكثر فاعلية وجدية في دحر الإرهاب الذي تدعمه تركيا نفسها.

كان لبروز دور الكرد في المسألة السورية، ومواجهتهم التنظيمات الإرهابية، وطرحهم أفكار عملية لحل الأزمة السورية ديمقراطياً، يثير القلق التركي أكثر من أي شيءٍ آخر؛ لا سيما أن هذه الرؤية قد تتبعها حلاً واقعياً للمسألة الكردية في سوريا مما قد يترك أثراً في القضية الكردية في تركيا، التي تسعى إلى طمس الهوية الكردية، بل وإلغاء كافة الثقافات في البلاد، منذ مؤتمر لوزان عام 1923، عندما نجح مصطفى كمال في إلغاء الاعتراف التركي بالقوميات داخل تركيا، وحصرها في التنوع الطائفي فقط.

هددت تركيا خلال الأيام القليلة الماضية باجتياح شرق الفرات، وهذا التهديد ليس الأول من نوعه، ولكنه يرتبط ببعض المسارات السياسية في الأزمة السورية، ولا يستبعد دورٌ روسي وإيراني في هذا الأمر، فهم حلفاء أستانة، كما أنهم فشلوا جميعاً في تطبيق اتفاقية إدلب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فيبدو أن اتفاق منبج يحتضر الآن، كما إن اللقاءات التي أجراها المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري، في أنقرة لم تثمر عن شيء؛ فضلاً عن تضييق قوات سوريا الديموقراطية الخناق على تنظيم داعش في بلدة هجين (آخر معاقله في سوريا).

كل ما سبق -بالإضافة لرفض أنقرة لأي حل ديمقراطي في سوريا- يدفع بالحكومة التركية إلى التهديد باقتحام شرق الفرات.

والسؤال الآن هل تستطيع تركيا تنفيذ هذا التهديد؟ وماذا عن رد الفعل الأمريكي حيال هذا الأمر؟
رغم أن الأسباب التي من شأنها ردع تركيا من تحقيق وعيدها أكثر من تلك التي تدعوها للتنفيذ، إلا أنه من الممكن أن تمضي بهذا الاتجاه.

ربما تريد أنقرة من هذه العملية أن تجس نبض الإدارة الأمريكية في طريق تنفيذ مخططها الذي يبدأ بالسيطرة على مدينة تل أبيض، وفصل إقليمي كوباني والجزيرة، تمهيدياً لحصارهما.

أما إذا كان رد الفعل الأمريكي بغير ما ترغبها، فستقوم بعملية محدودة -حفظاً لماء الوجه- في الشريط الحدودي مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

في حين أن الاحتمال الأبعد حدوثاً وهو إقدامها على تنفيذ ما هددت به طوال الفترة الماضية باجتياح كامل شرق الفرات متجاهلة الجانب الأمريكي، فهذا الأمر سيفتح مجالاً واسعاً أمام التوسع والتهديد الإيراني على حساب إضعاف نفوذ التحالف؛ وبالتالي سيدخل العديد من حلفاء الولايات المتحدة (إسرائيل والعمق العربي) تحت تهديد إيران وروسيا؛ فضلاً عن تقوية نفوذ موسكو، التي تدفع بتركيا لخلط الأوراق التي يمكن أن تفتح المجال أكثر أمام الهيمنة الروسية على المنطقة.

لكن علاقة روسيا مع تركيا تبقى تكتيكية حتى الوقت الراهن؛ فمصالحهما على المديين المتوسط والطويل يمكن أن تختلف، خاصة وأن لتركيا طموح إمبراطوري يوصلها إلى مصاف الدول العظمى من خلال تطوير برامج نووية وتعزيز تواجدها بالقرب من الحدود الروسية.

بدورها الولايات المتحدة تريد الحفاظ على شعرة معاوية مع تركيا كدولة حليفة في الناتو، على الرغم من حالة التباعد الطردي بينهما على خلفية دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية، وقضية المعارض التركي فتح الله غولن، وامتناع حكومة الرئيس التركي أردوغان عن تنفيذ العقوبات الأمريكية على إيران، والتحالف الجديد بين أنقرة وموسكو، لكن هل هذا التحالف الرخو سيدوم طويلاً؟

من خلال المعطيات والتطورات السياسية الأخيرة فإن تركيا تستنفذ آخر أوراقها في الملف السوري؛ فهي لم تستطع تلبية تطلعات قطبي السياسة العالمية؛ حيث عملت طوال سنين الأزمة السورية على استقطاب المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، وتسخيرها في خدمة سياساتها المتعارضة مع مصالح موسكو وواشنطن، عبر وضع كافة مصالحهم السياسية والاقتصادية جانباً، والتركيز على استخدامهم في سبيل تحقيق أهدافها التوسعية؛ وبالتالي فإن التوازنات الدولية ستدخل مرحلة جديدة قد تؤدي إلى حروب لا تحمد عقباها، وتضطر فيها الأطراف الدولية المتنازعة إلى  استخدام أحدث أنواع أسلحتها، وهذا ما سيجعل من المنطقة برمتها ساحة نزاع دولي شبيهة بالحربين العالميتين في القرن الماضي

الطموح التركي الكبير يتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة والتي تعطي أدواراً دقيقة لحلفائها الإقليميين، والامتناع التركي عن حل قضاياها الداخلية الإشكالية، وفي مقدمتها القضية الكُردية، وعليه فعلاقة أنقرة مهددة بالتداعي مع حليفها الأطلسي واشنطن، التي تدير مشروعاً في الشرق الأوسط بوصلته هو منع التمدد الإيراني والروسي -وحتى التركي- على حسابه حلفائه التقليديين الآخرين كإسرائيل والسعودية.

العملية التركية المحتملة ستكون محدودة في الغالب، في ضوء التوازنات الإقليمية والدولية، لكن ظاهرة “الكوردفوبيا” التي يعاني منها الساسة الأتراك ستبقى تلازمهم، وسيتحينون الفرص مستقبلاً للقيام بما هددوا به مراراً، إلا إذا اختارت أنقرة مساراً ديمقراطياً حقيقياً تواكب فيه التغييرات المرحلية في المنطقة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى