الطفولة السورية تستصرخ الضمائر الحية
“لا صلاح لأمّة فسدت منابت أطفالها” هكذا أبرز الفيلسوف الألماني نيتشه دور الطفولة الهامّ في بناء الأمّة والمجتمع، ولكن في سورية يبدو أنّ أطفالها خارج تقييم الإنسانية والقوانين الدولية، حيث أنّ أطفال سورية البالغ عددهم 8.4 مليون طفل، حسب تقرير صادر عن منظمة اليونيسيف في الأمم المتحدة، يعانون من آثار الحرب الجارية في سورية منذ العام 2011م.
الطفولة السوريّة هي الضحية الأولى في الأحداث السوريّة، فمع شرارة الأحداث السورية الأولى التي بدأت في درعا باعتقال عدّة أطفال “دُفعوا” ليكتبوا شعارات مناهضة للنظام السوري ليستثيروا عطف الشارع السوريّ، ومن أوائل ضحايا الحراك الشعبي في الأحداث السورية هو الطفل حمزة الخطيب الذي تحوّل فيما بعد لأيقونة عند المعارضين السوريين، فقَتْل الأطفال السوريين وأرقام ضحايا الاشتباكات والقصف بين القوى المتقاتلة غدا أمراً ينقله الإعلام بشكل يوميّ ليجذب أكبر كمّ ممكن من المشاهدين، متناسين ربما الدموع والألم الحاصل، فلن نعود في الزمن كثيراً، ففي الأمس القريب في منطقة عفرين استشهد 44 طفلاً سورياً كضحايا لقصف جيش الاحتلال التركي والفصائل الإسلامية المتحالفة معه، ولم تكن الخسارة فقط في هذا العدد من الضحايا، بل إنّهم قاموا بتهجير سكان منطقة عفرين لتستمرّ معاناتهم مع أطفالهم، وأيضاً في الغوطة الشرقية بريف دمشق، حيث استشهد 344 طفلاً سورياً كضحايا للحرب الدائرة في الغوطة الشرقية، وتم ترحيل الآلاف منهم، ليتم توطينهم في منطقة عفرين ومناطق أخرى في الشمال السوريّ.
معاناة أطفال سورية لم تقف عند خطف حياتهم وحسب، فالنزوح والتشريد واللجوء كان له حصّة الملك من أطفال سورية، فأعداد كبيرة من أطفال سورية موزّعون بين تركيا ولبنان والأردن وأوربا، هذا ناهيك عن الكثير ممن لم تحالفهم طاقاتهم وقدراتهم المادية في اجتياز حدود الوطن، الذي بات يلفظ أبناءه جماعات وفرادى نحو المجهول.
كان يخطر لنا في بداية الأحداث السورية أنّ من لجأ إلى الدول المجاورة لسوريا سيعيشون حياة آمنة مستتبّة، لكن لم يمض من الوقت الكثير حتى بدأت معاناة اللاجئين عموماً والأطفال خصوصاً، حيث أنّ نصف الأطفال اللاجئين قد عانوا من انقطاع التعليم أو تركه كلياً والالتفات إلى تأمين لقمة العيش لهم ولعوائلهم، فالدول التي فرّو إليها خوفاً من الموت الذي يتربّص بهم، منحهم لقمة عيشٍ ومسكناً مؤقتاً، ولكن سرق منهم عمراً لن يعود، فالطفولة المغتصبة في عيون أطفالٍ يقفون على أبواب الجمعيات والمنظمات التي تقدّم المعونات والإغاثات لن يسع أحداً ليداوي جراحها، أطفالٌ هربوا من الموت وأصوات المعارك ليقعوا فريسة الجوع.. فريسة الجهل، فالتعليم كحقّ بديهي من حقوق أيّ طفل في أيّ زمان ومكان، لكن الحرب ضيّقت من هامش الحياة, فاضطر غالبية أطفال سوريا أن يتركوا القلم ويهجروا المدرسة باحثين عن فرصة عمل تكسبهم مع ذويهم فرصة للحياة.
هذا حال الطفولة السورية في الخارج ولكن الداخل السوري لم يكن أقلّ قسوة من الخارج، فالأحداث الداخلية في سوريا والاشتباكات والتنظيمات والفصائل المسلّحة والجيش السوري والميليشيات التابعة والموالية له، كلّها اشتركت بشكل مباشر أو غير مباشر في تقويض الطفولة السورية، واستغلالها بشتى الاشكال من تجنيد للأطفال ممن هم دون سنّ الثامنة عشر – وهي السنّ القانونية للتجنيد بحسب المواثيق الدولية- والزجّ بهم في المعارك والأعمال القتالية وما “أشبال الخلافة” إلّا نموذج قاسٍ ومؤلم من مئات النماذج لسرقة تنظيم داعش الإرهابي للطفولة والأطفال، ولم يقتصر الضرر الحاصل على الأطفال في الساحة السورية عند العسكرة فقط، بل هناك العديد من أشكال الاستغلال للأطفال: مثل إقحامهم في عالم الجريمة والأعمال غير القانونية والاتّجار بهم، وانتشار عمالة الأطفال بشكل واضح في كلّ الجغرافية السورية، فقد لا يخلو محل -إلا ما ندر- من طفلٍ يعمل لقاء قوت يومه.
كلّ هذه المعاناة وكلّ هذا القدر من الألم وأكثر يعيشه أطفال سورية في ظلّ صمت المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، فكلّ الأصوات المنادية لحماية الأطفال والطفولة السورية وتحييدهم عن الحرب حتى الآن، هي أصوات خجولة لم تلتفت إليها القوى الفاعلة على الأرض السورية، فالسوريون اليوم بحاجة ماسة لإنقاذ أطفالهم، فهم جيل الغد وبذرة المستقبل، وإنقاذهم هو واجب إنساني يقع على عاتق الجميع، يكفي السوريين تشريداً وتهجيراً، يكفي السوريين تقتيلاً، يكفيهم حرباً، وأطفال سورية كغيرهم من أطفال العالم يستحقون الحياة ويتطلّعون لها، يستحقّون الابتسامة والسعادة، فهم من سيبني القادم، لذا فهم يستحقون ما هو أفضل.