
إسرائيل وتركيا وتداعيات ملء الفراغ في سوريا والمنطقة
أسفرت كلٌّ من أحداث 7 أكتوبر 2023 و8 ديسمبر 2024 عن تبدلات عميقة في خارطة توزع النفوذ، وأيضاً في منحى ومنهج القوى الإقليمية والدولية وسبل تناولها ومعالجتها للملفات الساخنة والطارئة في الشرق الأوسط.
فقدت إيران مناطق نفوذها في فلسطين وجنوب لبنان وسوريا، وكذلك خرجت الجغرافيا السورية من يد روسيا بشكل سريع وغير مفهوم، وتركت هاتان القوتان فراغاً كبيراً في سوريا بعد الإطاحة بالأسد وبروز هيئة تحرير الشام كسلطة الأمر الواقع في دمشق. يبدو أن شكلاً جديداً من العلاقات قد بدأ، وتدل المؤشرات إلى أدوار مهمة ومتباينة ومتعاكسة ستلعبها كل من تركيا وإسرائيل في المنطقة، بالتزامن مع بروز دور القوى الغربية بشكل لافت، وغياب معتاد للاستراتيجية العربية الواضحة، ويبقى التساؤل الآن عن تداعيات ملء هذا الفراغ وما سيترتب عليها من تنافس بين هذه القوى والذي قد يصل إلى حد الصراع.
ذهبت تخمينات كثيرة إلى افتراض أنّ تركيا هي المستفيدة بالدرجة القصوى من سقوط الأسد ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق، مستندة إلى زيارة كل من إبراهيم كالن وهاكان فيدان لدمشق على وجه السرعة من أجل اقتناص الفرصة لتوسيع دائرة النفوذ، مع طرح مشاريع جريئة وحماسية ومتسرعة في بناء القواعد العسكرية، البريّة والبحرية، وتحديد الحدود البحرية مع الحكومة المؤقتة التي لا تملك هذا القدر من الصلاحيات في دمشق. ضَعُف هذا التخمين إثر الزيارات الأولى التي قام بها وفد “حكومة هيئة التحرير” إلى عواصم عربية، وتأخير الزيارة إلى تركيا لأجل غير مسمى، الأمر الذي يعكس رغبة دمشق في إتاحة المجال أمام القوى العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية في أن تكون حاضرة بقوة أكثر أمام الاندفاع التركي لنيل المواقع المتقدمة وملء الفراغ في الساحة السورية.
ثمة اعتقاد بأنّ الهيئة مدينة لإسرائيل في الوصول إلى دمشق من خلال عملياتها العسكرية التي استهدفت حزب الله والنفوذ الإيراني وقوضت العوامل التي حافظت على بقاء الأسد طيلة فترة الأزمة السورية؛ هذا إن لم يكن لها يدٌ مباشرة في ذلك من خلال عمليات استخباراتية معقدة متعددة الأقطاب استناداً إلى التخاذل الروسي الواضح في الدفاع عن النظام السوري وتفادي سقوطه. ولملء الفراغ، تحسباً، تقدمت إسرائيل من دون تردد إلى مواقع متقدمة في الجولان ومرتفعات الحرمون، وتسعى الآن إلى الاحتفاظ بمنطقة نفوذ بعمق يصل إلى 60 كم على طول حدودها مع سوريا، كما قامت بتدمير الأسلحة الاستراتيجية السورية لضمان عدم وقوعها بأيدي الجماعات التي استلمت الإدارة الجديدة في دمشق، لعدم ثقتها بما يفكر به هؤلاء الجهاديون حالياً ومستقبلاً.
تحسن موقع كل من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في الملف السوري بشكل واضح، وتحوّلت مهام بقاء التحالف الدولي في سوريا من التصدي لـ”داعش” إلى إدارة الملف السوري بشكل واضح المعالم مع فرض وجهات نظر لا يمكن لدمشق تجاهلها، نظراً لرغبة الهيئة في رفع العقوبات الأوروبية والأمريكية عن سوريا، وإزالة اسم الشرع والهيئة من قوائم الإرهاب الدولية.
لا يمكن التعويل على الخمول العربي، وانغلاق الدول العربية ضمن حدودها السياسية، وسياسات التأثير عن بعد عبر المال السياسي والضخ الإعلامي، في إيجاد حاجز حقيقي للتصدي للتغول التركي، الذي تحاول أنقرة فرضه على سوريا من بوابة الترابط الطائفي مع الهيئة، وعبر مزايا الدعم المعنوي والمادي الذي قدمته تركيا طيلة سنوات الأزمة السورية للفصائل العسكرية، والتذرع بضمان سلامة أمنها القومي. حيث ستدعي أنقرة وبدعم من دولة قطر أنها صاحبة الحق الأول في سوريا؛ لا سيما إن فقدت الهيئة الأمل في أي أطروحات عربية استراتيجية للقيام بدور ملهم وتاريخي.
إن الوجود التركي في الجغرافيا السورية وتمكين قوة إسلامية سنيّة في دمشق، يثير مخاوف تل أبيب، بالإضافة إلى الثغرة الحاصلة بسقوط الأسد ونظامه الذي كان يشكل حاجزاً يمنع التّماس المباشر ما بين إسرائيل وتركيا في المنطقة. ولعل إدراك أردوغان لهذه الحقيقة مؤخراً، فضلاً عن خوفه من أن يحين الدور على النظام التركي بعد سقوط النظام السوري والإيراني كأحجار الدومينو في لعبة الشرق الأوسط الجديد، ولتجنب حصول كل ذلك فعلاً، حاول التمسك بالأسد وإعادة تدوير نظامه بتطبيع العلاقات مع سوريا في صيغةٍ كان الثوريون السوريون الحقيقيون يرفضونها بشدة. ولكن، ومع سقوط الأسد، الذي حدث في لحظة غفلة الكثيرين، ومنهم أردوغان، باتت إسرائيل وتركيا جارتين متجاورتين عبر مناطق النفوذ ومناطق الانتشار والسيطرة، الأمر الذي ترتب عليه مراجعة دقيقة وشاملة من قبل تل أبيب لطبيعة علاقاتها مع أنقرة عبر “لجنة ناغل” والتي أوصت بترتيبات عاجلة وصريحة لمواجهة الخطر القادم الذي ستقوده تركيا، ليحلّ محل الخطر القديم الذي قادته إيران عبر أذرعها في المنطقة، وهو ما يضاف إلى المشهد العام منذ 7 أكتوبر 2023 ويدفع إلى الاعتقاد بأنّ إدارة عملية “الشرق الأوسط الجديد” التي يقودها نتنياهو باتت تسير في مراحل متقدمة واضحة المعالم.
من المرجح أن الإدراك التركي ومعرفة ساستهم، استخباراتيا،ً بما كان يحاك في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” هو ما دفع بهجلي وأردوغان إلى الهرولة باتجاه إمرالي منذ عدة أشهر في محاولة لإقناع السيد أوجلان في بدء مشروع سلام بهدف نزع سلاح حزب العمال الكردستاني. من الواضح أن تركيا تحاول القفز على مشكلة الكرد الحقيقية في تركيا، فهي لا تطرح الحلول الديمقراطية الحقيقية– الدستورية والقانونية- وتكتفي، بتقديم مشاريع تنموية اقتصادية في المناطق الكردية بميزانيات ضخمة في سبيل إغراء الكرد والتغاضي عن مشكلتهم الحقيقية في تركيا، والتي هي قضية أرض وشعب، وليست كونها مجرد مشكلة اقتصادية- تنموية. كلّ ذلك كان ولا يزال، على ما يبدو، محاولة لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني في وقت بات فيه التوتر مع إسرائيل قد وصل إلى حد الخروج عن السيطرة؛ وعليه فإنّ تركيا تخشى أن تنشأ علاقات وشراكات استراتيجية بين الكرد وإسرائيل، وتحاول في الوقت الضائع سد هذه الثغرة؛ إذ قال أردوغان في تصريحاته في ديار بكر بأن “أحفاد صلاح الدين الأيوبي لن يتحالفوا مع الصهاينة”. كان السيد أوجلان قد أشار في كتابه مانيفستو الحضارة الديمقراطية/ المجلد الخامس (القضية الكردية وحلّ الأمة الديمقراطية) عام 2010 إلى أن الكرد سيجدون أنفسهم في الحلف الإسرائيلي-الأمريكي بعد امتناع الدول المحتلة لكردستان، وعلى رأسها تركيا، عن تقديم الحلول الديمقراطية لقضيتهم القومية.
ظهر المتغير الجديد والحاسم والذي يدعم الفكرة السابقة، وهي محاولات إسرائيل في التقرب إلى الكرد مؤخراً، الأمر الذي يشير بوضوح إلى ملامح التنافس، وربما الصراع القادم ما بين أنقرة وتل أبيب، والذي سيشكل فيه الكرد بيضة القبان.