مقالات رأي

الوعي بين المجتمع والسياسة

إنّ الوعي هو من اخترع الأنظمة السياسية، وهو من سنّ قوانينها، وشرّع لها الطرق التي تحكم من خلالها المجتمع، وذلك لضرورة بات المجتمع بأمسّ الحاجة لها، وإلا لبقي الإنسان يعيش بحسب قوانين الطبيعة التي لا سلطة فيها تعلو على سلطة الفرد، ولكن العداء للوعي بدأ عندما تحوّلت الأنظمة السياسية من سلطة للحفاظ على مصالح المجتمع إلى تسلّط على هذا المجتمع؛ أي عندما غلبت على الإنسان غريزة السيادة على تطلّعات العدالة التي أوصلته إلى السلطة بغاية تحقيقها للمجتمع.

راحت الأنظمة السياسيّة تطوّر نفسها على كافة الأصعدة السياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصادية مترفّعة عن المجتمع الذي تديره نائية بقراراتها عن التشاركيّة، مستقطبة كلّ ما يدعم تطوّرها، لتصبح هي في وادٍ والمجتمع بوادٍ آخر، لأنّ السلاح أصبح برزخاً بينهما.

فالسلطة أصبحت محتكرة العنف الوحيدة، وحجتها في ذلك أنّ الناس لا يعون مصالح الدولة فهم رعاع، وأفكارهم غوغاء، وتدخّلهم في إدارة المجتمع سيجلب كارثة له.

بذلك أصبحت الأنظمة السياسية هي صاحبة الوعي الوحيدة، وراحت تبتكر طرقاً لتجهيل الناس وإلهائهم عن التفكير.

وللحدّ من الوعي بكافة أشكاله لابدّ من الفقر الذي هو ككلب مسعور ينهش ما تصل إليه أنيابه، غايته إشباع فجعه، فالفقر هو أكبر عدو للوعي، وراحت النظُم السياسيّة تبتكر الحروب ، والضرائب، والاحتكار، وأملاك الدولة… حتى أمسى الإنسان غايته الأولى والأخيرة هي أن لا يموت جوعاً، واقتصر وعيه على ما يسدّ رمقه وضاق أفقه فأصبح أفق وعيه بمساحة معدته، لأنّه برأيي فكر الإنسان في جيبه.

محاربة الوعي في الشرق الأوسط

إنّ عصر المماليك هو عصر حروب، ونزاعات، واختلاط كبير بين القوميات من عرب وكرد وترك ومغول وتتار وأوروبيين وروس وغيرهم، وأصبح هناك أفق واسع للوعي ومساحة شاسعة للحريات، واهتمام لا بأس به من قبل السلاطين بالعلم، والمعرفة، وشتى ألوان الوعي، فأنتج هذا العصر إبداعات وفكر وثقافة وفلسفة وأدب لا يستهان بها، فكان الكاتب يقبض ثمن مؤلّفه ما وزنه ذهباً لاسيّما إبّان حكم الظاهر بيبرس.

فشيّدت المدارس، ودور العلم، والمشافي، وتعرّف الناس على ثقافات غيرهم من الأمم، وقرؤوا إنتاجات فكر الأمم الأخرى وتعلّموا لغاتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأساليبهم في الحياة ككلّ، فراحت المكتبات تذخر بنفائس المخطوطات، ومن هذه المكتبات: المكتبة الظاهرية في دمشق والقاهرة.

ولكن بدأت محاربة الوعي، وهذا الإنتاج الفكري، والحريات مع الاجتياح العثماني لبلاد الشرق الأوسط وما جاورها، ففي هذا العصر الذي امتدّ لأربعة قرون، طمس الوعي في أوحال السلطة الدينية، وأغلقت المكتبات، ولا نعلم حتى الآن مصير الكتب والمخطوطات التي تركها لنا المؤلفون، ومازالت مكتوبة بخط يدهم، فقد منعت هذه الكتب عن الناس ووئدت قبل أن تولّد وعياً ربما يتعارض مع السلطة السياسية آنذاك، وراحت حملات التشويه للعصر المملوكي تكتسح الثقافة العامة، حتى أطلق عليه: عصر الانحطاط على كافة الأصعدة، وحتى هذا اليوم يدرس العصر الملوكي في الجامعات على أنّه عصر الانحطاط قسراً متجاهلين أعلامه إلا اللهم: ابن تيميّة، وابن الجوزي لأنّهم يمثلون فكراً يخدم مصالح الساسة، ولو لم يعلِ الغرب من فكر ابن خلدون لما عرفناه.

ثم جاء الانتداب الفرنسي لملء الفراغ الذي تركته السلطة العثمانية، ليجدوا مجتمعاً خرافياً مازال يحيا في القرون الوسطى، وعيه متخلّف عن ركاب أوروبا سبعمئة عام، وللأمانة عمل الفرنسيون على النهوض بالمجتمع من خلال تأسيس الجامعات، والمدارس، والبنية التحتية بشكل عام، ولكن هيهات أن تحارب مجتمعاً -تسود عقله الخرافة- بالعلم، وتنتصر عليه بعقدين ونصف تقريباً، فالحرب العالمية وضعت أوزارها، وانسحب الفرنسيون من كثير من الدول بسبب ظروف الحرب بعد أن أشعلوا شمعة في ظلام الجهل وغياهب الرجعيات.

معلّبات الوعي المعاصرة

بدأت هذه الظاهرة في نهايات العصر العثماني، حيث وقع المجتمع في فكّ أكاذيب القوميات، واطلاعه على الثقافة الغربية عن طريق الاستعمار الأوروبي للمنطقة، وأصبح عام الدين يسافر معمّماً إلى أوروبا فيعود لابساً برنيطة، ولما له من شعبية عريضة راح يطبّق ثقافة الغرب على المجتمع، ومن هؤلاء رفاعة رافع الطهطاوي وغيره، وكلّهم يقين بأنّهم دعاة تنوير وما أدركوا بأنّ الأوروبيين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلى بعد قرون كثيرة عجفاء أنتجت تراكمية معرفية تتناسب مع الوعي الأوروبي الذي هضمها لأنها صناعة أصيلة متناسبة وعقله.

طمح هؤلاء التنويريون كما يسمّون أنفسهم إلى أن ينطلقوا مما توصل إليه غيرهم، صارفين النظر عن مستوى الوعي الاجتماعي الذي عاشوا وما زالوا يعيشونه، وأرادوا أن يهجّنوا بين حصان أصيل وتيس، فأنتجت تطلّعاتهم شخصاً يلبس ربطة عنق على جلباب وسيع.

أغفلوا مجال العمل، واهتموا بالنقل لتنبلتهم فأصبحوا كطالب غبي يدخل الامتحان فينقل ما كتبه زميله غشّاً، وعندما تناقشه: لماذا أجبت على السؤال الفلاني بهذه الإجابة يحرك رأسه ببله، ويصرف انتباهك إلى فتاة تمرّ في الرواق.

النتيجة تكون متساوية على لائحة العلامات بينهما، ولكن من منهما صاحب الوعي؟ وهل يتسنّى لهذا الطالب فرصة أخرى للغشّ من مجتهد في الامتحانات القادمة؟! ماذا سيحلّ به مستقبلاً؟ طبعاً سيفشل.

بعد أن استقلّت دول المنطقة بقرارها السياسيّ عن الاستعمار الأوروبي، وأصبحت لهذه الدول حكومات وطنية، قامت بفتح المدارس والجامعات والمراكز الثقافية أسوة بالدول الغربية للمقارنة لا أكثر ولا أقل؛ لأنّ الثقافة والعلم والسياسة التي تشكّل الوعي، أصبحت مراقبة، وتعليبها أضيق وأشدّ إغلاقاً، لأنّك لا تدرس ولا تتعلّم ولا تتثقّف إلا ما يراه النظام الحاكم مناسباً لدورك الاجتماعي المرسوم مسبقاً لك، والوعي كاللوحة الزيتية إذا تدخّلت بتعديلها يدٌ أخرى تشوّهت.

فالاشتراكية والرأسمالية هما وعي معلّب، ولكن باستيراد حكومي ونشره بطريقة القوة وتطبيقه بشكل فرديّ لأنّ هذه الافكار مستوردة من شعب لآخر لا تتناسب ووعينا الشرق أوسطي، فجلبت لنا كوارث أخطر مما جلبه التنويريون، فالاشتراكية تقوم على أسس علمانية، وتم تطبيقها على مجتمع متدين بالفطرة فأخرجت لنا ثقافة مشوّهة، كأن يلبس شخص بنطال جينز وقميص فوقهما عمامة.

الوعي في خضمّ الحِراك الشعبيّ

في عام 2011م حدثت مظاهرات في عدّة دول عربية تحوّلت أغلب هذه المظاهرات إلى حِراك عسكريّ ضدّ الأنظمة الحاكمة، أطلِق عليها الربيع العربي، وهنا أصبح الوعي المجتمعيّ وجهاً لوجه مع الواقع، ومدى مواكبته الوعي العالمي، وبدأ الميزان العالمي يزيّن ثقل عقول هذه الشعوب.

بعد ضغط من قبل الحكومات على الشعوب دام لأكثر من نصف قرن انفجر الشعب في وجه حكوماته شرّ انفجار، وهذا الانفجار هو ظاهرة صحيّة للوقوف في وجه الظلم، والجهل، ولكن لم تأخذ هذه الشعوب بعين الاعتبار انعدام الوعي الذي سبّبته ممارسات الأنظمة الحاكمة عبر نصف قرن من الزمن، لتتحوّل هذه الظاهرة الصحيّة إلى وبال على المجتمعات، ليدفع الشعب والأنظمة الحاكمة ثمناً باهظاً، وهو دماء فلذات الأكباد على مذابح الجهل بشعارات الحرية، فقد أدى الجهل المتراكم إلى انفلات، والانفلات إلى حروب، فقد أصبح كلٌّ يبحث عن حريته بحسب وعيه لها، فالسارق أرادها: ليسرق في وضح النهار من دون وازع يردعه، والقاتل أن يروي غريزته متى شاء، والداعرة أن تمارس مهنتها على الأرصفة، ورجل الدين أن يصبح نبياً، والجندي له مطلق الصلاحيات، والسياسي له الحرية في تمثيل الجميع بحسب اتجاهاته، والقاضي في أن يعدِل بحسب مزاجه.

غوغاء بتطلّعات راقية، وكلّ يمدّ أصبع الاتهام متهماً الآخر بعد الفشل الذريع لتحقيق التطلعات، يحمله أسباب فشل الحِراك الشعبيّ: العلماني يتهم المتديّن والمتديّن يتهم العلماني والمدني يتهم المقاتِل، والمقاتِل يضع حذاءه فوق الجميع، والسياسيّ صائدُ فرص.

وبعد ثمانية أعوام من الخوض في مستنقع الموت، وبدل أن تتقارب الشعارات بين المتناحرين، أصبحت متباعدة تحمل في طيّاتها الكراهيّة والطائفيّة وإلغاء الآخر، فالسؤال هنا: كم نحن غارقون في الجهالة؟! كم نحتاج إلى سفك دماء أخرى، لكي نعي بأنّه لا يمكن لأحد أن يلغي الآخر مهما كان ضعيفاً؟! فالسلاح هو أفشل الحلول والحوار الذي يشمل الجميع ويستوعب الجميع ويستقطب الجميع غائب في دهاليز اللاوعي.

فالحوار حتى ولو أدّى إلى النزاع، فهو خير من صمت يؤدي إلى المجهول، لأنّ لكلّ نزاع حلّ، ولكن ليس لكلّ مجهول مستقبل زاهر، فالمجهول غالباً ما يؤدي إلى الهلاك في غياب الوعي،
وأخيراً..

إنّ انعدام الوعي أو تدنّيه ليس مقتصراً على فكر حزب أو جماعة، كما لا يقتصر على الدين أو العلم أو السياسة أو الاقتصاد أو علم الاجتماع…

إنّ الوعي هو الكلّ الذي يحتضن كلّ تلك الأجزاء، فهناك من يحمّل التطرّف الديني المسؤولية على تدنّي مستوى الوعي بسبب أفكاره الرجعية، وهناك من يحمّل السياسة والتسلّط أسباب تدنّي الوعي، وهناك من يردّه إلى الاقتصاد ، ولكن برأيي إنّ أسباب تدنّي الوعي بشكل عام هي: الفشل في كلّ ما سبق على المستوى الديني والسياسي والاقتصادي، والسبب في الفشل هو الجهل.

إنّ الوعي الاجتماعي في مرحلة ما أنتج النظم السياسية، فهل تستطيع الأنظمة السياسة اليوم أن تنتج وعياً اجتماعياً من شأنه أن ينتشل مجتمعاً من مستنقعات الجهل إلى رياض المعرفة المعاصرة؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى