قضايا راهنة

اتِّفاقُ الحُلفَاء…الذِّئابُ الرَّماديَّة والحِزبُ التُّركستَانيُّ…ثُنائيَّةٌ على قَلبٍ وَاحِد

اتِّفاقُ الحُلفَاء

الذِّئابُ الرَّماديَّة والحِزبُ التُّركستَانيُّ…ثُنائيَّةٌ على قَلبٍ وَاحِد

 

كان رجب طيب أردوغان يعتقد بأنّ النصر الكامل وشيك، وبأنّ اضطراره إلى الجلوس تحت صورة كمال أتاتورك عابر ومؤقت، فبلاده لا تتسع لرجلين.

 الحديث يطول عن الأسباب التي تدفع للبدء بهذه العبارة غير العادية للكاتب اللبناني غسان شربل في مقاله المعنون بـ “الرصاصة الكردية الثانية”، لكن ما يكون عليه حقُّ القول، هو أنّ الأردوغانية كحالة، والتي بدأت تتجذَّر داخل المجتمع التُّركي في الدَّولة التُّركية كجغرافيا مرسومة بحدود سياسية، تنضح من إنائين رئيسيين، أولهما فزع التبرؤ من التبعيَّة لمؤسّس الجمهوريَّة التُّركية -كمال أتاتورك، وثانيهما هو الحلم الأردوغاني باستفاقة عثمانيَّة في نفوس أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، لتتحول لفعل ملموس ينهي يوماً بعد الآخر، دور الأتاتوركيَّة في الداخل التُّركي النصير، وهذه الرؤية تخشى من إيقاظ معارضيها للرأي المضادِّ لها.

الآفة التي تعرضت لها المنطقة بأسرها، كان الحكم العثماني، المتَّخذ من الدِّين الإسلامي شمَّاعة ومبرراً، يقود السلطنة وخلافة العثمانيين إلى درب غير منتهٍ، فتتريك الأمور يدفع دوماً الدَّولة التُّركية الحديثة حتَّى، إلى العودة، وإحياء خلافتها بشكل أو بآخر، وليتحقق ذلك على تركيا استنهاض طاقاتها، ولأنّ سياسات الدول تعتمد الاستراتيجيَّة لا التكتيك، مبدءا جوهرياً في تحركها، فقد كان لزاماً أن تحذو تركيا حذو سياسات الدول الكبرى، في وضع استراتيجيَّات تؤمّن لها البقاء والامتداد، إلا أنّ الخصوصية التُّركية تقوم على تخديم رئيس الدَّولة كلّ ذلك لبقائه، وهذا ما تجلَّى واضحاً من بعد تموز من العام 2016، وهنا بدأ التحشُّد التُّركي على أساس قومي، واستعملت معه استراتيجية رديفة وهي التوجّه القومي التُّركي الواضح بصحبة توجّه إسلامي مبني على النظرية الشعبية السائدة عن خلق “أسد السُّنَّة” الجديد، الذي يشبِّه نفسه بالسَّلاطين العثمانيِّين ويعتمد رؤيتهم، بحلية قوميَّة تبقي على أتاتورك والقوميَّة التُّركية مظلة مرافقة لها – مؤقتة بعض الشيء.

الإنتاج الدِّيني للرؤى المشتركة بين التنظيمات الإسلاميَّة والقوموية

الإنتاج التُّركي لأئمة المساجد ولد على أساس مدروس، يعمد فيه القائمون على الدِّين، على أساس واحد، هو ميلان النباتات مع الرياح، فالنبتة الدِّينية هنا – أئمة المساجد والمُفْتُون والمشايخ- ليس بإمكانها الثبات أمام رياح سياسات الدَّولة، المبنيَّة على التوريث الحزبي، فمعظم الحكومات التُّركية المتعاقبة بحسب أحزابها، لم تعتمد إفناء الدِّين الإسلامي كصبغة للمجتمع التُّركي، ويبدو أن التخوَّف السلطوي ليس نابعاً إلا من الجرائم التُّركية المتعاقبة على أساس ديني، والتي لحقتها الجرائم على أساس قوموي بحت، فكانت الهتلرية التُّركية والنَّزعة المتفرِّدة من مجتمع منغلق على نفسه خشية الانحلال والضياع، هو السبب الرئيس – مجازاً – لأن تكون الديانة الإسلاميَّة خلفيَّة ومظهراً، إضافة لطموح تركي في العمل بعكس السياسات الدولية الأخرى، عبر احتضان الدِّين وتخديمه بدلاً من تكليف أجهزة المخابرات وإلهائها باللحاق بالمتدينين والمساجد، وتضييع جهود الدَّولة الهادفة للتطور، بالبحث عن العابثين بأمن الدَّولة عبر الطرق الدِّينية، بل عملت على تفريغ جيل ديني يرى في تركيا قائدة للأمة الإسلاميَّة، مدعومة بقيادة كان رأس هرمها خريجاً لمدارس تعرف باسم “إمام وخطيب”، الأمر الذي جعل التسلل التُّركي سهلاً، فالروابط العثمانيَّة هي الحبل السرِّي الذي تغذي به السلطة التُّركية جيلاً بعد جيل، نهمها بالوصول إلى سدَّة حكم العالم الإسلامي، فأنتجت بذلك معادلة تركية جديدة تقوم على استدراج التنظيمات الإسلاميَّة إلى حاضنتها القوميَّة، وإمحاء أي أثر ظاهر للصبغة القوميَّة، في حين تتغلغل الأخيرة في هذا النسيج الجديد المنتوج من المعادلة آنفة الذكر، والتي ظهرت على شكل اتحاد بين التنظيمات القوميَّة والتنظيمات الدِّينية، عبر جعل الأولى حامية للثانية ومتحالفة معها، من خلال إظهار نفسها كيد حانية ومتنفس لتوسعة هذه التنظيمات ومدِّ نفوذها، وهذا ما بدا جلياً في الاتحاد اللامعلن بين تنظيم الذِّئاب الرَّماديَّة في تركيا وتنظيم الحزب الإسلامي التُّركستاني في الصِّين.

ثنائية الذِّئاب والتُّركستان في حظيرة الشرق الأوسط الجديد

لطالما ساورتني الشكوك في صوابية تحليلي للعلاقة العميقة بين منظمة الذِّئاب الرَّماديَّة، والحزب الإسلامي التُّركستاني، فالعمق التاريخي يُصدع الرأس لأمرين أساسيين وجوهريين، أولهما عمق الترابط بين الطرفين من حيث الجذور التاريخية لهذه الثنائية، وثانيهما ضحالة المعلومات حول التنظيمين، والسببان الرئيسيان لضحالة المعلومات كانا ضبابية المعلومات الواردة عن تنظيم الذِّئاب الرَّماديَّة، لكونه المنظمة الدموية والمرعبة، والتي أسكتت الأصوات الصارخة المعارضة للدولة من الكرد والعلويين وغيرهم من شرائح الدَّولة التُّركية المرسومة بحدودها الحالية، وثانيهما الانفتاح المتأخر على الرأي العام للحزب الإسلامي التُّركستاني، إلى أن جاء النبأ الأكيد يوم الـ 13 من آذار / مارس من العام 2018، والذي تجسَّد في مشهدين كان أولهما تجرؤ أردوغان – الرئيس التُّركي، برفع شارة الذِّئاب الرَّماديَّة في مدينة مرسين التي ألقى فيها خطاباً جماهيرياً لم يخلو من خلفيتين رئيسيتين أوضِّحُها بالتالي: رفع شارة الذِّئاب الرَّماديَّة، كان جرَّاً لمواقف أنصار حزب الحركة القوميَّة المعروف اختصاراً بـ ((MHP)) والتأكيد على الموقف الإسلامي برفع أحد كبار مسؤوليه شارة “رابعة” التي تتبع للأخوان المسلمين في مصر، فهذا الموقف سبق الـ 13 من مارس، هذا اليوم الذي شهد تجوال قوَّة استطلاع تركية في مناطق سيطرة الحزب الإسلامي التُّركستاني على الحدود الإدارية لمحافظتي إدلب وحماة السوريتين، وتحت حماية هذا الحزب الذي يملك قوَّة لا يستهان بها، والذي في الوقت ذاته كان زُرِع في المنطقة الممتدة بين جسر الشغور بالقطاع الغربي من ريف إدلب وصولاً إلى جبلي الأكراد والتُّركمان في القطاع الشمالي من ريف اللاذقية، إذ أنّه جرى زرعه في هذه المنطقة لأسباب أشارت في بداية تكوُّن قوَّة هذا الحزب وانفراده على الساحة السورية بتشكيل منطوٍّ على نفسه، حيث زرع كقوَّة فصل بين مناطق تواجد أبناء الطائفة العلوية والذي يخضعون لحكم قوات النظام السُّوري، وبين مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية، والتي اعتبرت الحزب الإسلامي التُّركستاني جزءاً من هذه المعارضة، رغم قدومه من تركستان عبر البوابات التُّركية وبتحضير من السلطات التُّركية ودفع وتسهيل منها.

الوفد التُّركي تجول بالتحديد في منطقتي القرقور والزيارة في سهل الغاب بشمال غرب حماة، بغية إنشاء نقاط مراقبة جديدة ظاهراً وإيجاد قوَّة تركية تكون كفيلة بفرض وجودها العسكري في هذه المنطقة، التي من شأنها كتم صوت الحرب، وهو المصلحة السورية – الروسية المشتركة، والمتعارضة في الوقت ذاته مع المصلحة الإيرانية التي تفترض بنفسها حامية للأقليتين الشيعيَّة والعلويَّة، والتي دفعتها منذ البداية إلى جانب مصلحة محور المقاومة، إلى الدخول بشكل مباشر إلى الحرب السورية.

التلويح بإشارة الذِّئاب الرَّماديَّة التي تتبع أصولاً للحركة القوميَّة التُّركية، تمخَّض لينتج قانوناً تركياً جديداً هو التحالف للانتخابات الرئاسية التُّركية في العام المقبل 2019، تبلورت باكورته الأولى في تحالف مرتقب في هذه الانتخابات بين حزبين رئيسيين، هما حزب العدالة والتنمية ((AKP)) وحزب الحركة القوميَّة التُّركية ((MHP))، الأمر الذي سيرفع بشكل ديناميكي أسهم أحد الحزبين في استلام مقاليد الحكم، إلا أن التعنُّت الأردوغاني في البقاء في السلطة، أظهر النتيجة سلفاً – ولو بشيء من التخمين المبكِّر- بنجاحه في الانتخابات المقبلة، عبر تصريحات دولت بهجلي – زعيم الحركة القوميَّة بمساندته لرجب طيب أردوغان في “حال تصدّره في الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا”.

تعريف بمنظمة الذِّئاب الرَّماديَّة:

 عند قراءة تسلسل منظمة الذِّئاب الرَّماديَّة، تصيب الباحث حيرة من أين يبدأ ليتوغل إلى عمق هذه المنظمة التي أسّسها ((ألب أرسلان توركش))، الضابط السابق في الجيش التُّركي، في مطلع الستينيات من القرن الماضي، وانتقل التنظيم كأي تنظيم تركي سابق ولاحق بين تسميات مختلفة أرادت من تطور تسمياتها وتغيرها، الحصول على أكبر تعداد من المنتسبين طوعاً وعن إرادة بحتة، فكانت بدايته بتسمية “حركة الشباب المثالي” التي تهدف – منطقاً – إلى تقديم فكرة لمن لا يعرفها، بأنّها الحركة التي تعمل على توعية شريحة الشباب في الدَّولة التُّركية، لتنتقل بترتيب درامي إلى تسمية “فرق الموت”، وهذه التسمية كانت تهدف هي الأخرى لأمرين رئيسيين، أولهما بثُّ الرعب في نفوس معارضيه، عبر فرض قوَّة شعبية مساندة لقوَّة الدَّولة الفتيَّة على ساحة اللعبة الإقليمية، وثانيهما خلقُ شعور داخلي في الأعضاء المنتسبين لهذه الفرقة، تعطي صورة نمطيَّة لدى الجميع، أنهم القادرون على تثبيت دعائم الدَّولة، فرغم غرابة الحدث بأن يشكِّل هذا التنظيم كياناً “إيجابياً موازياً” للأجهزة الأمنيَّة في الدَّولة التُّركية، إلا أن هذا التنظيم بقي قوياً ولم تعمد أية من الحكومات والرئاسات التُّركية المتعاقبة، على إمحائه، بل جرى استغلال المصلحة القوميَّة للمنظمة وتوحيدها مع الفزع التُّركي وتخوف الرئاسات المتعاقبة والأحزاب الواصلة إلى سدة الحكم، لأن يذوقوا من السُّمِّ المحضَّر في مطابخ منظمة الذِّئاب الرَّماديَّة.

 صراع روسيا وأمريكا في الأناضول

الصراع الأمريكي – الروسي، أوجد لنفسه مساحة على الأرض التُّركيَّة، وفي أروقة إدارة البلاد، فعدنان مندريس الذي كان يسعى للتوجه إلى روسيا، لإيجاد حلٍّ للصعوبات الاقتصادية التي كانت تعصف بتركيا في خمسينيات القرن الماضي، فوجئ بانقلاب عسكري يقوده ضباط أتراك تلقوا تدريبات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على “العداء للتوجه الشيوعي”، فألقى هذا الصراع بنفسه على الداخل التُّركي ليلد في نهاية المطاف انقلاباً كان مندريس فيه ضحية أودى به التوجه للمعسكر الشيوعي، لأن يتدلى على حبل مشنقة الانقلاب، هذا الانقلاب الذي يشبه لحد ما انقلاب تموز من العام 2016، والتقاطع بينهما هو إنهاء خدمة آلاف المدرسين والقضاة والضباط والموظفين الحكوميين، بذريعة متشابهة، وهي معاداة الدَّولة والسعي لانحلال تركيا وفرض ديكتاتورية مطلقة عليها، في حين أن المشرب في هذين الانقلابين متشابه – نوعاً ما، فالتوجه نحو الشيوعية أنهى حكم مندريس على يد ضباط متمرسين أمريكياً، كما أنّ انقلاب تموز من العام 2016 كان على يد منظمة يتخذ مخططها المفترض فتح الله غولن من أمريكا مكان إقامة، وسحق بأيادي تركية، أشار محلّلون بضلوع روسي لإفشاله، والقاسم المشترك الأكبر بينهما هو بقاء الصراع الروسي – الأمريكي، حاضراً في أروقة أنقرة واسطنبول، بخاصة أنّ إنتاج قيادة تركية جديدة قد يفزع روسيا الباحثة عن حلّ في سوريا المجاورة لتركيا.

 دخول الذِّئاب التدريجي وتغلغلهم في العمق المؤسساتي للدولة التُّركيَّة

هنا كانت البداية لأن يصعِّد ألب أرسلان توركش أسهمه كمحافظ على الدَّولة التُّركية، ما فتح له المجال لأن يدخل أروقة الدَّولة من أوسع أبوابها، فعمل في الستينيات من المئة عام الأخيرة، إلى تشكيل منظمة الذِّئاب الرَّماديَّة، بعد التسلسل الاسمي آنف الذكر، مستوحياً اسم المنظمة من اعتقاد تركي يربط بين تجمّع القبائل التي شكلت العثمانيَّة آسيوية المنشأ، وبين الشرف والشجاعة المتواجدة في الذِّئاب، حيث يرتبط اسم المنظمة بشكل وثيق مع الاعتقاد التركي القائم على ثلاثة أدوار رئيسيَّة للذئب، أولهم الذئب الأغبر كَسلفٍ للأتراك، وثانيهم كقائد، وثالثهم كمنقذ، إذ يصوِّر هذا الاعتقاد للقوميَّة التركية، كمشهد الابن الحاني الذي لا يُكسر، كما يمثل الإله العالي بالنسبة لهم، إضافة لتصوير الذئب الرَّمادي، على أنّه المنجِّي والمخلِّص، عبر أسطورة جبل كوت، والملاحم الأربعة وهي ملحمة أوغوز وملحمة أرغاكون، وملحمة بوزت كورت “الذئب الأغبر”، وملحمة الهجرة، بحيث تعطي هذه الملاحم والاعتقادات للقوميين الأتراك، الاحساس بالثقة والغرور والأمن، ليتحول تنظيم الذِّئاب الرَّماديَّة بشكل متسارع إلى عصا للصراع القومي التُّركي الداخلي مع من يغرد خارج سرب القوميَّة التُّركية، إلا أنّ المنظمة سرعان ما ثبتت دعائمها بناء على رؤية أوسع رسمت أهدافها التي أنشأتها لنفسها، كان أبرزها، التأكيد على الهوية القوميَّة التُّركية، وربط كل المتناثرين من هذا العرق المبني في الأساس على تجمع لعشائر مسحوقة، والتوحد مع النظرة العثمانية وإعادة بنائها على أساس قوموي تركي، تعيد لها أمجاد السلطنة بصبغة غير إسلامية، وهذه النقطة بالذات تحتاج لتسليط مكثف للضوء عليها، أشرحه بأنّ منظمة الذِّئاب الرَّماديَّة أرادت بناء دولة عثمانية تكون فيها القوميَّة هي الأساس وتُخدِّم الدِّين الإسلامي لنفسها، من باب واحد أنّ الدِّين سيفسح المجال لأن يستقطب عشاق العثمانيَّة السابقة بناء على النظرة الدِّينية البحتة، دون الاكتراث للخوازيق العثمانيَّة، وهو ما سيعبِّد الطريق أمام الامتداد الجغرافي لهذه المنظمة في تحقيق أهدافها، إضافة لأنّ هذا التوجه سيعمل على كسب القاعدة الشعبية الداخليَّة في تركيا، وهي التي ستدفع بدورها عجلة منظمة الذِّئاب الرَّماديَّة للتقدم دون معارضات داخليَّة تشغلها عن تحقيق هذا الهدف، وبخاصة أنّ هذا التنظيم يعادي اثنين من أكبر المكونات في تركيا، أولهما عرقي بحت وهو الكرد، وثانيهما دينيّ خالص هو الطائفة العلوية، واللذين يملكان أحزاباً تعدّها الدَّولة التُّركية الحالية معارضة لها بكلّ المقاييس، رغم قاعدتيهما الشعبيتين الواسعتين في الداخل التُّركي.

 آلية عمل منظمة الذِّئاب الرَّمادية

لحين تكوين المنظمة، عليها أن تكون دقيقة في الاختيار، وهذه الدقة تواجدت بشكل كبير لدى هذه المنظمة، إذ أنّها استقطبت أولئك الباحثين عن السلطة والترقّي دونما جهد، فتحوّلت أبصار الذِّئاب الرَّمادية إلى ضمّ الشبان القادمين من أرياف مسحوقة، يحلم فيها أي من القادمين بالعودة إلى مسقط رأسه معتداً بنفسه، فسرعان ما بدأت عمليات استمالة للقرويين والعاطلين عن العمل، لتجنيدهم في صفوفها، بغية الإثبات أمام السلطة العليا في البلاد، أنها قادرة على كبح جماح العطالة والنزوات السياسية الشبابية، وتخديمها لصالح البعد القومي التُّركي، ليردفها الحزب بتجمعات للتدريب العسكري والفكري، وإقامة ندوات تهدف لغسيل الدماغ التُّركي من التوجهات السياسية المنافسة، وكأي منظمة تركية فقد اعتمدت المنظمة على الجانب الاقتصادي، فالمنظمات التُّركيَّة في العادة، لا تكون منظمات سياسية فقط، بل تستثمر طاقاتها في إيجاد التمويل الذاتي لنفسها، عبر رجال الأعمال والممولين الذين يبذخون عليها، وهذا ما أنشأ وقوَّى الجانب الاقتصادي والتمويلي للمنظمة، فتمددت القاعدة الشعبية الجماهيرية لتضم مئات آلاف المناصرين لهذه المنظمة، إضافة لأعضاء تجاوز تعدادهم في الأفرع العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية، لأكثر من 220 ألف عضو، وفقاً لتقدير جهات تركية راصدة، وبعد كل هذا التحضير، كان للذئاب الرَّمادية أن تنشط في الجانب الرديف للدولة، عبر تنفيذ عمليات قمع بدأت بالإساءة والإهانة والتحقير، ووصلت لعمليات اغتيال منظَّمة جرت بأيدي أعضائها، وتحدثت تقارير صادرة من جهات تركية متقاطعة، عن أن المنظمة ضلعت في مذبحة مرعش ومذبحة جامعة اسطنبول في عامي 77 و78 والتي بلغ ضحايا بحسب هذه التقارير، أكثر من الفي شخص، كان الهدف منها بث الرعب الذي يشبه لحد ما، رعب ما بعد تموز 2016، من إسكات للأصوات المعارضة، كما ضلعت المنظمة في محاولات اغتيال لسياسيين، أملاً في وضع العصي في عجلة تحسين العلاقات الإقليمية لتركيا التي كانت تقودها الدَّولة إبان حكومة توركت أوزال، وتتالت عمليات الرعب الذِّئابي، لحين تحول مسار المنظمة إلى معاداة حزب العمال الكردستاني، بالتزامن مع العداء الواضح للأرمن، مع إبقاء أنظارها على أي تحرك داخلي معادي للقومية التُّركيَّة، إلا أن العمليات الداخلية خفَّت، بعد أن بات الإعلام التُّركي مسيطراً بشكل عام على الأحداث اليومية وتوسُّع شبكة هذا الإعلام وتركيزه على الأوضاع الداخلية إلى جانب الأحداث الإقليمية والدولية، وما يغني عقولنا ويدعم هذا البحث هو تعمُّد منظمة الذِّئاب الرَّمادية في العام الـ 15 من الألفية الثالثة للميلاد، حرق الأعلام الرسمية لجمهورية الصِّين الشعبية، والتضييق على الصِّينيين المتواجدين على الأراضي التُّركيَّة، في رد لمنظمة قومية تركية على منع الصِّين للمسلمين الأيغور صوم شهر رمضان الكريم.

 تعريف بالحزب الإسلامي التُّركستاني:

أجمع القطبان الرئيسان للعالم روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بشراكة الأمم المتحدة، على خطورة الحزب الإسلامي التُّركستاني، فعمدوا في أعوام 2001 و2006 و2009 لحظره وتصنيفه “منظمة إرهابية”، فكان التاريخ الأول إدراج الأمم المتحدة بادئ ذي بدء، للحزب على “اللائحة السوداء في قائمة المنظمات الإرهابية”، فيما كان التاريخ الثاني هو اعتبار روسيا الحزب هذا، منظمة ممنوعة وذات خطورة، في حين كان التاريخ الأخير هو الإعلان الأمريكي للحزب الإسلامي التُّركستاني “جماعة إرهابية”، هذا بالإضافة للصراحة الصِّينية في إطلاق تسمية “الانفصاليين الإرهابيين” على الحزب، موجهين خطابهم بشكل متوازي للداخل الصِّيني والرأي العام العالمي، بأنّ الجماعة “إرهابية”، وأنها تهدف لإثارة أعمال شغب ونعرات مجتمعية ودينية داخل المجتمع الصِّيني الملياري.

حسن مخدوم كما يسمى صراحة في الحزب الإسلامي التُّركستاني، هو مؤسس الحزب الإسلامي التُّركستاني، والذي انضم لصفوف حركة طالبان، إلا أنه ورغم إنكاره لعلاقته بأسامة بن لادن، فقد أكدت التقارير الأمريكية والباكستانية على حدّ سواء، أنّه قتل بإطلاق نار خلال هجوم لقوات باكستانية على معسكر لتنظيم قاعدة الجهاد العالمي في منطقة “آنجور آدى” على الحدود الباكستانية – الأفغانية، في الثاني أكتوبر من العام 2003، ليولد هنا الرفض العالمي لهذه الحركة، التي اعتبرتها الصِّين انفصالية عبر اتهامها بتفجير مفخخات في البلاد، وزرع البلبلة والفتنة وإثارة الشغب، إلا أنّ الحركة تعارض ذلك عبر توضيح من خلال شرائط مصورة حديثة عن ماهيتها ومنهجها، فيعتمد الحزب بشكل كامل على المقاتلين التُّركستان، والذي هم من المسلمين الإيغور القاطنين في تركستان الشرقيَّة أو المنحدرين منها، وتعلن نفسها صراحة عدوة للمعسكر الشيوعي، متخذة إجراء يمكّن هذا الحزب من تثبيت دعائمه، باعتبار تركستان الشرقيَّة خارجة عن الشرعيَّة الرسميَّة لجمهورية الصِّين الشعبية، ومع إغلاقها الباب أمام غير التُّركستانيين للانضمام إليها من باب حذر الأقليَّات من الانحلال ومنع الجوسسة عليها، فقد شرَّعت أبوابها أمام التعاون مع الحركات الجهاديَّة العالمية، لتعلن مرة ثانية تبوأها مكاناً مرموقاً في الحركات الجهاديَّة الحديثة، ضد “ملة الكفر”، متخذة من مذهب السنة والجماعة مرجعية دينية رسمية لها.

التحرك التُّركستاني على أساس جهادي بحت، جعل منه أفقاً يُنظر إليه بعناية، ولأن التُّركستان ومعظم المقاتلين في التنظيمات الإسلاميَّة الراديكالية منها والمعتدلة، يتميزون عن سائر المقاتلين، بأنهم يتدربون على الولاء الخالص للإسلام، وفي سبيل هذا الولاء، يعمدون بشكل رئيسي على التدريبات البدنية والفكرية، معتمدين بحسب ما يصفون أنفسهم في أدبياتهم وقراءاتهم وشروحاتهم، على مذهب السنة والجماعة، هذا المذهب المتشعب الطرق والمدارس، كل بحسب تفسير، دوناً عن الآخر، فكان التُّركستان كذلك بناءً على هذه العقلية الإسلاميَّة ومنها العقلية القوميَّة التي تأتي في الترتيب “الشرعي” ثانياً – وهذا ما تجلَّى عبر إطلاق الكنى على أنفسهم باسم التُّركستاني- بدءاً من زعيمهم مخدوم الملقب بأبي محمد التُّركستاني، كما اعتمد التُّركستان الذين ينظرون لأنفسهم على أنهم جهاديون معتدلون، اعتمدوا في عملياتهم ضد خصومهم على وسيلة شبيهة بما تتبعه التنظيمات الراديكالية عبر استخدام الانتحاريين مطلقة عليهم التسمية ذاتها “الاستشهاديين”، وعبر تنفيذ ضربات من خلال استخدام المفخخات، على الرغم من معارضتهم الإعلامية الجديدة لأفعالهم السابقة.

هذه التراتبية في صيرورة نشاط الحزب الإسلامي التُّركستاني، والقواعد المبنية عليها، جعلها موطئاً صلباً للخطوة التُّركية القوميَّة، والتي تتخذ منظمة الذِّئاب الرَّمادية كأحد التنظيمات التُّركية، رؤية ستتلاقى معها في توسّع إقليمي للأخير، مع توسع مبني على أساسين ديني وقومي للأول – التُّركستاني.

 الساحة السورية المفتوحة لطمأنة القلق التُّركي

كان هناك فرضية أشيعت في مطلع العام 2011، تحدّثت عن أنّ الدور التُّركي المتباطئ في دعم الثورة السورية التي انطلقت في آذار من العام ذاته، إنما كان سببه الإقحام التُّركي لعناصر استخباراتهم على الأراضي السورية، وتمكن سلطات نظام بشار الأسد من اعتقالهم.

لا تهمّ صحة المعلومة من عدمها، بقدر أهمية عمقها، وهي أنّ تركيا كانت منذ اللحظة الأولى، تشخص بنظرها نحو التوسع الإقليمي، فتجربة العراق أظهرت نهم الأتراك – التجار، فكانت المحاولة الإقليمية التُّركية بوابة دخلت من خلالها تركيا إلى حلبة عالمية للصراع على النفوذ المعنوي والجغرافي، إذ أنّ تركيا التي أظهرت مساندتها للثورة السورية، استطاعت أن تخترق القلب السنّي العالمي، لتتوسع بعدها شرقاً وغرباً، متدرجة نحو زعامة العالم الإسلامي، وبخاصة أنّ الطرف السعودي ساهم بشكل كبير في الانحراف نحو الحركات الإسلاميَّة المائلة للتطرف، بناء على المذهب الوهابي الذي وصل الأمر به لاتخاذه منهجاً يدرس في مدارس تنظيم “الدَّولة الإسلاميَّة” التي أعدّها ضمن مناطق نفوذه.

هذا التدرج لم يكن سببه المباشر تشكيل حاضنة، بقدر ما كان الدراسة التُّركية المتعمقة للكتف السورية، ليعرف من أي يلتهمها دونما مناهضة دولية لتدخله، فالأتراك لا يبحثون عن حاضنة لقناعتهم المطلقة السابقة، بما قاله أردوغان مؤخراً عن أنّ هناك من ينتظر عودتهم منذ مئة عام، في إشارة مباشرة إلى الوجود العثماني في المنطقة بأسرها، لذا عمد الأتراك للتركيز على التدخلات الدولية، والتأنّي ليكونوا آخر من يضحك في المهرجان السوري الدموي، وما كانت المساجلات السياسية المتعاكسة بين أوربا وتركيا إلا بسبب سوريا بشكل رئيسي، والتي دفعت أنقرة إلى بناء جدار عازل على طول الخط الحدودي التُّركي – السوري، باقتطاع أراضٍ سورية وبناء الجدار فيها، لتعلن نفسها بوابة برية مباشرة نحو أوربا من البلاد العربية، فتأنّت تركيا كثيراً لحين الدخول الأمريكي مع دول التحالف ضد تنظيم الدَّولة “الإسلاميَّة” في سبتمبر من العام 2014، ومن ثم تماسكت لحين الدخول الروسي في سبتمبر من العام 2015، لتشرعن لنفسها الدخول، بذريعة رئيسية وهي محاربة تنظيم الدَّولة “الإسلاميَّة”، وتتوجه ببطئ نحو هدفها الرئيسي وهو محاربة الكرد وقواتها العسكرية.

 الالتفاف القومي في سوريا من خلال منظمة الذِّئاب الرَّمادية حول محاربة الإسلاميين

لو لم يكن تنظيم الدَّولة “الإسلاميَّة”، وجبة سريعة عالمية، وأنَّ التهام هذه الوجبة، بمثابة واجب ضيف في تناول الطعام على مأدبة المُضيف، لما تجرأت تركيا على محاربة هذا التنظيم، إلا أنّها الخطوة الأولى التي كانت بمثابة حفظ ماء الوجه، وشمّاعة الدخول إلى سوريا، فكانت القوات التُّركية كفيلة بأن تجمع حولها من يواليها من الفصائل والتشكيلات العسكرية السورية، لتنفيذ عملية هدفت لإنهاء آخر نافذة حدودية لهذا التنظيم مع تركيا ومن بعدها العالم، ليتحول الصراع سريعاً إلى صراع تركي مع الكرد، إذ أنّ الصبر الكردي على طول الحدود، وطوال السنوات الفائتة، استنفذ صبر الأتراك، لتعلن تركيا عن عملية بات السوريون الموالون لها يرقصون على أنغامها، فبدأت في الـ 20 من يناير 2018 عن عملية “غصن الزيتون” التي أدخلت فيها القياد التُّركية، منظمة الذِّئاب الرَّمادية على خط القتال المباشر ضدّ خصوم هذه المنظمة الاستراتيجيين، فكانت منظمة الذِّئاب الرَّمادية بعناصرها ومقاتليها حاضرة بشكل واضح دونما إظهار إعلامي لهم، إلا أن كل الإشارات الداخلية التُّركية، كانت تشير إلى أن هذه الحرب قومية، ولزيادة شعبيتها، فقد ربطت بتواريخ عثمانية وبإشارات دينية كان أبسط ما يقال عنها أنها سخيفة، وسط تحشدات إعلامية وفنية وسياسية تركية مكثفة، إذ ربط الرئيس التُّركي تسمية العملية بآية قرآنية، ولو شاء مناهضوه لأسكتوه بأن عمليته المسماة بـ “غصن الزيتون”، إنما تغزو أرض الزيتون، فكيف تكون لعمليته قداسة بسبب هذا الربط السخيف، وكيف لا يكون لأرض يعتاش أصحابها من هذا الزيتون أن تكون أرضاً مقدسة.

إشراك تنظيم الذِّئاب الرَّمادية، لم يكن لعفرين فقط، وإنما لمخطط كامل يرى الأتراك فيه أنهم احد اللاعبين الأساسيين – من خلال تصريح ساستهم- في لعبة الشرق الأوسط الجديد، والوجود التُّركي اليوم في الداخل السوري لم يكن لهدف واحد فقط، بل تجمعت الأهداف كالتالي، من محاربة تنظيم الدَّولة “الإسلاميَّة” وتسجيل تدوينة في السجل العالمي لمحاربة هذا التنظيم، ومحاربة الكرد وإنهاء حلم الفيدرالية بعد أن قصم الكرد ظهر عملية “درع الفرات”، عبر القول في بيانات رسمية للإدارة الذاتية وقيادة التوجه الفيدرالي، بأن الجغرافيا ليست مهمة بقدر أهمية المشروع، وإعادة ضبط الفصائل السورية الإسلاميَّة منها والمعتدلة على توقيت البندقية التُّركية، وكبح جماح الحركة العسكرية في الداخل السوري عبر ربط الولاء باستمرار التمويل الذي من شأنه أن يبطئ من وتيرة العمليات العسكرية، ويوجهها نحو المشروع المشاع عنه بأن لتركيا والفصائل غرب خط سكة القطار في إدلب مع جزء من ريف اللاذقية مروراً بعفرين ووصولاً مع ريفي حلب الشمالي والشمالي الشرقي إلى الضفة الغربية لنهر الفرات بضم منبج بأيّ طريقة كانت حتى وإن بتوافق سياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية على إدارة المدينة وسحب قوات سوريا الديمقراطية منها، والتحضر لعملية عسكرية ضدّ التنظيمات الإسلاميَّة، نتيجة ضغوط دولية على تركيا التي كانت ممراً لعشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب وعوائلهم ومن ضمنهم الحزب الإسلامي التُّركستاني.

 التوافق القومي للحزب الإسلامي التُّركستاني مع الهدف الديني على الجغرافيا السورية

بالبناء على العرف الإسلامي القائل بأن أرض الشام مباركة عبر أحاديث منسوبة إلى النبي محمد، كانت سوريا وجهة القتال لمعظم الجهاديين الأجانب، ومعظم الاستدراج لهم، جرى عبر الإقناع بوجهة النظر هذه، وإغلاق المسرب الآخر للفكر، ألا وهو أنّ سوريا لم تكن إلا مصرفاً دولياً للتخلص من الجهاديين، في دول العالم، وهذا ما جاء بالحزب الإسلامي التُّركستاني الذي ترك أرضه التي يعتبرها محتلة من الصين الشعبية، ليأتي بمقاتلين مع عوائلهم وبلغ قوامهم أكثر من 25 ألف شخصاً، ليقيموا معسكرات تدريب بعد تشكيل مجموعة محايدة، تبعد عن الاقتتال، وتعيش في عزلة تامة، لا تطالها عدسات الكاميرات، من باب الحرص ومنع دخول الجواسيس والعملاء إلى مناطقهم التي استوطنوا فيها، بترتيب تركي، أقامهم منذ اللحظة الأولى في مناطق على خط التماس مع المناطق التي يقطنها غالبية من أبناء الطائفة العلوية التي ينحدر منها رئيس النظام السوري، والتي خسرت زهاء 130 ألف مقاتل في صفوف قوات النظام والقوات المحلية المساندة لها، وفقاً لمعلومات ومتابعات عديدة، بعد أن أغلقت الثورة السورية الأبواب أمام ميلانهم التخميني نحوها، وحتى يتوضح الأمر عن التُّركستان يجب تكثيف الضوء على هذه النقطة بفقرة لاحقة تشرح عن وجودهم في الداخل السوري.

 الحزب الإسلامي التُّركستاني في الداخل السوري

لم تتفق المصادر الذاكرة لهذا الحزب على تعدادهم الدقيق جداً في سوريا، فالتُّركستان في سوريا، تكتل غامض، يخفي الكثير داخل ما شكلوه من مستوطنات تركستانية، اتخذت منازل المهجَّرين بسبب قصف النظام السوري أو الطائرات الروسية، ومن صودرت أملاكهم بذرائع مختلفة من العمالة للنظام إلى التعاون مع جهات معادية وصولاً إلى عمليات استيلاء متعمدة تحت حجج مختلفة، بررها شرعيوها، مستندين بذلك إلى تصرفات مماثلة للتشكيلات القائمة على الفكر الراديكالي المعتمد على الإسلام كمنهج يبنى عليه، ليتحول بضعة عشرات من التُّركستان بصحبة عوائلهم، إلى أكثر من 25000 مقاتل مع عوائلهم، بحسب معلومات متقاطعة، جرى الحصول عليها من منظمات وجهات مهتمة بالشأن السوري، بعد الدعوات المتتالية من قيادات التُّركستان للهجرة إلى “أرض الشام المباركة”، الشبيه بالنداءات السابقة المستنهضة للعقل المتَّبع للفكر نفسه.

التُّركستان كما عرف عنهم الشدة وصلابة التمسك بالعقيدة التي يتبعونها، عرف عنهم في الوقت ذاته انطوائيتهم وبعدهم عن المخالطة داخل المجتمع السوري، فكان الاتصال الاجتماعي الكامل مختصراً ومقتصراً على التداولات التجارية من بيع وشراء وتبضع وبعض الزيجات الفاشلة، فيما عرف عن التُّركستان تواصلهم العسكري المتين مع كافة الفصائل السورية من جبهة النصرة بمختلف مسمياتها، إلى الفصائل القوقازية والجهاديين على مختلف مشاربهم، والفصائل السورية المعتدلة منها وذات التوجه الإسلامي، وكان أبرز أسباب الانعزال هو اختلاف العرق واللغة، وعدم ثقة التُّركستان بالمجتمعات الأخرى، وهذا ما دفعهم إلى الابتعاد عن التناحر الفصائلي في الداخل السوري، بل عمدوا ليكونوا قوَّة فصل بين الفصائل المتناحرة على النفوذ في محافظات الشمال وبالأخص في محافظة إدلب، في حين يتخذ التُّركستان مستوطنات لهم في المنطقة الممتدة من جبال اللاذقية الشمالية المحاذية لتركيا إلى ريف جسر الشغور وصولاً إلى جزء من ريف إدلب الجنوبي مع مناطق في سهل الغاب، فكان التُّركستان متواجدين في المنطقة الفاصلة بين مناطق تواجد قوات نظام بشار الأسد وحلفائه، وبين مناطق سيطرة المعارضة السورية، ولم يتخذ هذا الاستيطان الشكل المؤقت للبقاء، إذ أنّ اتخاذ هذه المنطقة والتفرد بها، جاء بعد أن انحاز التُّركستان لتشكيل تنظيمهم في سوريا تحت مسمى “الحزب الإسلامي التُّركستان لنصرة أهل الشام”، فعمدوا إلى اتباع ممارسات تعتمد الدافع “الشرعي” لتنفيذ أفعالها، وتعمد التُّركستاني إلى مصادرة محال تجارية وبيوتاً وعقارات هجرها ساكنوها أو كانت تعود إلى مؤيدين للنظام السوري أو لأشخاص متواجدين خارج سوريا، كما طالت المصادرات والاستيلاءات أراضي ومزارع ومنازل النازحين من المنطقة، نتيجة العمليات العسكرية السابقة، فأعد التُّركستان بذلك العدة لتواجد طويل الأمد، واختار التُّركستان قرى كان يقطنها مواطنون من أتباع الطائفة العلوية وقرى بريف جسر الشغور منها الغسانية والقنية يقطنها مواطنون مسيحيون، فيما خلق التُّركستان اكتفاء ذاتياً عبر إيجاد متاجر ومحطات لبيع الوقود إضافة لوجود أطباء وممرضين وكوادر طبية وكفاءات علمية في صفوف المنتسبين إليه، فيما لم تنجح عمليات التزاوج والمصاهرة بين التُّركستان والسوريين المحيطين بهم، نتيجة لعدم وجود الأسباب التي تخلق توافقاً كاملاً بين الزوجين.

التُّركستان دخلوا في معارك مختلفة منها معركة حلب قبل الأخيرة، والتي جاء فيها على لسان قائدهم عبد الحق، وهو زعيم الحزب والذي كان على صلة بالمجموعات الجهادية العالمية في باكستان وأفغانستان، بأنه لا يريد أسرى وإنما يريد الهجوم وقتل “كل الكفار”، حيث لا يفضل هذا الحزب الأسرى، وإنما يعمد في معاركه إلى قتل أكبر عدد ممكن من خصومه، كما شارك بشكل رئيسي في السيطرة على مطار أبو الضهور العسكري، وعمليات السيطرة على مدينة جسر الشغور التي اختاروا ريفها ليقطنوا ويستوطنوا فيه، وإضافة لصدّ هجمات النظام السوري، في منطقة كبانة المحصنة طبيعياً، وفي المعارك الأولى للتركستان كانوا بمثابة منضوين تحت رايات الحركات الإسلاميَّة الأخرى من جبهة النصرة وحركة أحرار الشام الإسلاميَّة وتنظيم جند الأقصى.

تناقض أسباب الدخول ووحدة الهدف على جغرافيا جديدة

لم يكن هذا السرد الطويل، وهذه القراءة المطولة، بغرض الحديث عن تنظيمين شرسين، يتميزان بميزتين مشتركتين تتمثلان بالغموض الكبير وبثقل صفعتها في وجه خصومها، ورغم تناقض أسباب دخولهما إلى سوريا، إلى أنهما يتفقان حتى ببعد الجغرافيا داخل سورية وخارجها، يتفقان على وحدة الهدف، هدف متعاكس في التوضيح، إذ تهدف منظمة الذِّئاب الرَّمادية إلى تحقيق الهدف التُّركي بصبغته القوميَّة مستخدمة الدين كوسيلة للوصول لغايتها، فيما يسعى الحزب الإسلامي التُّركستاني لتحقيق هدفه الديني بوسائل قومية، مستخدماً القوميَّة كوسيلة للوصول لغايته.

دخول منظمة الذِّئاب الرَّمادية بشكل علني نوعاً ما، كان في معركة عفرين الأخيرة التي أطلقت عليها تركيا اسم “غصن الزيتون”، والتي بدأت في الـ 20 من يناير من العام 2018، حيث شارك هذا التنظيم في المعارك بشراسة، إذ أن التوجه التُّركي لمحاربة حزب العمال الكردستاني PKK وكل الأحزاب المكونة على أساس فكر زعيم الحزب عبد الله أوجلان المعتقل في سجن إيميرالي منذ أواخر الألفية الثانية، ومنها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، حضَّرَ الأرضية التي من شان هذا الحزب أن يكون فاعلاً في تغييرها، ففكرة الفيدرالية الكردية أرَّقت أنقرة كثيراً، ومن قبلها الإدارة الذاتية المعلنة بشكل متتابع في مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، فما كان من حكومة العدالة والتنمية إلا التوجه لعمل عسكري ينهي أولى الإدارات الذاتية، عبر السيطرة على منطقة تواجدها، بحشد قوَّة عسكرية ضخمة تقودها تركيا وتضم فصائل من المعارضة السورية الإسلاميَّة منها وغير الإسلاميَّة، فقاتل التنظيم عبر مقاتليه في هذه المعارك التي خلفت عشرات القتلى في صفوفه، فهو يدرك جيداً – أي تنظيم الذِّئاب الرَّمادية- أن خصومه لا يستهان بهم، فكانت الدفعة المقدمة للقتال في عملية “غصن الزيتون” من الكوادر المدربة بشكل جيد والمحضَّرة لمثل هذه المهام، وهو ما تجلى حتى في القوات التُّركية عبر سحب جنودها من الجبهات مع حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا، وإشراكهم في هذا القتال على الجغرافيا الوعرة، التي لولا الطائرات لكنا نشهد قتالاً حتى الآن على الحدود بين الطرفين.

مع قرب انتهاء عملية تركيا في عفرين، وتهجيرها لمئات آلاف المدنيين من قراهم وبلداتهم ومدنهم في عفرين، ونهبها لكلّ ما وجدته في طريقها، عمدت القوات التُّركية إلى التجول بقوَّة استطلاع لأول مرة في سهل الغاب، تحت حماية الحزب الإسلامي التُّركستاني، وبحاضنة شعبية شكلها الوجود التُّركي الذي أضاف شيئاً من تراجع وتيرة القصف بعد صفقة عفرين – الغوطة الشرقية، وجرى هذا التجوال في الـ 13 من مارس من العام 2018، على تخوم مناطق سيطرة قوات نظام بشار الأسد، ليترجم السبب الرئيسي لوجود الحزب الإسلامي التُّركستاني وزرعه في هذه المنطقة منذ وقت طويل، وتحويل وجوده إلى كيبوتزات بجغرافية متصلة، تتاخم الحدود التُّركية من اللاذقية إلى ريف إدلب الغربي، فالحزب الذي دخل بتسهيلات تركية وبأوامر استخباراتية تركية أشرفت على عملية نقلهم من تركستان البعيدة، إلى سوريا، كان هو الراسم لحدود الخريطة السورية الجديدة، والمقصود هنا خريطة توزع النفوذ بين القوى العسكرية على الجغرافيا السورية، إذ تفترض الخرائط الجديدة للصراع داخل سوريا، أنّ حدود النفوذ التُّركي الجديد يبدأ من ريف جسر الشغور، بعد أن باتت المعارضة السورية جزءاً منه، فهذه المعارضة عملت على غسل أدمغة مناصريها بأنّ تركيا هي الملاذ الأخير، بعد أن “خذلتها القوى العربية والدولية”، محاولين إبعاد الشبح العثماني عن الوصول لتفكير معارضي الوجود التُّركي، الذين يتعرضون لانتهاكات مستمرة، وتعدى ذلك إلى عمليات قتل لمعارضي التدخل التُّركي والداعين لقتاله عند الحدود ومنعه من الدخول إلى سوريا، كما جرى لقياديين عرب ومحليين حتى في صفوف هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام وغيرها من التنظيمات المنتشرة على الأرض السورية، وهذا ما حول بشكل أو بآخر البندقية التُّركية وحرف مسارها عن جماجم مقاتلي هيئة تحرير الشام مستعيضة عن ذلك بحرب داخلية اختلقتها منذ الـ 20 من فبراير من العام 2018 ضمن حرب تهدف إلى إنهاء وجود تحرير الشام الذي يملك قوَّة لا يستهان بها في الداخل السوري.

في نهاية هذه الدراسة المطولة لوجود التنظيمين وتاريخهما، وأسباب دخولهما إلى سوريا، يمكننا العبور بكلّ سلاسة إلى خلاصة القول أنّ الحزب الإسلامي التُّركستاني – الذي ترك أرضه “المحتلة من الشيوعيين”، تحت أنظار الروس والعثمانيين الجدد، بمساعدة مباشرة من منظمة الذِّئاب الرَّمادية التي كان طالب أعضاء في مجلس الدوما الروسي بحظر الأخيرة في العام 2015، والذي تبعها تحرك للذئاب الرَّمادية في اتجاه مغاير يغضب الروس عبر إيجاد مكان لها في شبه جزيرة القرم – إنما جاء ليرسم الحدود العثمانية الجديدة، في الداخل السوري، مع الإبقاء على تبعية تركستان الشرقية، المعنوية والفكرية لتركيا، فانتشال التُّركستان من براثن التنظيمات الأقدم منها زمناً في سوريا، كان محل تقدير من هذا الحزب لمنظمة الذِّئاب الرَّمادية والسلطات التُّركية، التي تجد في نفسها قائد العالم السني الإسلامي، والذي بادل المنظمة وتركيا ككل، بتقديم خدمة هي تحقيق هدف تركيا في سوريا، ألا وهو فرض نفوذ تركي طويل الأمد، كانت الخطوتان الأوليتان هما دخول التُّركستان ونقلهم من بلادهم “المغتصبة” لأرض اغتصبوها عنوة بذريعة دينية، ليتحقق الهدف الرئيسي القومي التُّركي، ألا وهو الامتداد العثماني تحت مظلة القوميَّة التُّركية، وهذا ما سيتوضح في قابل الأيام، إذ أن الإجبار الدولي لتركيا على إيجاد مخرج لمقاتلي التنظيمات الجهادية، سيضع تركيا في زاوية واحدة، أخرجت تركيا نفسها بدهاء منها، عبر إيجاد مسرب يمكن التُّركستان من الانضمام إلى قوات الذِّئاب الرَّمادية أو البقاء كقوَّة تركية رسمية تحت مسمى آخر، بعد أن عابت تركيا على خصومها الكرد في حزب الاتحاد الديمقراطي تغيير مسمياتهم والنهل من منبع فكري واحد، فنراها تحذو الحذو ذاته محلّلة لنفسها ومحرمة على غيرها ذلك، فبلاد رجب طيب أردوغان لا تتسع لرجلين وعليه في أسرع وقت إزاحة أتاتورك كرمز تاريخي قبل المئة عام التي أنهت ما ينسب نفسه اليوم إليهم، وأن يذكر مناصريه بدورهم ليفتح الأفق التُّركي على المطامع الإقليمية لأنّ أوربا لن تسمح له بالامتداد الرسمي نحوها، ما دفعه لخلق البديل وهو منظمات غير رسمية تعيش في كنف الحكومات المتعاقبة وتؤدي وظائفها، إلا إذا كان الغرب يهدف لخلق أتاتورك جديد، يُطاح به لاحقاً، إطاحة تقصم ظهر الأتراك الذين استقوا من التجارب العربية، منهجية جديدة في الرئاسة الدائمة، لحفظ كل شيء تحت كنف السلطة الواحدة الممتدة إلى نهاية زعيمها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى