قضايا راهنة

رياح الشّمال وعواصِف المقايَضة

دوامة حقيقية، رياحها هبّت مع رابع لقاء في آستانة، في مطلع أيار من العام السابق 2017، فكانت رياح الشمال أقواها، لتعصف شيئاً فشيئاً بأتباعها، وكان هبوب رياح الشمال نحو الشمال، مقتلعة كلّ ما في الداخل السوري ليستقرّ في شمالها.

لو أنّنا أزلنا عنصر تهديد النظام السوري وروسيا، للفصائل والتشكيلات العسكرية السورية المعارضة، بإبادة وحرب ضروس عليها في البقع الجغرافية الخاضعة لسيطرتها، ما كانت الفصائل هذه والتشكيلات لتترك مواقعها العسكرية ومكتسبات 7 سنوات متتالية من القتال والعمل العسكري، إلا أنّ ما كان حاضراً كورقة قوية للفصائل، لم يكن بحجم المكتسبات الجديدة، فعملية المقايضة التي أدارتها تركيا كانت تؤتي بثمار أكثر وربح أكبر، مع خلق جو غاب لسنوات عن الراضين بالمقايضة هذه، ألا وهو جو غياب القتال والقصف البري والجوي عنهم.

الحِراك السوريّ السلميّ والعسكريّ حتى، أكلَ يوم أُكل الثَّور الأبيض، وموعد التهام الأخير كان الطلقة الأولى في جسد الضحية، ألا وهو آستانة 4، التي أعلن منها قرار ماكر، ما كان ليخيطه إلا ثلاثي ماكر متمثّل بكل من تركيا وروسيا وإيران، والمتمثل بـ “تخفيف العمليات القتالية والتصعيد العسكري في سوريا”، وإمعاناً في تمزيق الضحية والتمثيل بها، فقد فرض القرار على كافة المناطق، وفي الوقت ذاته استثنيت منه جبهة النصرة المنتشرة والمتوغلة في الداخل السوري بشكل ظاهر إعلامياً أو مخفيّ، كما جرى استثناء تنظيم الدولة “الإسلامية” من هذا القرار، الذي رسخ لاحقاً كامل جهود النظام السوري العسكري والجهدين الروسي والإيراني، مع جهد منفرد للتحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الأخير، لقتال هذا التنظيم، وتحويله من منتصر إلى مهزوم، ومن أول المسيطرين إلى آخر المتواجدين على قائمة النفوذ على الأرض السورية.

تتالي السيناريوهات المكتوبة بعناية، في أروقة الاجتماعات بين قمم الدول الكبرى، وبين أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، مع إشراك لقادة محليين سوريين وجهاديين بعينهم، لم يكن يحدث من فراغ أو لفراغ، فالمحيط الإقليمي بدأ بالتصدّع، وجدرانه باتت على وشك التأثر من الضربات السورية، فتحوّل أمن العالم القومي، إلى المصلحة رقم واحد، وأول ما يرى ويؤخذ بالحسبان، واستدعى البناء الدرامي السابق لعملية تصعيد وتيرة الحراك السلمي إلى عسكري، وتحوّل بضعة عشرات من المقاتلين إلى كتائب وألوية وحركات وتشكيلات عسكرية من مقاتلين سوريين وآخرين جهاديين قدموا من دول عربية وآسيوية وأفريقية ومغاربية، ومن دول أوربا والأمريكيتين وحتى استراليا، استدعى نهاية درامية تجبر الأحداث فيها على السير نحو التحوّل إلى العكس المباشر للازدهار والبناء، ألا وهو الانحطاط والسقوط والتداعي، بفعل داخلي يبرئ ساحة الاستخبارات الإقليمية والدولية، ويحمّل الجهات الداخلية جريرة ما حدث من خسارة لمساحات سيطرة قد لا تكون بالكبيرة عملياً، إلا أنّ رمزية الوجود فيها كان الأهم بالنسبة لجمهور المعارضة السورية ومناصريها، فيدفع هذا بالمتضررين والساخطين، إلى الاستجداء من جهات إقليمية بالتحديد، لتغطيتهم واحتضانهم، ما يدفع الأخير لتلبية النداء، وفق نية مبيّتة ظهرت جلياً، تقوم على إدارة الشراع وتجديف قارب الحراك السوري المنطلق في آذار من العام 2011 إلى دفة أخرى مستقرّها كتم الأصوات العالية، وتحويل التظاهر البشريّ إلى تظاهر إعلامي والصوت العالي إلى منتقد “بنّاء”، فالحديث الراهن الشاغل لجمهور المعارضة، هو التحوّل نحو تكتل عسكري واحد، يضم الفئات والتشكيلات العسكرية القادمة على متن حافلات التهجير والتغيير الديموغرافي، وحتى لا يكون المشاهد أمام حدث مفاجئ، يعطي صورة، عن الفصائل بأنها حكّمت عقلها الذي هو في أروقة المعارضة الإسلامية منها “تحكيم لشرع الله” وفي خيال المعتدلة منها، تفضيل لـ “المصلحة الثورية”، فإنّ هذا الحدث هو في حقيقته تسلسل لأولى اللبنات التي وضعت في الربع الأخير من العام 2017، وعلى رؤوس الأشهاد، وفي تحول معلن، لم يجد في أروقة الإعلام المجال الكافي، فإما هذا، وإما أنّه جرى التغطية عليه عمداً وعن إصرار إعلامي لوكالات الأنباء ووسائل الإعلام، التي بدأت بمحاباة الأطراف الدولية المتدخلة في الشأن السوري المرهون لأطراف إقليمية ودولية، العاملة كوصية عليه ومنتدبة عنه بدءاً من ثروات هذه الجغرافية الغنية، وصولاً إلى القرار العسكري والسياسي.

في الـ 24 من أكتوبر من العام 2017، وحين كانت عفرين غائبة إعلامياً عن قرار الهجوم عليها من قبل عمليات “غصن الزيتون”، جرى اجتماع بين جهات عسكرية وأخرى سياسية سورية وبين القوى العسكرية التركية واستخباراتها، نجم عنه بداية تحوّل، كانت رياح الشمال – التركية – تهدف من خلاله إلى تقديم رسالة غير مباشرة، إلى روسيا والنظام، حول قدرتها على إنهاء الحرب السورية. الاجتماع الذي ضم قادة فصائل عاملة ضمن عملية درع الفرات المدعومة بشكل كامل من قبل تركيا، مع تواجد لمعارضين سوريين ضمن الائتلاف السوري المعارض المتواجد في تركيا والحكومة السورية المؤقتة المتواجدة في المكان ذاته، مع قيادات عسكرية واستخباراتية تركية وواليي محافظتين تركيتين حدوديتين هما عنتاب وكلِّس، في أحد مقارّ القوات التركية، أفضى إلى قرارات مفصلية، أسّست للحديث الراهن آنف الذكر، إذ أجمع المجتمعون بإملاء تركي كامل، على “”تشكيل إدارة موحدة للمعابر المرتبطة مع تركيا ودفع واردات خزينة المعابر هذه، إلى الحكومة السورية المؤقتة والمجالس المحلية وفصائل المعارضة السورية”، تلاها في الاجتماع ذاته، قرار عسكري يقوم على “”تجميع الفصائل السورية المعارضة في 3 فيالق عسكرية تتبعها فرق عسكرية وألوية وكتائب تقوم بتسليم معداتها العسكرية وأسلحتها ومقارها لهيئة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة”، فيما تعمد التشكيلات العسكرية السورية إلى الانتقال من مرحلة الفصائلية إلى العمل ضمن مسمى “الجيش الوطني”، باتباع خطوتين رئيسيتين أولاهما، تشكيل ثلاثة فيالق عسكرية، هي فيلق الجيش الوطني وفيلق السلطان مراد وفيلق الجبهة الشامية، ومن ثم الانتظار لنحو شهر للانتقال إلى المرحلة الثانية وهي حلّ الفصائل والتشكيلات المعارضة العسكرية على وجه الخصوص، وتجريدها الكامل من تسمياتها المطلقة عليها منذ بداية تشكيلها أو مع تحولها إلى تكتلات عسكرية سابقة لهذا القرار، والعمل بعدها على هيكلة الفيالق الثلاثة آنفة الذكر، عبر اتباع كلّ فيلق عسكريّ بثلاث فرق عسكرية، تكون تحت إمرة كلّ فرقة منها 3 ألوية وتتبعها 3 كتائب، مع تسليم المعدّات العسكرية والأسلحة والآليات لهيئة الدفاع المشكلة في الحكومة السورية المؤقتة”، وحتى يأخذ القرار مجراه، ولعلم تركيا بتفاصيل المجريات العسكرية السورية، ومدى تعنّت الفصائل في عدم تخليها بسهولة عن فصائليتها، فقد أطلقت تحذيراً داخل البيان، بحلّ أيّ تشكيل عسكري لا يلتزم بقرارات هذا الاجتماع.

القرار هذا سبقه مسارعة من قبل جهات سورية معارضة، إلى تشكيل حكومة موازية، تحت مسمى “حكومة الإنقاذ الوطني”، التي أظهرت رفضها الإعلامي للقرارات التركية، لحفظ ماء وجه استقلالها أمام جمهور مناصريها، إلا أنّها هي الأخرى اتهمت بمغازلتها لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، رغم محاولة تفرّدها بالقرارات، ودفع الاتهامات عن نفسها عبر الادعاء بوقوفها على مسافة واحدة من كامل التشكيلات العسكرية السورية، وحاولت توسعة قاعدتها الجماهيرية وحاضنتها الشعبية، بالتحرّك ضمن ملف المعتقلين لدى هيئة تحرير الشام وجهات عسكرية أخرى، بالإضافة لمحاولتها الدخول على خط وقف الاقتتال الداخلي بين هيئة تحرير الشام من طرف، وفصائل عسكرية مثل حركة أحرار الشام الإسلامية وحركة نور الدين الزنكي وألوية صقور الشام وتشكيلات أخرى، والتي نشبت في الـ 20 من فبراير من العام 2018، وأوقعت مئات القتلى من الطرفين.

الحديث السابق عن تحوّل نحو تكتل طال انتظاره، لا يقوم على أرضية صلبة تماماً، إذ لطالما أغفلت تشكيلات المعارضة العسكرية، حاضنتها الشعبية، دونما نتائج جليّة أو خفيّة حتى، تماماً كتلك الامرأة التي ظلّت تحرك الماء في قدرها، حتى ينام أطفالها الجياع، لحين أن تؤمّن لهم طعامهم في يومهم التالي، فالمأساة الجارية اليوم لمئات آلاف المهجرين، ستغمض بالتأكيد أعين هذه الحاضنة عن آمال التوحد، لحين أن يؤتي اجتماع 24 أكتوبر ثماره، التي ستنتج تشكيلاً عسكرياً في الوقت بدل الضائع، ولن تكون بحجم الآمال التي تضمنها تصريح الضابط السوري المنشقّ عن جيش النظام رياض الأسعد، الذي تحدث عن إمكانية الوصول إلى دمشق شريطة تأمين غطاء جوي من طائرات دول داعمة، هي في الأساس كانت تدعم العمليات العسكرية، هذا التصريح الذي أغفل ما يدور على الأرض السورية من اتفاقات تهجير سارية في وقت البوح به وصفقات لاحقة، كانت الفصائل التي يجري التعويل عليها، هي الموقعة، بعد المطالبة المتكرّرة بضمانة من قاتل آلاف المدنيين السوريين – روسيا، وأمام أنظار العالم المتفرج على ماراثون التهجير، فالقلمون الشرقي والغوطة الشرقية وريف دمشق الجنوبي وشمال حمص وجنوب حماة ومناطق سورية أخرى، سلّمت سلاحاً من مواقع كانت أقرب لقلب دمشق من شمال الأسعد الذي سينطلق منه في تصريحاته، بالغطاء المحكي عنه والغائب ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، إذ أنّ الحرب الإسرائيلية المرتقبة مع إيران، إن وجدت ولادة لها على الأرض السورية، لن تكون ساحة في الوقت ذاته لتقدّم فصائل المعارضة العسكرية، فالروس يبحثون عن كفّ اليد الإيرانية عن الوليمة السورية، والتمتع بما اكتسبه النظام السوري بالأيادي الإيرانية والميليشيا المسلحة القادمة للقتال إلى جانبه وجانب الإيرانيين بحثاً عن حلم مذهبي يؤمل إحقاقه، لذا لن يسمحوا بتحرك تنام الفصائل عنه، منذ انسحاب العميد في قوات النظام سهيل الحسن بعناصره وقواته المؤلفة من ريف إدلب بعد تأمين جبهاتها هناك، وذلك وفقاً لما وراء كواليس مقايضة عفرين بالغوطة الشرقية، ومقايضة شرق السكة الحديدية في ريف إدلب، مقابل نسيان المعارضة العسكرية السورية، جبهات القتال في هذا الجزء الإدلبي من المعادلة.

يضاف إلى كلّ هذا، ويختتم به، بأنّ التوحد العسكري للمعارضة السورية، ليس من شأنه إيجاد ساحة حرب جديدة ضد النظام السوري، وإنّما من شأنه ترتيب البيت الداخلي لمناطق سيطرة القوات التركية التي وضعت يدها على معظم مناطق الفصائل، والتي سقطت بالتقادم تحت الانتداب التركي، فالاستراتيجية التركية، تلتقي بشكل وثيق مع تكتيك واستراتيجية الروس، وطموحات النظام السوري، في إنهاء هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، كما أنّ قادة الفصائل المهجرة أعلنوا صراحة عن أعدائهم، ولم يذكروا اسم النظام السوري، ووجود اسم هيئة تحرير الشام ضمن أعداء الفصائل الخارجة بكامل إرادتها نحو شمال سوريا، لن تنجم عنه سوى نتائج دموية، من شأنها تأليب الشارع المعارض من جديد على هيئة تحرير الشام التي تعتدّ بنفسها، وتتحضر لحرب شرسة، تحاول تركيا من خلالها أن تنسي العالم والعقل السوري، فصيلاً عسكرياً متفرداً، ألا وهو الحزب الإسلامي التركستاني، الذي أدخلته تركيا إلى الداخل السوري بتسهيلات ووفقاً لاستراتيجية مشتركة بين قيادة الحزب والسلطات التركية، لا بل ستستفيد تركيا التي تلوح بحرب ضدّ الكرد، من الآلاف من عناصر الحزب الإسلامي التركستاني، في ضبط الشمال، لحين أن ينجز الجيش التركي هدفه المراد تحقيق وفقاً للمخطط المنظور الذي تتحكم فيه رياح الانتخابات.

وهم “نصرة أهل الشام”، ليس بالجديد على الأرض السورية، وفي حراك شعبي طال زمنه، إلا أنّ الفجيعة هي أن التنويم المغناطيسي للحاضنة الشعبية مستمر بقوة، فمن حلم الإصلاح إلى حلم إسقاط النظام إلى حلم إزالته واقتلاع، إلى حلم محاكمته، إلى حلم تأسيس الإمارات والخلافات، إلى حلم العودة العثمانية، إلى حلم الرجوع بكلّ شيء إلى ما قبل آذار 2011، وهذا ما يستوجب استفاقة سريعة بلمسة قوية، لما يجري في هذا الشمال الموحش، فالطواحين رفعت مراوحها، وبدأت بالدوران، لتنتج سيناريوهات جديدة، أولاها تقسيم لسوريا بقالب فلسطيني، وشطر الأرض إلى ضفتين يبعدهما عن بعض نهر قادم من تركيا وماضٍ إلى العراق، لتترامى على جانبه معظم الدول والتشكيلات الموجودة على جغرافيا الموت والصراع والمطامع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى